الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وقالَ لَأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ ﴿ولَأُضِلَّنَّهم ولَأُمَنِّيَنَّهم ولَآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ ﴿أُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ ولا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصًا﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُكَرَّرَةٌ في هَذِهِ السُّورَةِ، وفي تَكْرارِها فائِدَتانِ: الأُولى: أنَّ عُمُوماتِ الوَعِيدِ وعُمُوماتِ (p-٣٧)الوَعْدِ مُتَعارِضَةٌ في القُرْآنِ، وأنَّهُ تَعالى ما أعادَ آيَةً مِن آياتِ الوَعِيدِ بِلَفْظٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وقَدْ أعادَ هَذِهِ الآيَةَ الدّالَّةَ عَلى العَفْوِ والمَغْفِرَةِ بِلَفْظٍ واحِدٍ في سُورَةٍ واحِدَةٍ، وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لا فائِدَةَ في التَّكْرِيرِ إلّا التَّأْكِيدُ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى خَصَّ جانِبَ الوَعْدِ والرَّحْمَةِ بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الوَعْدِ عَلى الوَعِيدِ. والفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الآياتِ المُتَقَدِّمَةَ إنَّما نَزَلَتْ في سارِقِ الدِّرْعِ، وقَوْلَهُ: ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ﴾ إلى آخِرِ الآياتِ، إنَّما نَزَلَتْ في ارْتِدادِهِ، فَهَذِهِ الآيَةُ إنَّما يَحْسُنُ اتِّصالُها بِما قَبْلَها لَوْ كانَ المُرادُ أنَّ ذَلِكَ السّارِقَ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، ولَكِنَّهُ لَمّا ارْتَدَّ وأشْرَكَ بِاللَّهِ صارَ مَحْرُومًا قَطْعًا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إنَّهُ أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ شَرَحَ أنَّ أمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَقالَ: ﴿ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ يَعْنِي: ومَن لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ لَمْ يَكُنْ ضَلالُهُ بَعِيدًا، فَلا جَرَمَ لا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وهَذِهِ المُناسَباتُ دالَّةٌ قَطْعًا عَلى دَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ، عَلى أنَّ ما سِوى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ قَطْعًا، سَواءٌ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ أوْ لَمْ تَحْصُلْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ كَوْنَ الشِّرْكِ ضَلالًا بَعِيدًا فَقالَ: ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ ”إنْ“ هَهُنا مَعْناهُ: النَّفْيُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النِّساءِ: ١٥٩] . و(يَدْعُونَ) بِمَعْنى يَعْبُدُونَ؛ لِأنَّ مَن عَبَدَ شَيْئًا فَإنَّهُ يَدْعُوهُ عِنْدَ احْتِياجِهِ إلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا إناثًا﴾ فِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ هو الأوْثانُ، وكانُوا يُسَمُّونَها باسْمِ الإناثِ كَقَوْلِهِمْ: اللّاتُ والعُزّى ومَناةُ الثّالِثَةُ الأُخْرى، واللّاتُ: تَأْنِيثُ اللَّهِ، والعُزّى: تَأْنِيثُ العَزِيزِ. قالَ الحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِن أحْياءِ العَرَبِ إلّا ولَهم صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ ويُسَمُّونَهُ أُنْثى بَنِي فُلانٍ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ قِراءَةُ عائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-: إلّا أوْثانًا، وقِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ: إلّا أُثْنًا، جَمْعُ وثَنٍ، مِثْلَ أسَدٍ وأُسْدٍ، ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنَ الواوِ المَضْمُومَةِ هَمْزَةً نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿وإذا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ [المُرْسَلاتِ: ١١] . قالَ الزَّجّاجُ: وجائِزٌ أنْ يَكُونَ أُثُنٌ أصْلُها أُثْنٌ، فَأتْبَعَتِ الضَّمَّةُ الضَّمَّةَ. القَوْلُ الثّانِي: قَوْلُهُ ﴿إلّا إناثًا﴾ أيْ: إلّا أمْواتًا، وفي تَسْمِيَةِ الأمْواتِ إناثًا وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الإخْبارَ عَنِ المَواتِ يَكُونُ عَلى صِيغَةِ الإخْبارِ عَنِ الأُنْثى، تَقُولُ: هَذِهِ الأحْجارُ تُعْجِبُنِي: كَما تَقُولُ: هَذِهِ المَرْأةُ تُعْجِبُنِي. الثّانِي: أنَّ الأُنْثى أخَسُّ مِنَ الذَّكَرِ، والمَيِّتُ أخَسُّ مِنَ الحَيِّ، فَلِهَذِهِ المُناسَبَةِ أطْلَقُوا اسْمَ الأُنْثى عَلى الجَماداتِ المَواتِ. القَوْلُ الثّالِثُ: أنْ بَعْضَهم كانَ يَعْبُدُ المَلائِكَةَ، وكانُوا يَقُولُونَ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثى﴾ [النَّجْمِ: ٢٧] . والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ هَلْ إنْسانٌ أجْهَلُ مِمَّنْ أشْرَكَ خالِقَ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما جَمادًا يُسَمِّيهِ بِالأُنْثى ؟ . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: كانَ في كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأوْثانِ شَيْطانٌ يَتَراءى لِلسَّدَنَةِ يُكَلِّمُهم، وقالَ الزَّجّاجُ: المُرادُ بِالشَّيْطانِ هَهُنا إبْلِيسُ بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وقالَ لَأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ ولا شَكَّ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو إبْلِيسُ، ولا يَبْعُدُ أنَّ الَّذِي تَراءى لِلسَّدَنَةِ هو إبْلِيسُ، وأمّا المَرِيدُ فَهو المُبالِغُ في العِصْيانِ الكامِلِ في البُعْدِ مِنَ الطّاعَةِ، ويُقالُ لَهُ: مارِدٌ ومَرِيدٌ، قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ: حائِطٌ مُمَرَّدٌ أيْ: مُمَلَّسٌ، ويُقالُ: شَجَرَةٌ مَرْداءُ إذا تَناثَرَ ورَقُها، والَّذِي لَمْ تَنْبُتْ لَهُ لِحْيَةٌ يُقالُ لَهُ: أمْرَدٌ لِكَوْنِ مَوْضِعِ اللِّحْيَةِ أمْلَسَ، فَمَن كانَ شَدِيدَ البُعْدِ عَنِ الطّاعَةِ يُقالُ لَهُ: مَرِيدٌ ومارِدٌ؛ لِأنَّهُ مُمَلَّسٌ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ، لَمْ يَلْتَصِقْ بِهِ مِن هَذِهِ الطّاعَةِ شَيْءٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب