الباحث القرآني
قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِن أُصُولِنا.
فالأصْلُ الأوَّلُ: المُضِلُّ هو الشَّيْطانُ، ولَيْسَ المُضِلُّ هو اللَّهَ تَعالى. قالُوا: وإنَّما قُلْنا: إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُضِلَّ هو الشَّيْطانُ؛ لِأنَّ الشَّيْطانَ ادَّعى ذَلِكَ واللَّهُ تَعالى ما كَذَّبَهُ فِيهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩] وقَوْلُهُ: ﴿لَأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٢]، وقَوْلُهُ: ﴿لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الأعْرافِ: ١٦] وأيْضًا أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ وصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُضِلًّا لِلنّاسِ في مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ، وذَلِكَ يَمْنَعُ مِن كَوْنِ الإلَهِ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ.
والأصْلُ الثّانِي: وهو أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الإضْلالُ عِبارَةٌ عَنْ خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلالِ، وقُلْنا: لَيْسَ الإضْلالُ عِبارَةً عَنْ خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلالِ، بِدَلِيلِ أنَّ إبْلِيسَ وصَفَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ مُضِلٌّ مَعَ أنَّهُ بِالإجْماعِ لا يَقْدِرُ عَلى خَلْقِ الضَّلالِ.
والجَوابُ: أنَّ هَذا كَلامُ إبْلِيسَ فَلا يَكُونُ حُجَّةً، وأيْضًا أنَّ كَلامَ إبْلِيسَ في هَذِهِ المَسْألَةِ مُضْطَرِبٌ (p-٣٩)جِدًّا، فَتارَةً يَمِيلُ إلى القَدَرِ المَحْضِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحِجْرِ: ٣٩ ] . وأُخْرى إلى الجَبْرِ المَحْضِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ بِما أغْوَيْتَنِي﴾ [الحِجْرِ ٣٩] . وتارَةً يُظْهِرُ التَّرَدُّدَ فِيهِ حَيْثُ قالَ: ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ [القَصَصِ: ٦٣] يَعْنِي: أنَّ قَوْلَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ: نَحْنُ أُغْوِينا فَمَنِ الَّذِي أغْوانا عَنِ الدِّينِ ؟ ولا بُدَّ مِنَ انْتِهاءِ الكُلِّ بِالآخِرَةِ إلى اللَّهِ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ادَّعى أنَّهُ يُضِلُّ الخَلْقَ قالَ: ﴿ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ وهَذا يُشْعِرُ بِأنَّهُ لا حِيلَةَ لَهُ في الإضْلالِ أقْوى مِن إلْقاءِ الأمانِيِّ في قُلُوبِ الخَلْقِ، وطَلَبُ الأمانِيِّ يُورِثُ شَيْئَيْنِ؛ الحِرْصَ والأمَلَ، والحِرْصُ والأمَلُ يَسْتَلْزِمانِ أكْثَرَ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، وهُما كالأمْرَيْنِ اللّازِمَيْنِ لِجَوْهَرِ الإنْسانِ قالَ ﷺ: «”يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ ويَشِبُّ مَعَهُ اثْنانِ الحِرْصُ والأمَلُ“» . والحِرْصُ يَسْتَلْزِمُ رُكُوبَ أهْوالِ الدُّنْيا وأهْوالِ الدِّينِ، فَإنَّهُ إذا اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلى الشَّيْءِ فَقَدْ لا يَقْدِرُ عَلى تَحْصِيلِهِ إلّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وإيذاءِ الخَلْقِ، وإذا طالَ أمَلُهُ نَسِيَ الآخِرَةَ وصارَ غَرِيقًا في الدُّنْيا، فَلا يَكادُ يُقْدِمُ عَلى التَّوْبَةِ، ولا يَكادُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الوَعْظُ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ كالحِجارَةِ أوْ أشَدَّ قَسْوَةً.
ورابِعُها: قَوْلُهُ ﴿ولَآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ﴾ . البَتْكُ: القَطْعُ، وسَيْفٌ باتِكٌ: أيْ قاطِعٌ، والتَّبْتِيكُ التَّقْطِيعُ. قالَ الواحِدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: التَّبْتِيكُ هَهُنا هو قَطْعُ آذانِ البَحِيرَةِ بِإجْماعِ المُفَسِّرِينَ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَشُقُّونَ آذانَ النّاقَةِ إذا ولَدَتْ خَمْسَةَ أبْطُنٍ وجاءَ الخامِسُ ذَكَرًا، وحَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمُ الِانْتِفاعَ بِها. وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ أنَّهم يُقَطِّعُونَ آذانَ الأنْعامِ نُسُكًا في عِبادَةِ الأوْثانِ، فَهم يَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ عِبادَةٌ، مَعَ أنَّهُ في نَفْسِهِ كُفْرٌ وفِسْقٌ.
خامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ ولِلْمُفَسِّرِينَ هَهُنا قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَغْيِيرُ دِينِ اللَّهِ، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، والحَسَنِ، والضَّحّاكِ، ومُجاهِدٍ، والسُّدِّيِّ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، وفي تَقْرِيرِ هَذا القَوْلِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى فَطَرَ الخَلْقَ عَلى الإسْلامِ يَوْمَ أخْرَجَهم مِن ظَهْرِ آدَمَ كالذَّرِّ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهُ رَبُّهم وآمَنُوا بِهِ، فَمَن كَفَرَ فَقَدْ غَيَّرَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها، وهَذا مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ: «”كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، ولَكِنْ أبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِهِ“» .
والوَجْهُ الثّانِي: في تَقْرِيرِ هَذا القَوْلِ: أنَّ المُرادَ مِن تَغْيِيرِ دِينِ اللَّهِ هو تَبْدِيلُ الحَلالِ حَرامًا أوِ الحَرامِ حَلالًا.
القَوْلُ الثّانِي: حَمْلُ هَذا التَّغْيِيرِ عَلى تَغْيِيرِ أحْوالٍ كُلُّها تَتَعَلَّقُ بِالظّاهِرِ، وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: قالَ الحَسَنُ: المُرادُ ما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «”لَعَنَ اللَّهُ الواصِلاتِ والواشِماتِ“» قالَ: وذَلِكَ لِأنَّ المَرْأةَ تَتَوَصَّلُ بِهَذِهِ الأفْعالِ إلى الزِّنا.
الثّانِي: رُوِيَ عَنْ أنَسٍ، وشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وعِكْرِمَةَ، وأبِي صالِحٍ أنَّ مَعْنى تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ هَهُنا: هو الإخْصاءُ، وقَطْعُ الآذانِ، وفَقْءُ العُيُونِ؛ ولِهَذا كانَ أنَسٌ يَكْرَهُ إخْصاءَ الغَنَمِ، وكانَتِ العَرَبُ إذا بَلَغَتْ إبِلُ أحَدِهِمْ ألْفًا عَوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها.
الثّالِثُ: قالَ ابْنُ زَيْدٍ هو التَّخَنُّثُ، وأقُولُ: يَجِبُ إدْخالُ السَّحّاقاتِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا القَوْلِ؛ لِأنَّ التَّخَنُّثَ عِبارَةٌ عَنْ ذَكَرٍ يُشْبِهُ الأُنْثى، والسَّحْقَ عِبارَةٌ عَنْ أُنْثى تُشْبِهُ الذَّكَرَ.
الرّابِعُ: حَكى الزَّجّاجُ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الأنْعامَ لِيَرْكَبُوها ويَأْكُلُوها، فَحَرَّمُوها عَلى أنْفُسِهِمْ؛ كالبَحائِرِ والسَّوائِبِ والوَصائِلِ. وخَلَقَ الشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَةً لِلنّاسِ، يَنْتَفِعُونَ بِها، فَعَبَدَها المُشْرِكُونَ، فَغَيَّرُوا خَلْقَ اللَّهِ، هَذا جُمْلَةُ كَلامِ المُفَسِّرِينَ في هَذا البابِ، ويَخْطُرُ بِبالِي هَهُنا وجْهٌ آخَرُ في تَخْرِيجِ الآيَةِ عَلى سَبِيلِ المَعْنى؛ وذَلِكَ لِأنَّ دُخُولَ الضَّرَرِ والمَرَضِ في الشَّيْءِ يَكُونُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: التَّشَوُّشُ، والنُّقْصانُ، والبُطْلانُ. فادَّعى الشَّيْطانُ لَعَنَهُ اللَّهُ إلْقاءَ أكْثَرِ الخَلْقِ في مَرَضِ الدِّينِ، وضَرَرُ الدِّينِ هو (p-٤٠)قَوْلُهُ: ﴿ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ ثُمَّ إنَّ هَذا المَرَضَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عَلى أحَدِ الأوْجُهِ الثَّلاثَةِ الَّتِي ذَكَرْناها، وهي التَّشَوُّشُ والنُّقْصانُ والبُطْلانُ، فَأمّا التَّشَوُّشُ فالإشارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾؛ وذَلِكَ لِأنَّ صاحِبَ الأمانِيِّ يَشْغَلُ عَقْلَهُ وفِكْرَهُ في اسْتِخْراجِ المَعانِي الدَّقِيقَةِ، والحِيَلِ والوَسائِلِ اللَّطِيفَةِ في تَحْصِيلِ المَطالِبِ الشَّهْوانِيَّةِ والغَضَبِيَّةِ، فَهَذا مَرَضٌ رُوحانِيٌّ مِن جِنْسِ التَّشَوُّشِ، وأمّا النُّقْصانُ فالإشارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ﴾؛ وذَلِكَ لِأنَّ بَتْكَ الآذانِ نَوْعُ نُقْصانٍ؛ وهَذا لِأنَّ الإنْسانَ إذا صارَ مُسْتَغْرِقَ العَقْلِ في طَلَبِ الدُّنْيا صارَ فاتِرَ الرَّأْيِ ضَعِيفَ الحَزْمِ في طَلَبِ الآخِرَةِ، وأمّا البُطْلانُ فالإشارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾؛ وذَلِكَ لِأنَّ التَّغْيِيرَ يُوجِبُ بُطْلانَ الصِّفَةِ الحاصِلَةِ في المُدَّةِ الأُولى، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ مَن بَقِيَ مُواظِبًا عَلى طَلَبِ اللَّذّاتِ العاجِلَةِ مُعْرِضًا عَنِ السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ فَلا يَزالُ يَزِيدُ في قَلْبِهِ الرَّغْبَةُ في الدُّنْيا والنُّفْرَةُ عَنِ الآخِرَةِ، ولا تَزالُ تَتَزايَدُ هَذِهِ الأحْوالُ إلى أنْ يَتَغَيَّرَ القَلْبُ بِالكُلِّيَّةِ فَلا يَخْطُرُ بِبالِهِ ذِكْرُ الآخِرَةِ البَتَّةَ، ولا يَزُولُ عَنْ خاطِرِهِ حُبُّ الدُّنْيا البَتَّةَ، فَتَكُونُ حَرَكَتُهُ وسُكُونُهُ، وقَوْلُهُ وفِعْلُهُ لِأجْلِ الدُّنْيا، وذَلِكَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الخِلْقَةِ؛ لِأنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ إنَّما دَخَلَتْ في هَذا العالَمِ الجُسْمانِيِّ عَلى سَبِيلِ السَّفَرِ، وهي مُتَوَجِّهَةٌ إلى عالَمِ القِيامَةِ، فَإذا نَسِيَتْ مَعادَها، وألِفَتْ هَذِهِ المَحْسُوساتِ الَّتِي لا بُدَّ مِنَ انْقِضائِها وفَنائِها كانَ هَذا بِالحَقِيقَةِ تَغْيِيرًا لِلْخِلْقَةِ، وهو كَما قالَ تَعالى: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحَشْرِ: ١٩] وقالَ: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ [الحَجِّ: ٤٦] .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ الشَّيْطانِ دَعاوِيَهِ في الإغْواءِ والضَّلالِ حَذَّرَ النّاسَ عَنْ مُتابَعَتِهِ، فَقالَ: ﴿ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ . واعْلَمْ أنَّ أحَدًا لا يَخْتارُ أنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ، ولَكِنَّ المَعْنى أنَّهُ إذا فَعَلَ ما أمَرَهُ الشَّيْطانُ بِهِ، وتَرَكَ ما أمَرَهُ الرَّحْمَنُ بِهِ صارَ كَأنَّهُ اتَّخَذَ الشَّيْطانَ ولِيًّا لِنَفْسِهِ، وتَرَكَ وِلايَةَ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما قالَ: ﴿خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾؛ لِأنَّ طاعَةَ اللَّهِ تُفِيدُ المَنافِعَ العَظِيمَةَ الدّائِمَةَ الخالِصَةَ عَنْ شَوائِبِ الضَّرَرِ، وطاعَةَ الشَّيْطانِ تُفِيدُ المَنافِعَ الثَّلاثَةَ المُنْقَطِعَةَ المَشُوبَةَ بِالغُمُومِ والأحْزانِ والآلامِ الغالِبَةِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما مُحالٌ عَقْلًا، فَمَن رَغِبَ في وِلايَتِهِ فَقَدْ فاتَهُ أشْرَفُ المَطالِبِ وأجَلُّها بِسَبَبِ أخَسِّ المَطالِبِ وأدْوَنِها، ولا شَكَّ أنَّ هَذا هو الخَسارُ المُطْلَقُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ . واعْلَمْ أنّا بَيَّنّا في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّ عُمْدَةَ أمْرِ الشَّيْطانِ إنَّما هو بِإلْقاءِ الأمانِيِّ في القَلْبِ، وأمّا تَبْتِيكُ الآذانِ وتَغْيِيرُ الخِلْقَةِ فَذاكَ مِن نَتائِجِ إلْقاءِ الأمانِيِّ في القَلْبِ، ومِن آثارِهِ، فَلا جَرَمَ نَبَّهَ اللَّهُ تَعالى عَلى ما هو العُمْدَةُ في دَفْعِ تِلْكَ الأمانِيِّ، وهو أنَّ تِلْكَ الأمانِيَّ لا تُفِيدُ إلّا الغُرُورَ، والغُرُورُ: هو أنْ يَظُنَّ الإنْسانُ بِالشَّيْءِ أنَّهُ نافِعٌ ولَذِيذٌ، ثُمَّ يَتَبَيَّنَ اشْتِمالُهُ عَلى أعْظَمِ الآلامِ والمَضارِّ، وجَمِيعُ أحْوالِ الدُّنْيا كَذَلِكَ، والعاقِلُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ لا يَلْتَفِتَ إلى شَيْءٍ مِنها، ومِثالُ هَذا أنَّ الشَّيْطانَ يُلْقِي في قَلْبِ الإنْسانِ أنَّهُ سَيَطُولُ عُمُرُهُ، ويَنالُ مِنَ الدُّنْيا أمَلَهُ ومَقْصُودَهُ، ويَسْتَوْلِي عَلى أعْدائِهِ، ويَقَعُ في قَلْبِهِ أنَّ الدُّنْيا دُوَلٌ، فَرُبَّما تَيَسَّرَتْ لَهُ كَما تَيَسَّرَتْ لِغَيْرِهِ، إلّا أنَّ كُلَّ ذَلِكَ غُرُورٌ فَإنَّهُ رُبَّما لَمْ يَطُلْ عُمُرُهُ، وإنْ طالَ فَرُبَّما لَمْ يَجِدْ مَطْلُوبَهُ، وإنْ طالَ عُمُرُهُ ووَجَدَ مَطْلُوبَهُ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عِنْدَ المَوْتِ في أعْظَمِ أنْواعِ الغَمِّ والحَسْرَةِ؛ فَإنَّ المَطْلُوبَ كُلَّما كانَ ألَذَّ وأشْهى، وكانَ الإلْفُ مَعَهُ أدْوَمَ وأبْقى كانَتْ مُفارَقَتُهُ أشَدَّ إيلامًا، وأعْظَمَ تَأْثِيرًا في حُصُولِ الغَمِّ والحَسْرَةِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُنَبِّهَةٌ عَلى ما هو العُمْدَةُ والقاعِدَةُ في هَذا البابِ.
(p-٤١)وفِي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ الشَّيْطانَ يَعِدُهم بِأنَّهُ لا قِيامَةَ ولا جَزاءَ فاجْتَهَدُوا في اسْتِيفاءِ اللَّذّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ واعْلَمْ أنّا ذَكَرْنا أنَّ الغُرُورَ عِبارَةٌ عَنِ الحالَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْإنْسانِ عِنْدَ وِجْدانِ ما يُسْتَحْسَنُ ظاهِرُهُ إلّا أنَّهُ يَعْظُمُ تَأذِّيهِ عِنْدَ انْكِشافِ الحالِ فِيهِ، والِاسْتِغْراقُ في طَيِّباتِ الدُّنْيا، والِانْهِماكُ في مَعاصِي اللَّهِ سُبْحانَهُ وإنْ كانَ في الحالِ لَذِيذًا إلّا أنَّ عاقِبَتَهُ عَذابُ جَهَنَّمَ، وسُخْطُ اللَّهِ، والبُعْدُ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَكانَ هَذا المَعْنى مِمّا يُقَوِّي ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن أنَّهُ لَيْسَ إلّا الغُرُورُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصًا﴾ المَحِيصُ: المَعْدِلُ والمَفَرُّ.
قالَ الواحِدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذِهِ الآيَةُ تَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لا بُدَّ لَهم مِن وُرُودِها.
الثّانِي: التَّخْلِيدُ الَّذِي هو نَصِيبُ الكُفّارِ، وهَذا غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا يَجِدُونَ﴾ عائِدٌ إلى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم، وهُمُ الَّذِينَ قالَ الشَّيْطانُ: لَأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. والأظْهَرُ أنَّ الَّذِي يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّيْطانِ هُمُ الكُفّارُ.
ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ الوَعِيدَ أرْدَفَهُ بِالوَعْدِ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى في أكْثَرِ آياتِ الوَعْدِ ذَكَرَ: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ ولَوْ كانَ الخُلُودُ يُفِيدُ التَّأْبِيدَ والدَّوامَ لَلَزِمَ التَّكْرارُ وهو خِلافُ الأصْلِ، فَعَلِمْنا أنَّ الخُلُودَ عِبارَةٌ عَنْ طُولِ المُكْثِ لا عَنِ الدَّوامِ، وأمّا في آياتِ الوَعِيدِ فَإنَّهُ يَذْكُرُ الخُلُودَ ولَمْ يَذْكُرِ التَّأْبِيدَ إلّا في حَقِّ الكُفّارِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ عِقابَ الفُسّاقِ مُنْقَطِعٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: هُما مَصْدَرانِ:
الأوَّلُ: مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، كَأنَّهُ قالَ: وعَدَ وعْدًا، و”حَقًّا“ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، أيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ وهو تَوْكِيدٌ ثالِثٌ بَلِيغٌ.
وفائِدَةُ هَذِهِ التَّوْكِيداتِ مُعارَضَةُ ما ذَكَرَهُ الشَّيْطانُ لِأتْباعِهِ مِنَ المَواعِيدِ الكاذِبَةِ والأمانِيِّ الباطِلَةِ، والتَّنْبِيهُ عَلى أنَّ وعْدَ اللَّهِ أوْلى بِالقَبُولِ وأحَقُّ بِالتَّصْدِيقِ مِن قَوْلِ الشَّيْطانِ الَّذِي لَيْسَ أحَدٌ أكْذَبَ مِنهُ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) بِإشْمامِ الصّادِ الزّايَ، وكَذَلِكَ كَلُّ صادٍ ساكِنَةٍ بَعْدَها دالٌ في القُرْآنِ، نَحْوَ: (قَصْدُ السَّبِيلِ) [النَّحْلِ: ٩] (فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحِجْرِ: ٩٤] والقِيلُ: مَصْدَرُ قالَ قَوْلًا وقِيلًا، وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: فالقِيلُ والقالُ: اسْمانِ لا مَصْدَرانِ.
{"ayahs_start":119,"ayahs":["وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّیَنَّهُمۡ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَّخِذِ ٱلشَّیۡطَـٰنَ وَلِیࣰّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانࣰا مُّبِینࣰا","یَعِدُهُمۡ وَیُمَنِّیهِمۡۖ وَمَا یَعِدُهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا یَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِیصࣰا","وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق