الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُضِلٍّ ألَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ﴾ (p-٢٤٣)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ وعِيدَ الكاذِبِينَ والمُكَذِّبِينَ لِلصّادِقِينَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وعْدَ الصّادِقِينَ ووَعْدَ المُصَدِّقِينَ، لِيَكُونَ الوَعْدُ مَقْرُونًا بِالوَعِيدِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ﴾، تَقْدِيرُهُ: والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ والَّذِي صَدَّقَ بِهِ، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ شَخْصٌ واحِدٌ، فالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ، والَّذِي صَدَّقَ بِهِ هو أبُو بَكْرٍ، وهَذا القَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وجَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - . والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ كُلُّ مَن جاءَ بِالصِّدْقِ، فالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ الأنْبِياءُ، والَّذِي صَدَّقَ بِهِ الأتْباعُ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ بِأنَّ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ جَماعَةٌ، وإلّا لَمْ يَجُزْ أنْ يُقالَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الرِّسالَةَ لا تَتِمُّ إلّا بِأرْكانٍ أرْبَعَةٍ: المُرْسِلِ والمُرْسَلُ والرِّسالَةِ والمُرْسَلِ إلَيْهِ، والمَقْصُودُ مِنَ الإرْسالِ إقْدامُ المُرْسَلِ إلَيْهِ عَلى القَبُولِ والتَّصْدِيقِ، فَأوَّلُ شَخْصٍ أتى بِالتَّصْدِيقِ هو الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الإرْسالُ، وسَمِعْتُ بَعْضَ القاصِّينَ مِنَ الَّذِي يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «دَعُوا أبا بَكْرٍ، فَإنَّهُ مِن تَتِمَّةِ النُّبُوَّةِ» . واعْلَمْ أنّا سَواءٌ قُلْنا: المُرادُ بِالَّذِي صَدَّقَ بِهِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، أوْ قُلْنا: المُرادُ مِنهُ كُلُّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإنَّ أبا بَكْرٍ داخِلٌ فِيهِ. أمّا عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ: فَدُخُولُ أبِي بَكْرٍ فِيهِ ظاهِرٌ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذا يَتَناوَلُ أسْبَقَ النّاسِ إلى التَّصْدِيقِ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ الأسْبَقَ الأفْضَلَ إمّا أبُو بَكْرٍ وإمّا عَلِيٌّ، وحَمْلُ هَذا اللَّفْظِ عَلى أبِي بَكْرٍ أوْلى، لِأنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ وقْتَ البَعْثَةِ صَغِيرًا، فَكانَ كالوَلَدِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَكُونُ في البَيْتِ، ومَعْلُومٌ أنَّ إقْدامَهُ عَلى التَّصْدِيقِ لا يُفِيدُ مَزِيدَ قُوَّةٍ وشَوْكَةٍ. أمّا أبُو بَكْرٍ فَإنَّهُ كانَ رَجُلًا كَبِيرًا في السِّنِّ كَبِيرًا في المَنصِبِ، فَإقْدامُهُ عَلى التَّصْدِيقِ يُفِيدُ مَزِيدَ قُوَّةٍ وشَوْكَةٍ في الإسْلامِ، فَكانَ حَمْلُ هَذا اللَّفْظِ إلى أبِي بَكْرٍ أوْلى. وأمّا عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي: فَهو أنْ يَكُونَ المُرادُ كُلَّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ أبُو بَكْرٍ داخِلًا فِيهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”وصَدَقَ“ بِالتَّخْفِيفِ، أيْ صَدَقَ بِهِ النّاسَ ولَمْ يَكْذِبْهم، يَعْنِي: أدّاهُ إلَيْهِمْ كَما نَزَلَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وقِيلَ: صارَ صادِقًا بِهِ، أيْ: بِسَبَبِهِ، لِأنَّ القُرْآنَ مُعْجِزَةٌ، والمُعْجِزَةُ تَصْدِيقٌ مِنَ الحَكِيمِ الَّذِي لا يَفْعَلُ القَبِيحَ، فَيَصِيرُ المُدَّعِي لِلرِّسالَةِ صادِقًا بِسَبَبِ تِلْكَ المُعْجِزَةِ، وقُرِئَ: ”وصَدَّقَ“ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أثْبَتَ لِلَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أحْكامًا كَثِيرَةً. فالحُكْمُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾، وتَقْرِيرُهُ أنَّ التَّوْحِيدَ والشِّرْكَ ضِدّانِ، وكُلَّما كانَ أحَدُ الضِّدَّيْنِ أشْرَفَ وأكْمَلَ كانَ الضِّدُّ الثّانِي أخَسَّ وأرْذَلَ، ولَمّا كانَ التَّوْحِيدُ أشْرَفَ الأسْماءِ كانَ الشِّرْكُ أخَسَّ الأشْياءِ، والآتِي بِأحَدِ الضِّدَّيْنِ يَكُونُ تارِكًا لِلضِّدِّ الثّانِي، فالآتِي بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هو أفْضَلُ الأشْياءِ يَكُونُ تارِكًا لِلشِّرْكِ الَّذِي هو أخَسُّ الأشْياءِ وأرْذَلُها، فَلِهَذا المَعْنى وصَفَ المُصَدِّقِينَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ. الحُكْمُ الثّانِي لِلْمُصَدِّقِينَ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾، وهَذا (p-٢٤٤)الوَعْدُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ما يَرْغَبُ المُكَلَّفُ فِيهِ، فَإنْ قِيلَ: لا شَكَّ أنَّ الكَمالَ مَحْبُوبٌ لِذاتِهِ مَرْغُوبٌ فِيهِ لِذاتِهِ، وأهْلُ الجَنَّةِ لا شَكَّ أنَّهم عُقَلاءُ، فَإذا شاهَدُوا الدَّرَجاتِ العالِيَةَ الَّتِي هي لِلْأنْبِياءِ وأكابِرِ الأوْلِياءِ عَرَفُوا أنَّها خَيْراتٌ عالِيَةٌ ودَرَجاتٌ كامِلَةٌ، والعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِن حَيْثُ إنَّهُ كَمالٌ وخَيْرٌ يُوجِبُ المَيْلَ إلَيْهِ والرَّغْبَةَ فِيهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَهم يَشاءُونَ حُصُولَ تِلْكَ الدَّرَجاتِ لِأنْفُسِهِمْ، فَوَجَبَ حُصُولُها لَهم بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، وأيْضًا فَإنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهم ذَلِكَ المُرادُ كانُوا في الغُصَّةِ ووَحْشَةِ القَلْبِ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يُزِيلُ الحِقْدَ والحَسَدَ عَنْ قُلُوبِ أهْلِ الآخِرَةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ أحْوالَهم في الآخِرَةِ بِخِلافِ أحْوالِهِمْ في الدُّنْيا، ومِنَ النّاسِ مَن تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ، قالُوا: إنَّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّهم يَرَوْنَ اللَّهَ تَعالى لا شَكَّ أنَّهم داخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وصَدَّقَ بِهِ﴾ لِأنَّهم صَدَّقُوا الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يُرِيدُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ أنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، فَإنْ قالُوا: لا نُسَلِّمُ أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَشاءُونَ ذَلِكَ، قُلْنا: هَذا باطِلٌ، لِأنَّ الرُّؤْيَةَ أعْظَمُ وُجُوهِ التَّجَلِّي وزَوالِ الحِجابِ، ولا شَكَّ أنَّها حالَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ أحَدٍ نَظَرًا إلى هَذا الِاعْتِبارِ، بَلْ لَوْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كَوْنُ هَذا المَطْلُوبِ مُمْتَنِعَ الوُجُودِ لِعَيْنِهِ فَإنَّهُ يُتْرَكُ طَلَبُهُ، لا لِأجْلِ عَدَمِ المُقْتَضِي لِلطَّلَبِ، بَلْ لِقِيامِ المانِعِ، وهو كَوْنُهُ مُمْتَنِعًا في نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ قائِمَةٌ، والنَّصُّ يَقْتَضِي حُصُولَ كُلِّ ما أرادُوهُ وشاءُوهُ فَوَجَبَ حُصُولُها. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ لا يُفِيدُ العِنْدِيَّةَ بِمَعْنى الجِهَةِ والمَكانِ، بَلْ بِمَعْنى الصَّمَدِيَّةِ والإخْلاصِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٥]، واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: ﴿وذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ عَلى أنَّ هَذا الأجْرَ مُسْتَحَقٌّ لَهم عَلى إحْسانِهِمْ في العِبادَةِ. الحُكْمُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الثَّوابِ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى سُقُوطِ العِقابِ عَنْهم عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، فَقِيلَ: المُرادُ أنَّهم إذا صَدَّقُوا الأنْبِياءَ عَلَيْهِمْ فِيما أُوتُوا، فَإنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنْهم أسْوَأ أعْمالِهِمْ، وهو الكُفْرُ السّابِقُ عَلى ذَلِكَ الإيمانِ، ويُوَصِّلُ إلَيْهِمْ أحْسَنَ أنْواعِ الثَّوابِ، وقالَ مُقاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالمَحاسِنِ مِن أعْمالِهِمْ ولا يَجْزِيهِمْ بِالمَساوِئِ. واعْلَمْ أنَّ مُقاتِلًا كانَ شَيْخَ المُرْجِئَةِ، وهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ المَعاصِي مَعَ الإيمانِ، كَما لا يَنْفَعُ شَيْءٌ مِنَ الطّاعاتِ مَعَ الكُفْرِ، واحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: إنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ مَن صَدَّقَ الأنْبِياءَ والرُّسُلَ فَإنَّهُ تَعالى يُكَفِّرُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا، ولا يَجُوزُ حَمْلُ هَذا الأسْوَأِ عَلى الكُفْرِ السّابِقِ، لِأنَّ الظّاهِرَ مِنَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّكْفِيرَ إنَّما حَصَلَ في حالِ ما وصَفَهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْوى، وهو التَّقْوى مِنَ الشِّرْكِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ الكَبائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِها بَعْدَ الإيمانِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ تَنْصِيصًا عَلى أنَّهُ تَعالى يُكَفِّرُ عَنْهم بَعْدَ إيمانِهِمْ أسْوَأ ما يَأْتُونَ بِهِ، وذَلِكَ هو الكَبائِرُ. الحُكْمُ الرّابِعُ: أنَّهُ جَرَتِ العادَةُ أنَّ المُبْطِلِينَ يُخَوِّفُونَ المُحِقِّينَ بِالتَّخْوِيفاتِ الكَثِيرَةِ، فَحَسَمَ اللَّهُ مادَّةَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾، وذَكَرَهُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهامِ، والمُرادُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ في النُّفُوسِ، والأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّهُ عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ الحاجاتِ، فَهو تَعالى عالِمٌ حاجاتِ العِبادِ، وقادِرٌ عَلى دَفْعِها وإبْدالِها بِالخَيْراتِ والرّاحاتِ، وهو لَيْسَ بَخِيلًا ولا مُحْتاجًا (p-٢٤٥)حَتّى يَمْنَعَهُ بُخْلُهُ وحاجَتُهُ عَنْ إعْطاءِ ذَلِكَ المُرادِ، وإذا ثَبَتَ هَذا كانَ الظّاهِرُ أنَّهُ سُبْحانَهُ يَدْفَعُ الآفاتِ ويُزِيلُ البَلِيّاتِ، ويُوَصِّلُ إلَيْهِ كُلَّ المُراداتِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾ ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ المُقَدِّمَةَ رَتَّبَ عَلَيْها النَّتِيجَةَ المَطْلُوبَةَ، فَقالَ: ﴿ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ يَعْنِي لَمّا ثَبَتَ أنَّ اللَّهَ كافٍ عَبْدَهُ كانَ التَّخْوِيفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَبَثًا وباطِلًا، قَرَأ أكْثَرُ القُرّاءِ: ”عَبْدَهُ“ بِلَفْظِ الواحِدِ، وهو اخْتِيارُ أبِي عُبَيْدَةَ، لِأنَّهُ قالَ لَهُ: ﴿ويُخَوِّفُونَكَ﴾، رُوِيَ أنَّ قُرَيْشًا قالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنّا نَخافُ أنْ تُخْبِلَكَ آلِهَتُنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، وقَرَأ جَماعَةٌ: ”عِبادَهُ“ بِلَفْظِ الجَمِيعِ، قِيلَ: المُرادُ بِالعِبادِ الأنْبِياءُ، فَإنَّ نُوحًا كَفاهُ الغَرَقَ، وإبْراهِيمَ النّارَ، ويُونُسَ بِالإنْجاءِ مِمّا وقَعَ لَهُ، فَهو تَعالى كافِيكَ يا مُحَمَّدُ كَما كَفى هَؤُلاءِ الرُّسُلَ قَبْلَكَ، وقِيلَ: أُمَمُ الأنْبِياءِ قَصَدُوهم بِالسُّوءِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ﴾ [غافر: ٥] وكَفاهُمُ اللَّهُ شَرَّ مَن عاداهم. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أطْنَبَ في شَرْحِ الوَعِيدِ والوَعْدِ والتَّرْهِيبِ والتَّرْغِيبِ خَتَمَ الكَلامَ بِخاتِمَةٍ هي الفَصْلُ الحَقُّ، فَقالَ: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُضِلٍّ﴾ يَعْنِي: هَذا الفَضْلُ لا يَنْفَعُ والبَيِّناتُ إلّا إذا خَصَّ اللَّهُ العَبْدَ بِالهِدايَةِ والتَّوْفِيقِ، وقَوْلُهُ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ﴾ تَهْدِيدٌ لِلْكُفّارِ. واعْلَمْ أنَّ أصْحابَنا يَتَمَسَّكُونَ في مَسْألَةِ خَلْقِ الأعْمالِ وإرادَةِ الكائِناتِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُضِلٍّ﴾ والمَباحِثُ فِيهِ مِنَ الجانِبَيْنِ مَعْلُومَةٌ، والمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ في هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ﴾، ولَوْ كانَ الخالِقُ لِلْكُفْرِ فِيهِمْ هو اللَّهَ لَكانَ الِانْتِقامُ والتَّهْدِيدُ غَيْرَ لائِقٍ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب