الباحث القرآني

(p-٢٤١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكم تَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ وكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جاءَهُ ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في شَرْحِ وعِيدِ الكُفّارِ أرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَثَلِ ما يَدُلُّ عَلى فَسادِ مَذْهَبِهِمْ وقُبْحِ طَرِيقَتِهِمْ، فَقالَ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: المُتَشاكِسُونَ المُخْتَلِفُونَ العَسِرُونَ، يُقالُ: شَكِسَ يَشْكَسُ شُكُوسًا وشَكَسًا إذا عَسُرَ، وهو رَجُلٌ شَكِسٌ، أيْ عَسِرٌ، وتَشاكَسَ إذا تَعاسَرَ، قالَ اللَّيْثُ: التَّشاكُسُ التَّنازُعُ والِاخْتِلافُ، ويُقالُ: اللَّيْلُ والنَّهارُ مُتَشاكِسانِ، أيْ أنَّهُما مُتَضادّانِ إذا جاءَ أحَدُهُما ذَهَبَ الآخَرُ، وقَوْلُهُ: فِيهِ صِلَةُ شُرَكاءَ؛ كَما تَقُولُ اشْتَرَكُوا فِيهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ”سالِمًا“ بِالألِفِ وكَسْرِ اللّامِ، يُقالُ: سَلِمَ فَهو سالِمٌ، والباقُونَ ”سَلَمًا“ بِفَتْحِ السِّينِ واللّامِ بِغَيْرِ الألِفِ، ويُقالُ أيْضًا: بِفَتْحِ السِّينِ وكَسْرِها مَعَ سُكُونِ العَيْنِ، أمّا مَن قَرَأ ”سالِمًا“ فَهو اسْمُ الفاعِلِ، تَقْدِيرُ مُسَلَّمٍ، فَهو سالِمٌ، وأمّا سائِرُ القِراءاتِ فَهي مَصادِرُ سَلِمَ، والمَعْنى ذا سَلامَةٍ، وقَوْلُهُ: ﴿لِرَجُلٍ﴾ أيْ ذا خُلُوصٍ لَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ، مِن قَوْلِهِمْ: سَلِمَتْ لَهُ الضَّيْعَةُ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، أيْ: وهُناكَ رَجُلٌ سالِمٌ لِرَجُلٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الكَلامِ: اضْرِبْ لِقَوْمِكَ مَثَلًا، وقُلْ لَهم ما يَقُولُونَ في رَجُلٍ مِنَ المَمالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكاءُ، بَيْنَهُمُ اخْتِلافٌ وتَنازُعٌ، كُلُّ واحِدٍ مِنهم يَدَّعِي أنَّهُ عَبْدُهُ، فَهم يَتَجاذَبُونَهُ في حَوائِجِهِمْ، وهو مُتَحَيِّرٌ في أمْرِهِ، فَكُلَّما أرْضى أحَدَهم غَضِبَ الباقُونَ، وإذا احْتاجَ في مُهِمٍّ إلَيْهِمْ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنهم يَرُدُّهُ إلى الآخَرِ، فَهو يَبْقى مُتَحَيِّرًا لا يَعْرِفُ أيُّهم أوْلى بِأنْ يَطْلُبَ رِضاهُ، وأيَّهم يُعِينُهُ في حاجاتِهِ، فَهو بِهَذا السَّبَبِ في عَذابٍ دائِمٍ وتَعَبٍ مُقِيمٍ، ورَجُلٍ آخَرَ لَهُ مَخْدُومٌ واحِدٌ يَخْدِمُهُ عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ، وذَلِكَ المَخْدُومُ يُعِينُهُ عَلى مُهِمّاتِهِ، فَأيُّ هَذَيْنِ العَبْدَيْنِ أحْسَنُ حالًا وأحْمَدُ شَأْنًا، والمُرادُ تَمْثِيلُ حالِ مَن يُثْبِتُ آلِهَةً شَتّى، فَإنَّ أُولَئِكَ الآلِهَةَ تَكُونُ مُتَنازِعَةً مُتَغالِبَةً، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، وقالَ: ﴿ولَعَلا بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: ٩١] فَيَبْقى ذَلِكَ المُشْرِكُ مُتَحَيِّرًا ضالًّا، لا يَدْرِي أيَّ هَؤُلاءِ الآلِهَةِ يَعْبُدُ، وعَلى رُبُوبِيَّةِ أيِّهِمْ يَعْتَمِدُ، ومِمَّنْ يَطْلُبُ رِزْقَهُ، ومِمَّنْ يَلْتَمِسُ رِفْقَهُ، فَهَمُّهُ شِفاعٌ، وقَلْبُهُ أوْزاعٌ. أمّا مَن لَمْ يُثْبِتْ إلّا إلَهًا واحِدًا فَهو قائِمٌ بِما كَلَّفَهُ عارِفٌ بِما أرْضاهُ وما أسْخَطَهُ، فَكانَ حالُ هَذا أقْرَبَ إلى الصَّلاحِ مِن حالِ الأوَّلِ، وهَذا مَثَلٌ ضُرِبَ في غايَةِ الحُسْنِ في تَقْبِيحِ الشِّرْكِ وتَحْسِينِ التَّوْحِيدِ، فَإنْ قِيلَ: هَذا المِثالُ لا يَنْطَبِقُ عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ لِأنَّها جَماداتٌ، فَلَيْسَ بَيْنَها مُنازَعَةٌ ولا مُشاكَسَةٌ، قُلْنا: إنَّ عَبَدَةَ الأصْنامِ مُخْتَلِفُونَ، مِنهم مَن يَقُولُ: هَذِهِ الأصْنامُ تَماثِيلُ الكَواكِبِ السَّبْعَةِ، فَهم في الحَقِيقَةِ إنَّما يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ السَّبْعَةَ، ثُمَّ إنَّ القَوْمَ يُثْبِتُونَ بَيْنَ هَذِهِ الكَواكِبِ مُنازَعَةً ومُشاكَسَةً، ألا تَرى أنَّهم يَقُولُونَ: زُحَلُ هو النَّحْسُ الأعْظَمُ، والمُشْتَرِي هو السَّعْدُ الأعْظَمُ، ومِنهم مَن يَقُولُ: هَذِهِ الأصْنامُ تَماثِيلُ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ زَعَمُوا أنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ حَوادِثِ هَذا العالَمِ يَتَعَلَّقُ بِرُوحٍ مِنَ الأرْواحِ السَّماوِيَّةِ، وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ تِلْكَ الأرْواحِ مُنازَعَةٌ ومُشاكَسَةٌ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ المَثَلُ مُطابِقًا، ومِنهم مَن يَقُولُ: هَذِهِ الأصْنامُ تَماثِيلُ الأشْخاصِ مِنَ العُلَماءِ والزُّهّادِ الَّذِينَ مَضَوْا، فَهم يَعْبُدُونَ هَذِهِ التَّماثِيلَ لِتَصِيرَ أُولَئِكَ الأشْخاصُ مِنَ العُلَماءِ والزُّهّادِ شُفَعاءَ لَهم عِنْدَ اللَّهِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ تَزْعُمُ كُلُّ طائِفَةٍ مِنهم أنَّ المُحِقَّ هو (p-٢٤٢)ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي هو عَلى دِينِهِ، وأنَّ مَن سِواهُ مُبْطِلٌ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ أيْضًا يَنْطَبِقُ المِثالُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا المِثالَ مُطابِقٌ لِلْمَقْصُودِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾، فالتَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِيانِ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: ﴿مَثَلًا﴾ نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ، والمَعْنى: هَلْ تَسْتَوِي صِفَتاهُما وحالَتاهُما، وإنَّما اقْتَصَرَ في التَّمْيِيزِ عَلى الواحِدِ لِبَيانِ الجِنْسِ، وقُرِئَ: ”مَثَلَيْنِ“، ثُمَّ قالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ لَمّا بَطَلَ القَوْلُ بِإثْباتِ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ، وثَبَتَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الواحِدُ الأحَدُ الحَقُّ، ثَبَتَ أنَّ الحَمْدَ لَهُ لا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: لا يَعْلَمُونَ أنَّ الحَمْدَ لَهُ لا لِغَيْرِهِ، وأنَّ المُسْتَحِقَّ لِلْعِبادَةِ هو اللَّهُ لا غَيْرُهُ، وقِيلَ: المُرادُ أنَّهُ لَمّا سَبَقَتْ هَذِهِ الدَّلائِلُ الظّاهِرَةُ والبَيِّناتُ الباهِرَةُ، قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى حُصُولِ هَذِهِ البَياناتِ وظُهُورِ هَذِهِ البَيِّناتِ، وإنْ كانَ أكْثَرُ الخَلْقِ لَمْ يَعْرِفُوها ولَمْ يَقِفُوا عَلَيْها، ولَمّا تَمَّمَ اللَّهُ هَذِهِ البَياناتِ قالَ: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ . والمُرادُ أنَّ هَؤُلاءِ الأقْوامَ وإنْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى هَذِهِ الدَّلائِلِ القاهِرَةِ بِسَبَبِ اسْتِيلاءِ الحِرْصِ والحَسَدِ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا، فَلا تُبالِ يا مُحَمَّدُ بِهَذا، فَإنَّكَ سَتَمُوتُ وهم أيْضًا سَيَمُوتُونَ، ثُمَّ تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيامَةِ وتَخْتَصِمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، والعادِلُ الحَقُّ يَحْكُمُ بَيْنَكم، فَيُوصِلُ إلى كُلِّ واحِدٍ ما هو حَقُّهُ، وحِينَئِذٍ يَتَمَيَّزُ المُحِقُّ مِنَ المُبْطِلِ، والصِّدِّيقُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، فَهَذا هو المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ أيْ: إنَّكَ وإيّاهم وإنْ كُنْتُمْ أحْياءً، فَإنَّكَ وإيّاهم في أعْدادِ المَوْتى، لِأنَّ كُلَّ ما هو آتٍ آتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى نَوْعًا آخَرَ مِن قَبائِحِ أفْعالِهِمْ، وهو أنَّهم يَكْذِبُونَ، ويَضُمُّونَ إلَيْهِ أنَّهم يُكَذِّبُونَ القائِلَ المُحِقَّ، أمّا أنَّهم يَكْذِبُونَ فَهو أنَّهم أثْبَتُوا لِلَّهِ ولَدًا وشُرَكاءَ. وأمّا أنَّهم مُصِرُّونَ عَلى تَكْذِيبِ الصّادِقِينَ، فَلِأنَّهم يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا ﷺ بَعْدَ قِيامِ الدَّلالَةِ القاطِعَةِ عَلى كَوْنِهِ صادِقًا في ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أرْدَفَهُ بِالوَعِيدِ فَقالَ: ﴿ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾، ومِنَ النّاسِ مَن تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ في تَكْفِيرِ المُخالِفِ مِن أهْلِ القِبْلَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُخالِفَ في المَسائِلِ القَطْعِيَّةِ كُلِّها يَكُونُ كاذِبًا في قَوْلِهِ، ويَكُونُ مُكَذِّبًا لِلْمَذْهَبِ الَّذِي هو الحَقُّ، فَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذا الوَعِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب