الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وإذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذا هم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿ولَوْ أنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما في الأرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ وبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ ﴿وبَدا لَهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الأعْمالِ القَبِيحَةِ لِلْمُشْرِكِينَ، وهو أنَّكَ إذا ذَكَرْتَ اللَّهَ وحْدَهُ تَقُولُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ (p-٢٤٩)وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ظَهَرَتْ آثارُ النَّفْرَةِ مِن وُجُوهِهِمْ وقُلُوبِهِمْ، وإذا ذُكِرَتِ الأصْنامُ والأوْثانُ ظَهَرَتْ آثارُ الفَرَحِ والبِشارَةِ في قُلُوبِهِمْ وصُدُورِهِمْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى الجَهْلِ والحَماقَةِ، لِأنَّ ذِكْرَ اللَّهِ رَأْسُ السَّعاداتِ وعُنْوانُ الخَيْراتِ، وأمّا ذِكْرُ الأصْنامِ الَّتِي هي الجَماداتُ الخَسِيسَةُ، فَهو رَأْسُ الجَهالاتِ والحَماقاتِ، فَنَفْرَتُهم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وحْدَهُ واسْتِبْشارُهم بِذِكْرِ هَذِهِ الأصْنامِ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى الجَهْلِ الغَلِيظِ والحُمْقِ الشَّدِيدِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقَدْ يُقابَلُ الِاسْتِبْشارُ والِاشْمِئْزازُ، إذْ كَلُّ واحِدٍ مِنهُما غايَةٌ في بابِهِ، لِأنَّ الِاسْتِبْشارَ أنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ سُرُورًا حَتّى يَظْهَرَ أثَرُ ذَلِكَ السُّرُورِ في بَشَرَةِ وجْهِهِ ويَتَهَلَّلُ، والِاشْمِئْزازُ أنْ يَعْظُمَ غَمُّهُ وغَيْظُهُ، فَيَنْقَبِضَ الرُّوحُ إلى داخِلِ القَلْبِ فَيَبْقى في أدِيمِ الوَجْهِ أثَرُ الغَبَرَةِ والظُّلْمَةِ الأرْضِيَّةِ. ولَمّا حَكى عَنْهم هَذا الأمْرَ العَجِيبَ الَّذِي تَشْهَدُ فِطْرَةُ العَقْلِ بِفَسادِهِ أرْدَفَهُ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ ذَكَرَ الدُّعاءَ العَظِيمَ، فَوَصَفَهُ أوَّلًا بِالقُدْرَةِ التّامَّةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، وثانِيًا بِالعِلْمِ الكامِلِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى ﴿عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾، وإنَّما قَدَّمَ ذِكْرَ القُدْرَةِ عَلى ذِكْرِ العِلْمِ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعالى قادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلى العِلْمِ بِكَوْنِهِ عالِمًا، ولَمّا ذَكَرَ هَذا الدُّعاءَ قالَ: ﴿أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ يَعْنِي أنَّ نَفَّرَتَهم عَنِ التَّوْحِيدِ وفَرَحَهم عِنْدَ سَماعِ الشِّرْكِ أمْرٌ مَعْلُومُ الفَسادِ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ، ومَعَ ذَلِكَ القَوْمُ قَدْ أصَرُّوا عَلَيْهِ، فَلا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى إزالَتِهِمْ عَنْ هَذا الِاعْتِقادِ الفاسِدِ والمَذْهَبِ الباطِلِ إلّا أنْتَ، «عَنْ أبِي سَلَمَةَ، قالَ: سَألْتُ عائِشَةَ: بِمَ كانَ يَفْتَتِحُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاتَهُ بِاللَّيْلِ ؟ قالَتْ: كانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ وإسْرافِيلَ، فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ، عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِكَ، وإنَّكَ لَتَهْدِي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم ذَلِكَ المَذْهَبَ الباطِلَ ذَكَرَ في وعِيدِهِمْ أشْياءَ: أوَّلُها: أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ لَوْ مَلَكُوا كُلَّ ما في الأرْضِ مِنَ الأمْوالِ ومَلَكُوا مِثْلَهُ مَعَهُ لَجَعَلُوا الكُلَّ فِدْيَةً لِأنْفُسِهِمْ مِن ذَلِكَ العَذابِ الشَّدِيدِ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ أيْ: ظَهَرَتْ لَهم أنْواعٌ مِنَ العِقابِ لَمْ تَكُنْ في حِسابِهِمْ، وكَما أنَّهُ ﷺ قالَ في صِفَةِ الثَّوابِ في الجَنَّةِ: «فِيها ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعْتُ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بِشْرٍ» فَكَذَلِكَ في العِقابِ حَصَلَ مِثْلُهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ . وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَدا لَهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا﴾ ومَعْناهُ: ظَهَرَتْ لَهم آثارُ تِلْكَ السَّيِّئاتِ الَّتِي اكْتَسَبُوها، أيْ: ظَهَرَتْ لَهم أنْواعٌ مِنَ العِقابِ آثارُ تِلْكَ السَّيِّئاتِ الَّتِي اكْتَسَبُوها، ثُمَّ قالَ: ﴿وحاقَ بِهِمْ﴾ مِن كُلِّ الجَوانِبِ جَزاءَ ما كانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِهِ، فَنَبَّهَ تَعالى بِهَذِهِ الوُجُوهِ عَلى عِظَمِ عِقابِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب