الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ أحَدَ الأُمُورِ الَّتِي يَحْتاجُ المُجاهِدُ إلَيْها مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ أداءِ الصَّلاةِ في زَمانِ الخَوْفِ، والِاشْتِغالِ بِمُحارَبَةِ العَدُوِّ؛ فَلِهَذا المَعْنى ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ، وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: يُقالُ قَصَرَ فُلانٌ صَلاتَهُ وأقْصَرَها وقَصَّرَها، كُلُّ ذَلِكَ جائِزٌ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: تَقْصُرُوا مِن أقْصَرَ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: مِن قَصَرَ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى اللُّغاتِ الثَّلاثِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ لَفْظَ القَصْرِ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا في أنَّ المُرادَ هو القَصْرُ في كَمِّيَّةِ الرَّكَعاتِ وعَدَدِها أوْ في كَيْفِيَّةِ أدائِها، فَلا جَرَمَ حَصَلَ في الآيَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ أنَّ المُرادَ مِنهُ القَصْرُ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ، ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ اخْتَلَفُوا أيْضًا عَلى قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ صَلاةُ المُسافِرِ، وهو أنَّ كُلَّ صَلاةٍ تَكُونُ في الحَضَرِ أرْبَعُ رَكَعاتٍ، فَإنَّها تَصِيرُ في السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، فَعَلى هَذا القَصْرِ إنَّما يَدْخُلُ في صَلاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ والعِشاءِ، أمّا المَغْرِبُ والصُّبْحُ، فَلا يَدْخُلُ فِيهِما القَصْرُ. الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ صَلاةَ السَّفَرِ، بَلْ صَلاةُ الخَوْفِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وجَماعَةٍ، «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَرَضَ اللَّهُ صَلاةَ الحَضَرِ أرْبَعًا، وصَلاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وصَلاةَ الخَوْفِ رَكْعَةً عَلى لِسانِ نَبِيِّكم مُحَمَّدٍ» ﷺ، فَهَذانِ القَوْلانِ مُتَفَرِّعانِ عَلى ما إذا قُلْنا: المُرادُ مِنَ القَصْرِ تَقْلِيلُ الرَّكَعاتِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنَ القَصْرِ إدْخالُ التَّخْفِيفِ في كَيْفِيَّةِ أداءِ الرَّكَعاتِ، وهو أنْ يَكْتَفِيَ في الصَّلاةِ (p-١٥)بِالإيماءِ والإشارَةِ بَدَلَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وأنْ يَجُوزَ المَشْيُ في الصَّلاةِ، وأنْ تَجُوزَ الصَّلاةُ عِنْدَ تَلَطُّخِ الثَّوْبِ بِالدَّمِ، وذَلِكَ هو الصَّلاةُ الَّتِي يُؤْتى بِها حالَ شِدَّةِ التِحامِ القِتالِ، وهَذا القَوْلُ يُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وطاوُسٍ. واحْتَجَّ هَؤُلاءِ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ بِأنَّ خَوْفَ الفِتْنَةِ مِنَ العَدُوِّ لا يَزُولُ فِيما يُؤْتى بِرَكْعَتَيْنِ عَلى إتْمامِ أوْصافِهِما، وإنَّما ذَلِكَ فِيما يَشْتَدُّ فِيهِ الخَوْفُ في حالِ التِحامِ القِتالِ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ صَلاةَ المُسافِرِ إذا كانَتْ قَلِيلَةَ الرَّكَعاتِ، فَيُمْكِنُهُ أنْ يَأْتِيَ بِها عَلى وجْهٍ لا يَعْلَمُ خَصْمُهُ بِكَوْنِهِ مُصَلِّيًا، أمّا إذا كَثُرَتِ الرَّكَعاتُ طالَتِ المُدَّةُ ولا يُمْكِنُهُ أنْ يَأْتِيَ بِها عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ العَدُوِّ. واعْلَمْ أنَّ وجْهَ الِاحْتِمالِ ما ذَكَرْنا، وهو أنَّ القَصْرَ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، والتَّخْفِيفُ كَما يَحْصُلُ بِحَذْفِ بَعْضِ الرَّكَعاتِ فَكَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأنْ يُجْعَلَ الإيماءُ والإشارَةُ قائِمًا مُقامَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. واعْلَمْ أنَّ حَمْلَ لَفْظِ القَصْرِ عَلى إسْقاطِ بَعْضِ الرَّكَعاتِ أوْلى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: ما رُوِيَ «عَنْ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ أنَّهُ قالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، كَيْفَ نَقْصُرُ وقَدْ أمِنّا، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ﴾ ؟ فَقالَ: عَجِبْتُ مِمّا عَجِبْتَ مِنهُ، فَسَألْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: ”صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ“» وهَذا يَدُلُّ عَلى القَصْرِ المَذْكُورِ في الآيَةِ هو القَصْرُ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ، وأنَّ ذَلِكَ كانَ مَفْهُومًا عِنْدَهم مِن مَعْنى الآيَةِ. الثّانِي: أنَّ القَصْرَ عِبارَةٌ عَنْ أنْ يُؤْتى بِبَعْضِ الشَّيْءِ، ويُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَأمّا أنْ يُؤْتى بِشَيْءٍ آخَرَ، فَذَلِكَ لا يُسَمّى قَصْرًا، ولا اقْتِصارًا، ومَعْلُومٌ أنَّ إقامَةَ الإيماءِ مُقامَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وتَجْوِيزَ المَشْيِ في الصَّلاةِ، وتَجْوِيزَ الصَّلاةِ مَعَ الثَّوْبِ المُلَطَّخِ بِالدَّمِ، لَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ قَصْرًا، بَلْ كُلُّها إثْباتٌ لِأحْكامٍ جَدِيدَةٍ وإقامَةٌ لِشَيْءٍ مُقامَ شَيْءٍ آخَرَ، فَكانَ تَفْسِيرُ القَصْرِ بِما ذَكَرْنا أوْلى. الثّالِثُ: أنَّ ”مِن“ في قَوْلِهِ: (مِنَ الصَّلاةِ) لِلتَّبْعِيضِ، وذَلِكَ يُوجِبُ جَوازَ الِاقْتِصارِ عَلى بَعْضِ الصَّلاةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ تَفْسِيرَ القَصْرِ بِإسْقاطِ بَعْضِ الرَّكَعاتِ أوْلى مِن تَفْسِيرِهِ بِما ذَكَرُوهُ مِنَ الإيماءِ والإشارَةِ. الرّابِعُ: أنَّ لَفْظَ القَصْرِ كانَ مَخْصُوصًا في عُرْفِهِمْ بِنَقْصِ عَدَدِ الرَّكَعاتِ، ولِهَذا المَعْنى «لَمّا صَلّى النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، قالَ ذُو اليَدَيْنِ: أقَصُرَتِ الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ» ؟ . الخامِسُ: أنَّ القَصْرَ بِمَعْنى تَغَيُّرِ الصَّلاةِ مَذْكُورٌ في الآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، فَوَجَبَ أنَّ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ بَيانَ القَصْرِ بِمَعْنى حَذْفِ الرَّكَعاتِ؛ لِئَلّا يَلْزَمَ التَّكْرارُ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: القَصْرُ رُخْصَةٌ، فَإنْ شاءَ المُكَلَّفُ أتَمَّ، وإنْ شاءَ اكْتَفى عَلى القَصْرِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: القَصْرُ واجِبٌ، فَإنْ صَلّى المُسافِرُ أرْبَعًا ولَمْ يَقْعُدْ في الثِّنْتَيْنِ فَسَدَتْ صَلاتُهُ، وإنْ قَعَدَ بَيْنَهُما مِقْدارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلاتُهُ، واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ”﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾“ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الوُجُوبِ، فَإنَّهُ لا يُقالُ: ”فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ“ في أداءِ الصَّلاةِ الواجِبَةِ، بَلْ هَذا اللَّفْظُ إنَّما يُذْكَرُ في رَفْعِ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَأمّا إيجابُهُ عَلى التَّعْيِينِ فَهَذا اللَّفْظُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيهِ، أمّا أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ فَأجابَ عَنْهُ: بِأنَّ المُرادَ مِنَ القَصْرِ في هَذِهِ الآيَةِ لا تَقْلِيلَ الرَّكَعاتِ، بَلْ تَخْفِيفَ الأعْمالِ. واعْلَمْ أنّا بَيَّنّا بِالدَّلِيلِ أنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى ما ذَكَرَهُ، فَسَقَطَ هَذا العُذْرُ. وذَكَرَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ وجْهًا آخَرَ فِيهِ، فَقالَ: إنَّهم لَمّا ألِفُوا الإتْمامَ، فَرُبَّما كانَ يَخْطُرُ بِبالِهِمْ أنَّ عَلَيْهِمْ نُقْصانًا في القَصْرِ، فَنَفى (p-١٦)عَنْهُمُ الجُناحَ لِتَطِيبَ أنْفُسُهم بِالقَصْرِ، فَيُقالُ لَهُ: هَذا الِاحْتِمالُ إنَّما يَخْطُرُ بِبالِهِمْ إذا قالَ الشّارِعُ لَهم: رَخَّصْتُ لَكم في هَذا القَصْرِ، أمّا إذا قالَ: أوْجَبْتُ عَلَيْكم هَذا القَصْرَ، وحَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الإتْمامَ، وجَعَلْتُهُ مُفْسِدًا لِصَلاتِكم، فَهَذا الِاحْتِمالُ مِمّا لا يَخْطُرُ بِبالِ عاقِلٍ أصْلًا، فَلا يَكُونُ هَذا الكَلامُ لائِقًا بِهِ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: ما رُوِيَ «أنَّ عائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قالَتْ: اعْتَمَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ المَدِينَةِ إلى مَكَّةَ، فَلَمّا قَدِمْتُ مَكَّةَ قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ: بِأبِي أنْتَ وأُمِّي، قَصَرْتُ وأتْمَمْتُ وصُمْتُ وأفْطَرْتُ، فَقالَ: أحْسَنْتِ يا عائِشَةُ ! وما عابَ عَلَيَّ» . وكانَ عُثْمانُ يُتِمُّ ويَقْصُرُ، وما ظَهَرَ إنْكارٌ مِنَ الصَّحابَةِ عَلَيْهِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ جَمِيعَ رُخَصِ السَّفَرِ شُرِعَتْ عَلى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ، لا عَلى سَبِيلِ التَّعْيِينِ جَزْمًا فَكَذا هَهُنا، واحْتَجُّوا بِالأحادِيثِ، مِنها ما رَوى عُمَرُ أنَّهُ ﷺ قالَ فِيهِ: ”«صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» “ فَظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا خَرَجَ مُسافِرًا صَلّى رَكْعَتَيْنِ» . والجَوابُ: أنَّ هَذِهِ الأحادِيثَ تَدُلُّ عَلى كَوْنِ القَصْرِ مَشْرُوعًا وجائِزًا، إلّا أنَّ الكَلامَ في أنَّهُ هَلْ يَجُوزُ غَيْرُهُ ؟ ولَمّا دَلَّ لَفْظُ القُرْآنِ عَلى جَوازِ غَيْرِهِ كانَ القَوْلُ بِهِ أوْلى، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ بَعْضُهم: صَلاةُ السَّفَرِ رَكْعَتانِ، تَمامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، ولَمّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ أُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ. واعْلَمْ أنَّ لَفْظَ الآيَةِ يُبْطِلُ هَذا، وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِنَ القَصْرِ المَذْكُورِ في الآيَةِ تَخْفِيفُ الرَّكَعاتِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ ما ذَكَرُوهُ لَما كانَ هَذا قَصْرًا في صَلاةِ السَّفَرِ، بَلْ كانَ ذَلِكَ زِيادَةً في صَلاةِ الحَضَرِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: زَعَمَ داوُدُ وأهْلُ الظّاهِرِ أنَّ قَلِيلَ السَّفَرِ وكَثِيرَهُ سَواءٌ في جَوازِ الرُّخْصَةِ، وزَعَمَ جُمْهُورُ الفُقَهاءِ أنَّ السَّفَرَ ما لَمْ يُقَدَّرْ بِمِقْدارٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الرُّخْصَةُ. احْتَجَّ أهْلُ الظّاهِرِ بِالآيَةِ فَقالُوا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِن شَرْطٍ، وجَزاءُ الشَّرْطِ هو الضَّرْبُ في الأرْضِ، والجَزاءُ هو جَوازُ القَصْرِ، وإذا حَصَلَ الشَّرْطُ وجَبَ أنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الجَزاءُ سَواءٌ كانَ الشَّرْطُ الَّذِي هو السَّفَرُ طَوِيلًا أوْ قَصِيرًا، أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: فَهَذا يَقْتَضِي حُصُولَ الرُّخْصَةِ عِنْدَ انْتِقالِ الإنْسانِ مِن مَحَلَّةٍ إلى مَحَلَّةٍ، ومِن دارٍ إلى دارٍ، إلّا أنّا نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الِانْتِقالَ مِن مَحَلَّةٍ إلى مَحَلَّةٍ إنْ لَمْ يُسَمَّ بِأنَّهُ ضَرْبٌ في الأرْضِ، فَقَدْ زالَ الإشْكالُ، وإنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَنَقُولُ: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَهَذا تَخْصِيصٌ تَطَرَّقَ إلى هَذا النَّصِّ بِدَلالَةِ الإجْماعِ، والعامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى النَّصُّ مُعْتَبَرًا في السَّفَرِ، سَواءٌ كانَ قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ الضَّرْبَ في الأرْضِ شَرْطًا لِحُصُولِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، فَلَوْ كانَ الضَّرْبُ في الأرْضِ اسْمًا لِمُطْلَقِ الِانْتِقالِ لَكانَ ذَلِكَ حاصِلًا دائِمًا؛ لِأنَّ الإنْسانَ لا يَنْفَكُّ طُولَ عُمُرِهِ مِنَ الِانْتِقالِ مِنَ الدّارِ إلى المَسْجِدِ، ومِنَ المَسْجِدِ إلى السُّوقِ، وإذا كانَ حاصِلًا دائِمًا امْتَنَعَ جَعْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ هَذا الحُكْمِ، فَلَمّا جَعَلَ اللَّهُ الضَّرْبَ في الأرْضِ شَرْطًا لِثُبُوتِ هَذا الحُكْمِ عَلِمْنا أنَّهُ مُغايِرٌ لِمُطْلَقِ الِانْتِقالِ وذَلِكَ هو الَّذِي يُسَمّى سَفَرًا، ومَعْلُومٌ أنَّ اسْمَ السَّفَرِ واقِعٌ عَلى القَرِيبِ وعَلى البَعِيدِ، (p-١٧)فَعَلِمْنا دَلالَةَ الآيَةِ عَلى حُصُولِ الرُّخْصَةِ في مُطْلَقِ السَّفَرِ، أمّا الفُقَهاءُ فَقالُوا: أجْمَعَ السَّلَفُ عَلى أنَّ أقَلَّ السَّفَرِ مُقَدَّرٌ، قالُوا: والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ حَصَلَ في المَسْألَةِ رِواياتٌ: فالرِّوايَةُ الأُولى: ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: يَقْصُرُ في يَوْمٍ تامٍّ، وبِهِ قالَ الزُّهْرِيُّ والأوْزاعِيُّ. الثّانِيَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا زادَ عَلى يَوْمٍ ولَيْلَةٍ قَصَرَ. والثّالِثَةُ: قالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: المُعْتَبَرُ خَمْسُ فَراسِخَ. الرّابِعَةُ: قالَ الحَسَنُ: مَسِيرَةُ لَيْلَتَيْنِ. الخامِسَةُ: قالَ الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الكُوفَةِ إلى المَدايِنِ، وهي مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ. ورَوى الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ إذا سافَرَ إلى مَوْضِعٍ يَكُونُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ وأكْثَرِ اليَوْمِ الثّالِثِ جازَ القَصْرُ، وهَكَذا رَواهُ ابْنُ سَماعَةَ عَنْ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ. السّادِسَةُ: قالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: أرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ أرْبَعَةُ فَراسِخَ، كُلُّ فَرْسَخٍ ثَلاثَةُ أمْيالٍ بِأمْيالِ هاشِمٍ جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهو الَّذِي قَدَّرَ أمْيالَ البادِيَةِ كُلُّ مِيلٍ اثْنا عَشَرَ ألْفَ قَدَمٍ، وهي أرْبَعَةُ آلافِ خُطْوَةٍ، فَإنَّ كُلَّ ثَلاثَةِ أقْدامٍ خُطْوَةٌ قالَ الفُقَهاءُ: فاخْتِلافُ النّاسِ في هَذِهِ الأقْوالِ يَدُلُّ عَلى انْعِقادِ الإجْماعِ عَلى أنَّ الحُكْمَ غَيْرُ مَرْبُوطٍ بِمُطْلَقِ السَّفَرِ. قالَ أهْلُ الظّاهِرِ: اضْطِرابُ الفُقَهاءِ في هَذِهِ الأقاوِيلِ، يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يَجِدُوا في المَسْألَةِ دَلِيلًا قَوِيًّا في تَقْدِيرِ المُدَّةِ، إذْ لَوْ حَصَلَ في المَسْألَةِ دَلِيلٌ ظاهِرُ الدَّلالَةِ لَما حَصَلَ هَذا الِاضْطِرابُ، وأمّا سُكُوتُ سائِرِ الصَّحابَةِ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ المَسْألَةِ فَلَعَلَّهُ إنَّما كانَ لِأنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى ارْتِباطِ الحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَرِ، فَكانَ هَذا الحُكْمُ ثابِتًا في مُطْلَقِ السَّفَرِ بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، وإذا كانَ الحُكْمُ مَذْكُورًا في نَصِّ القُرْآنِ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حاجَةٌ إلى الِاجْتِهادِ والِاسْتِنْباطِ؛ فَلِهَذا سَكَتُوا عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ. واعْلَمْ أنَّ أصْحابَ أبِي حَنِيفَةَ عَوَّلُوا في تَقْدِيرِ المُدَّةِ بِثَلاثَةِ أيّامٍ عَلى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «يَمْسَحُ المُسافِرُ ثَلاثَةَ أيّامٍ»، وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ إذا لَمْ يَحْصُلِ المَسْحُ ثَلاثَةَ أيّامٍ أنْ لا يَكُونَ مُسافِرًا، وإذا لَمْ يَكُنْ مُسافِرًا لَمْ يَحْصُلِ الرُّخَصُ المَشْرُوعَةُ في السَّفَرِ، وأمّا أصْحابُ الشّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَإنَّهم عَوَّلُوا عَلى ما رَوى مُجاهِدٌ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: يا أهْلَ مَكَّةَ لا تَقْصُرُوا في أدْنى مِن أرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِن مَكَّةَ إلى عُسْفانَ» . قالَ أهْلُ الظّاهِرِ: الكَلامُ عَلَيْهِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ بِناءٌ عَلى تَخْصِيصِ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وهو عِنْدَنا غَيْرُ جائِزٍ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ القُرْآنَ وخَبَرَ الواحِدِ مُشْتَرِكانِ في دَلالَةِ لَفْظِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى الحُكْمِ، والقُرْآنُ مَقْطُوعُ المَتْنِ، والخَبَرُ مَظْنُونُ المَتْنِ، فَكانَ القُرْآنُ أقْوى دَلالَةً مِنَ الخَبَرِ، فَتَرْجِيحُ الضَّعِيفِ عَلى القَوِيِّ لا يَجُوزُ. والثّانِي: أنَّهُ رُوِيَ في الخَبَرِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«إذا رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِّي فاعْرِضُوهُ عَلى كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَإنْ وافَقَهُ فاقْبَلُوهُ وإنْ خالَفَهُ فَرُدُّوهُ» “، دَلَّ هَذا الخَبَرُ عَلى أنَّ كُلَّ خَبَرٍ ورَدَ عَلى مُخالَفَةِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَهو مَرْدُودٌ، فَهَذا الخَبَرُ لَمّا ورَدَ عَلى مُخالَفَةِ عُمُومِ الكِتابِ وجَبَ أنْ يَكُونَ مَرْدُودًا. الوَجْهُ الثّانِي: في دَفْعِ هَذِهِ الأخْبارِ: وهو أنَّها أخْبارُ آحادٍ ورَدَتْ في واقِعَةٍ تَعُمُّ الحاجَةُ إلى مَعْرِفَةِ حُكْمِها فَوَجَبَ كَوْنُها مَرْدُودَةً، إنَّما قُلْنا: إنَّ الحاجَةَ إلَيْها عامَّةٌ؛ لِأنَّ أكْثَرَ الصَّحابَةِ كانُوا في أكْثَرِ الأوْقاتِ في السَّفَرِ وفي الغَزْوِ، فَلَمّا كانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ مَخْصُوصَةً بِسَفَرٍ مُقَدَّرٍ، كانَتِ الحاجَةُ إلى مِقْدارِ السَّفَرِ المُفِيدِ لِلرُّخْصِ حاجَةً عامَّةً في حَقِّ المُكَلَّفِينَ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَعَرَفُوها ولَنَقْلُوها نَقْلًا مُتَواتِرًا، لا سِيَّما وهو عَلى خِلافِ ظاهِرِ القُرْآنِ، فَلَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ هَذِهِ أخْبارٌ ضَعِيفَةٌ مَرْدُودَةٌ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ (p-١٨)فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ ظاهِرِ القُرْآنِ بِسَبَبِها. الثّالِثُ: أنَّ دَلائِلَ الشّافِعِيَّةِ ودَلائِلَ الحَنَفِيَّةِ صارَتْ مُتَقابِلَةً مُتَدافِعَةً، وإذا تَعارَضَتْ تَساقَطَتْ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلى ظاهِرِ القُرْآنِ، هَذا تَمامُ الكَلامِ في هَذا المَوْضِعِ. والَّذِي عِنْدِي في هَذا البابِ أنْ يُقالَ: إنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ وكَلِمَةَ ”إنْ“ لا يُفِيدانِ إلّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَعْقِبًا لِلْجَزاءِ، فَأمّا كَوْنُهُ مُسْتَعْقِبًا لِذَلِكَ الجَزاءِ في جَمِيعِ الأوْقاتِ فَهَذا غَيْرُ لازِمٍ، بِدَلِيلِ أنَّهُ إذا قالَ لِامْرَأتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدّارَ، أوْ إذا دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وقَعَ الطَّلاقُ، وإذا دَخَلَتِ الدّارَ ثانِيًا لا يَقَعُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كَلِمَةَ ”إذا“، وكَلِمَةَ ”إنْ“ لا يُفِيدانِ في العُمُومِ البَتَّةَ، وإذا ثَبَتَ هَذا سَقَطَ اسْتِدْلالُ أهْلِ الظّاهِرِ بِالآيَةِ، فَإنَّ الآيَةَ لا تُفِيدُ إلّا أنَّ الضَّرْبَ في الأرْضِ يَسْتَعْقِبُ مَرَّةً واحِدَةً هَذِهِ الرُّخَصَ، وعِنْدَنا الأمْرُ كَذَلِكَ فِيما إذا كانَ السَّفَرُ طَوِيلًا، فَأمّا السَّفَرُ القَصِيرُ فَإنَّما يَدْخُلُ تَحْتَ الآيَةِ، لَوْ قُلْنا: إنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ لِلْعُمُومِ، ولَمّا ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ الِاسْتِدْلالُ، وإذا ثَبَتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ الدَّلائِلَ الَّتِي تَمَسَّكَ بِها المُجْتَهِدُونَ بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ واقِعَةً عَلى خِلافِ ظاهِرِ القُرْآنِ، فَكانَتْ مَقْبُولَةً صَحِيحَةً، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: زَعَمَ داوُدُ وأهْلُ الظّاهِرِ أنَّ جَوازَ القَصْرِ مَخْصُوصٌ بِحالِ الخَوْفِ. واحْتَجُّوا بِأنَّهُ تَعالى أثْبَتَ هَذا الحُكْمَ مَشْرُوطًا بِالخَوْفِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والمَشْرُوطُ بِالشَّيْءِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ جَوازُ القَصْرِ عِنْدَ الأمْنِ. قالُوا: ولا يَجُوزُ رَفْعُ هَذا الشَّرْطِ بِخَبَرٍ مِن أخْبارِ الآحادِ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ وأنَّهُ لا يَجُوزُ، ولَقَدْ صَعُبَ هَذا الكَلامُ عَلى قَوْمٍ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا مُتَكَلَّفَةً في الآيَةِ؛ لِيَتَخَلَّصُوا عَنْ هَذا الكَلامِ. وعِنْدِي أنَّهُ لَيْسَ في هَذا غُمُوضٌ، وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النِّساءِ: ٣١] أنَّ كَلِمَةَ ”إنْ“، وكَلِمَةَ ”إذا“ يُفِيدانِ أنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ يَحْصُلُ المَشْرُوطُ، ولا يُفِيدانِ أنَّ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَلْزَمُ عَدَمُ المَشْرُوطِ، واسْتَدْلَلْنا عَلى صِحَّةِ الكَلامِ بِآياتٍ كَثِيرَةٍ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: (إنْ خِفْتُمْ) يَقْتَضِي أنَّ عِنْدَ حُصُولِ الخَوْفِ تَحْصُلُ الرُّخْصَةُ، ولا يَقْتَضِي أنَّ عِنْدَ عَدَمِ الخَوْفِ لا تَحْصُلُ الرُّخْصَةُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتِ الآيَةُ ساكِتَةً عَنْ حالِ الأمْنِ بِالنَّفْيِ وبِالإثْباتِ، وإثْباتُ الرُّخْصَةِ حالَ الأمْنِ بِخَبَرِ الواحِدِ يَكُونُ إثْباتًا لِحُكْمٍ سَكَتَ عَنْهُ القُرْآنُ بِخَبَرِ الواحِدِ، وذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، إنَّما المُمْتَنِعُ إثْباتُ الحُكْمِ بِخَبَرِ الواحِدِ عَلى خِلافِ ما دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ، ونَحْنُ لا نَقُولُ بِهِ. فَإنْ قِيلَ: فَعَلى هَذا لَمّا كانَ هَذا الحُكْمُ ثابِتًا حالَ الأمْنِ وحالَ الخَوْفِ، فَما الفائِدَةُ في تَقْيِيدِهِ بِحالِ الخَوْفِ ؟ . قُلْنا: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في غالِبِ أسْفارِ النَّبِيِّ ﷺ، وأكْثَرُها لَمْ يَخْلُ عَنْ خَوْفِ العَدُوِّ، فَذَكَرَ اللَّهُ هَذا الشَّرْطَ مِن حَيْثُ إنَّهُ هو الأغْلَبُ في الوُقُوعِ، ومِنَ النّاسِ مَن أجابَ عَنْهُ بِأنَّ القَصْرَ المَذْكُورَ في الآيَةِ المُرادُ مِنهُ الِاكْتِفاءُ بِالإيماءِ والإشارَةِ بَدَلًا عَنِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. وذَلِكَ هو الصَّلاةُ حالَ شِدَّةِ الخَوْفِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ مَخْصُوصَةٌ بِحالِ الخَوْفِ، فَإنَّ وقْتَ الأمْنِ لا يَجُوزُ الإتْيانُ بِهَذِهِ الصَّلاةِ، ولا تَكُونُ مُحَرَّمَةً ولا صَحِيحَةً، واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ يُقالُ لِأهْلِ الظّاهِرِ: إنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنْ لا يَجُوزَ القَصْرُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ الخَوْفِ الحاصِلِ مِن فِتْنَةِ الكُفّارِ، وأمّا لَوْ حَصَلَ الخَوْفُ بِسَبَبٍ آخَرَ وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ القَصْرُ، فَإنِ التَزَمُوا ذَلِكَ سَلِمُوا مِنَ الطَّعْنِ، إلّا أنَّهُ بَعِيدٌ، وإنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ تَوَجَّهَ النَّقْضُ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: (p-١٩)﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ الشَّرْطَ هو هَذا الخَوْفُ المَخْصُوصُ، ولَهم أنْ يَقُولُوا: إمّا أنْ يُقالَ: حَصَلَ إجْماعُ الصَّحابَةِ والأُمَّةِ عَلى أنَّ مُطْلَقَ الخَوْفِ كافٍ، أوْ لَمْ يَحْصُلِ الإجْماعُ، فَإنْ حَصَلَ الإجْماعُ فَنَقُولُ: خالَفْنا ظاهِرَ القُرْآنِ بِدَلالَةِ الإجْماعِ، وهو دَلِيلٌ قاطِعٌ فَلَمْ تَجُزْ مُخالَفَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وإنْ لَمْ يَحْصُلِ الإجْماعُ فَقَدْ زالَ السُّؤالُ؛ لِأنّا نَلْتَزِمُ أنَّهُ لا يَجُوزُ القَصْرُ إلّا مَعَ هَذا الخَوْفِ المَخْصُوصِ، واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَفي تَفْسِيرِ هَذِهِ الفِتْنَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنُوكم عَنْ إتْمامِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ في جَمِيعِها. الثّانِي: إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَداوَتِهِمْ، والحاصِلُ أنَّ كُلَّ مِحْنَةٍ وبَلِيَّةٍ وشِدَّةٍ فَهي فِتْنَةٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ والمَعْنى: أنَّ العَداوَةَ الحاصِلَةَ بَيْنَكم وبَيْنَ الكافِرِينَ قَدِيمَةٌ، والآنَ قَدْ أظْهَرْتُمْ خِلافَهم في الدِّينِ وازْدادَتْ عَداوَتُهم، وبِسَبَبِ شِدَّةِ العَداوَةِ أقْدَمُوا عَلى مُحارَبَتِكم وقَصْدِ إتْلافِكم إنْ قَدَرُوا، فَإنْ طالَتْ صَلاتُكم فَرُبَّما وجَدُوا الفُرْصَةَ في قَتْلِكم، فَعَلى هَذا رَخَّصْتُ لَكم في قَصْرِ الصَّلاةِ، وإنَّما قالَ: (عَدُوًّا) ولَمْ يَقُلْ: أعْداءً؛ لِأنَّ العَدُوَّ يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ، قالَ تَعالى: ﴿فَإنَّهم عَدُوٌّ لِي إلّا رَبَّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٧٧] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب