الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُراغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهاجِرًا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ . (p-١٣)واعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ المانِعَ أمْرانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ لَهُ في وطَنِهِ نَوْعُ راحَةٍ ورَفاهِيَةٍ، فَيَقُولُ لَوْ فارَقْتُ الوَطَنَ وقَعْتُ في الشِّدَّةِ والمَشَقَّةِ وضِيقِ العَيْشِ، فَأجابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُراغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً﴾ يُقالُ: راغَمْتُ الرَّجُلَ إذا فَعَلْتَ ما يَكْرَهُهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، واشْتِقاقُهُ مِنَ الرَّغامِ وهو التُّرابُ، فَإنَّهم يَقُولُونَ: رَغْمَ أنْفِهِ، يُرِيدُونَ بِهِ أنَّهُ وصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الأنْفَ عُضْوٌ في غايَةِ العِزَّةِ، والتُّرابُ في غايَةِ الذِّلَّةِ، فَجَعَلُوا قَوْلَهم: رَغْمَ أنْفِهِ كِنايَةً عَنِ الذُّلِّ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المَشْهُورُ أنَّ هَذِهِ المُراغَمَةَ إنَّما حَصَلَتْ بِسَبَبِ أنَّهم فارَقُوا وخَرَجُوا عَنْ دِيارِهِمْ. وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى: ومَن يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللَّهِ إلى بَلَدٍ آخَرَ يَجِدْ في أرْضِ ذَلِكَ البَلَدِ مِنَ الخَيْرِ والنِّعْمَةِ ما يَكُونُ سَبَبًا لِرَغْمِ أنْفِ أعْدائِهِ الَّذِينَ كانُوا مَعَهُ في بَلْدَتِهِ الأصْلِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن فارَقَ وذَهَبَ إلى بَلْدَةٍ أجْنَبِيَّةٍ فَإذِ اسْتَقامَ أمْرُهُ في تِلْكَ البَلْدَةِ الأجْنَبِيَّةِ، ووَصَلَ ذَلِكَ الخَبَرُ إلى أهْلِ بَلْدَتِهِ خَجِلُوا مِن سُوءِ مُعامَلَتِهِمْ مَعَهُ، ورَغِمَتْ أُنُوفُهم بِسَبَبِ ذَلِكَ، وحَمْلُ اللَّفْظِ عَلى هَذا أقْرَبُ مِن حَمْلِهِ عَلى ما قالُوهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. والحاصِلُ كَأنَّهُ قِيلَ: يا أيُّها الإنْسانُ، إنَّكَ كُنْتَ إنَّما تَكْرَهُ الهِجْرَةَ عَنْ وطَنِكَ؛ خَوْفًا مِن أنْ تَقَعَ في المَشَقَّةِ والمِحْنَةِ في السَّفَرِ، فَلا تَخَفْ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يُعْطِيكَ مِنَ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ والمَراتِبِ العَظِيمَةِ في مُهاجَرَتِكَ ما يَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ أعْدائِكَ، ويَكُونُ سَبَبًا لِسَعَةِ عَيْشِكَ، وإنَّما قَدَّمَ في الآيَةِ ذِكْرَ رَغْمِ الأعْداءِ عَلى ذِكْرِ سَعَةِ العَيْشِ؛ لِأنَّ ابْتِهاجَ الإنْسانِ الَّذِي يُهاجِرُ عَنْ أهْلِهِ وبَلَدِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهِ بِدَوْلَتِهِ مِن حَيْثُ إنَّها تَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ الأعْداءِ، أشَدُّ مِنَ ابْتِهاجِهِ بِتِلْكَ الدَّوْلَةِ مِن حَيْثُ إنَّها صارَتْ سَبَبًا لِسَعَةِ العَيْشِ عَلَيْهِ. وأمّا المانِعُ الثّانِي مِنَ الإقْدامِ عَلى المُهاجَرَةِ فَهو أنَّ الإنْسانَ يَقُولُ: إنْ خَرَجْتُ عَنْ بَلَدِي في طَلَبِ هَذا الغَرَضِ، فَرُبَّما وصَلْتُ إلَيْهِ، ورُبَّما لَمْ أصِلْ إلَيْهِ، فالأوْلى أنْ لا أُضَيِّعَ الرَّفاهِيَةَ الحاضِرَةَ بِسَبَبِ طَلَبِ شَيْءٍ، ورُبَّما أصِلُ إلَيْهِ ورُبَّما لا أصِلُ إلَيْهِ، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهاجِرًا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ والمَعْنى ظاهِرٌ. وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ بَعْضُهم: المُرادُ مَن قَصَدَ طاعَةَ اللَّهِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ إتْمامِها، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَوابَ تَمامِ تِلْكَ الطّاعَةِ؛ كالمَرِيضِ يَعْجِزُ عَمّا كانَ يَفْعَلُهُ في حالِ صِحَّتِهِ مِنَ الطّاعَةِ، فَيُكْتَبُ لَهُ ثَوابُ ذَلِكَ العَمَلِ. هَكَذا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقالَ آخَرُونَ: ثَبَتَ لَهُ أجْرُ قَصْدِهِ وأجْرُ القَدْرِ الَّذِي أتى بِهِ مِن ذَلِكَ العَمَلِ، وأمّا أجْرُ تَمامِ العَمَلِ فَذَلِكَ مُحالٌ. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أوْلى؛ لِأنَّهُ تَعالى إنَّما ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ هَهُنا في مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ في الجِهادِ، وهو أنَّ مَن خَرَجَ إلى السَّفَرِ لِأجْلِ الرَّغْبَةِ في الهِجْرَةِ، فَقَدْ وجَدَ ثَوابَ الهِجْرَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ التَّرْغِيبَ إنَّما يَحْصُلُ بِهَذا المَعْنى، فَأمّا القَوْلُ بِأنَّ مَعْنى الآيَةِ هو أنْ يَصِلَ إلَيْهِ ثَوابُ ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ العَمَلِ، فَلا يَصْلُحُ مُرَغِّبًا؛ لِأنَّهُ قَدْ عَرَفَ أنَّ كُلَّ مَن أتى بِعَمَلٍ فَإنَّهُ يَجِدُ الثَّوابَ المُرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ العَمَلِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» “ . وأيْضًا رُوِيَ في «صَلاةِ جُنْدَبِ بْنِ ضَمْرَةَ، أنَّهُ لَمّا قَرُبَ مَوْتُهُ أخَذَ يُصَفِّقُ بِيَمِينِهِ عَلى شِمالِهِ، ويَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ لَكَ، وهَذِهِ لِرَسُولِكَ، أُبايِعُكَ عَلى ما بايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُكَ، ثُمَّ ماتَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالُوا: لَوْ تُوُفِّيَ بِالمَدِينَةِ لَكانَ خَيْرًا لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ العَمَلَ يُوجِبُ الثَّوابَ عَلى اللَّهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: (p-١٤)﴿فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قَوْلِنا مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الوُقُوعِ، وحَقِيقَةُ الوُجُوبِ هي الوُقُوعُ والسُّقُوطُ، قالَ تَعالى: ﴿فَإذا وجَبَتْ جُنُوبُها﴾ [الحَجِّ: ٣٦] أيْ: وقَعَتْ وسَقَطَتْ. وثانِيها: أنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ الأجْرِ، والأجْرُ عِبارَةٌ عَنِ المَنفَعَةِ المُسْتَحَقَّةِ، فَأمّا الَّذِي لا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فَذاكَ لا يُسَمّى أجْرًا بَلْ هِبَةً. وثالِثُها: قَوْلُهُ: (عَلى اللَّهِ) وكَلِمَةُ ”عَلى“ لِلْوُجُوبِ، قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٩٧] . والجَوابُ: أنَّنا لا نُنازِعُ في الوُجُوبِ، لَكِنْ بِحُكْمِ الوَعْدِ والعِلْمِ والتَّفَضُّلِ والكَرَمِ، لا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقاقِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَخَرَجَ عَنِ الإلَهِيَّةِ، وقَدْ ذَكَرْنا دَلائِلَهُ فِيما تَقَدَّمَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الغازِيَ إذا ماتَ في الطَّرِيقِ وجَبَ سَهْمُهُ مِنَ الغَنِيمَةِ، كَما وجَبَ أجْرُهُ. وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ لَفْظَ الآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالأجْرِ، وأيْضًا فاسْتِحْقاقُ السَّهْمِ مِنَ الغَنِيمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِحِيازَتِها، إذْ لا تَكُونُ غَنِيمَةً إلّا بَعْدَ حِيازَتِها، قالَ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنْفالِ: ٤١]، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أيْ: يَغْفِرُ ما كانَ مِنهُ مِنَ القُعُودِ إلى أنْ خَرَجَ، ويَرْحَمُهُ بِإكْمالِ أجْرِ المُجاهَدَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب