الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ أنَّ هَذا الكِتابَ مُشْتَمِلٌ عَلى الحَقِّ والصِّدْقِ والصَّوابِ - أرْدَفَ هُنا بَعْضَ ما فِيهِ مِنَ الحَقِّ والصِّدْقِ، وهو أنْ يَشْتَغِلَ الإنْسانُ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ، ويَتَبَرَّأ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى بِالكُلِّيَّةِ، فَأمّا اشْتِغالُهُ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ فَهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا﴾، وأمّا بَراءَتُهُ مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألا لِلَّهِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، ومَعْنى الحَصْرِ أنْ يَثْبُتَ الحُكْمُ في المَذْكُورِ ويَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ المَذْكُورِ، واعْلَمْ أنَّ العِبادَةَ مَعَ الإخْلاصِ لا تُعْرَفُ حَقِيقَةً إلّا إذا عَرَفْنا أنَّ العِبادَةَ ما هي، وأنَّ الإخْلاصَ ما هو، وأنَّ الوُجُوهَ المُنافِيَةَ لِلْإخْلاصِ ما هي، فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلاثَةٌ لا بُدَّ مِنَ البَحْثِ عَنْها:
أمّا العِبادَةُ: فَهي فِعْلٌ أوْ قَوْلٌ أوْ تَرْكُ فِعْلٍ أوْ تَرْكُ قَوْلٍ، ويُؤْتى بِهِ لِمُجَرَّدِ اعْتِقادِ أنَّ الأمْرَ بِهِ عَظِيمٌ يَجِبُ قَبُولُهُ.
وأمّا الإخْلاصُ: فَهو أنْ يَكُونَ الدّاعِي لَهُ إلى الإتْيانِ بِذَلِكَ الفِعْلِ أوِ التَّرْكِ مُجَرَّدَ هَذا الِانْقِيادِ والِامْتِثالِ، فَإنْ حَصَلَ مِنهُ داعٍ آخَرُ، فَإمّا أنْ يَكُونَ جانِبُ الدّاعِي إلى الطّاعَةِ راجِحًا عَلى الجانِبِ الآخَرِ، أوْ مُعادِلًا لَهُ أوْ مَرْجُوحًا. وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُعادِلَ والمَرْجُوحَ ساقِطٌ، وأمّا إذا كانَ الدّاعِي إلى طاعَةِ اللَّهِ راجِحًا عَلى الجانِبِ الآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أمْ لا، وقَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ مِرارًا، ولَفْظُ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الإتْيانِ بِهِ عَلى سَبِيلِ الخُلُوصِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا﴾ صَرِيحٌ في أنَّهُ يَجِبُ الإتْيانُ بِالعِبادَةِ عَلى سَبِيلِ الخُلُوصِ، وتَأكَّدَ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] .
وأمّا بَيانُ الوُجُوهِ المُنافِيَةِ لِلْإخْلاصِ فَهي الوُجُوهُ الدّاعِيَةُ لِلشَّرِيكِ، وهي أقْسامٌ:
أحَدُها: أنْ يَكُونَ لِلرِّياءِ والسُّمْعَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ.
وثانِيها: أنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنَ الإتْيانِ بِالطّاعَةِ الفَوْزَ بِالجَنَّةِ والخَلاصَ مِنَ النّارِ.
وثالِثُها: أنْ يَأْتِيَ بِها ويَعْتَقِدَ أنَّ لَها تَأْثِيرًا في إيجابِ الثَّوابِ أوْ دَفْعِ العِقابِ.
ورابِعُها: وهو أنْ يُخْلِصَ الطّاعاتِ عَنِ الكَبائِرِ حَتّى تَصِيرَ مَقْبُولَةً، وهَذا القَوْلُ إنَّما يُعْتَبَرُ عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ المُرادُ مِنهُ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واحْتَجُّوا بِما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ حِصْنِي، ومَن دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِن عَذابِي» وهَذا قَوْلُ مَن يَقُولُ: لا تَضُرُّ المَعْصِيَةُ مَعَ الإيمانِ كَما لا تَنْفَعُ الطّاعَةُ مَعَ الكُفْرِ، وأمّا الأكْثَرُونَ فَقالُوا: الآيَةُ مُتَناوِلَةٌ لِكُلِّ ما كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي، وهَذا الأوْلى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ﴾ عامٌّ، ورُوِيَ أنَّ امْرَأةَ الفَرَزْدَقِ لَمّا قَرُبَ وفاتُها أوْصَتْ أنْ يُصَلِّيَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَلَيْها، فَلَمّا صَلّى عَلَيْها ودُفِنَتْ، قالَ لِلْفَرَزْدَقِ: يا أبا فِراسٍ، ما الَّذِي أعْدَدْتَ لِهَذا الأمْرِ ؟ قالَ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَقالَ الحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذا العَمُودُ فَأيْنَ الطُّنُبُ ؟
(p-٢١٠)فَبَيَّنَ بِهَذا أنَّ عَمُودَ الخَيْمَةِ لا يُنْتَفَعُ بِهِ إلّا مَعَ الطُّنُبِ حَتّى يُمْكِنَ الِانْتِفاعُ بِالخَيْمَةِ، قالَ القاضِي: فَأمّا ما يُرْوى أنَّهُ ﷺ قالَ لِمُعاذٍ وأبِي الدَّرْداءِ: «وإنْ زِنى وإنْ سَرَقَ عَلى رَغْمِ أنْفِ أبِي الدَّرْداءِ» فَإنْ صَحَّ فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ، وإلّا لَمْ يَجُزْ قَبُولُ هَذا الخَبَرِ، لِأنَّهُ مُخالِفٌ لِلْقُرْآنِ، ولِأنَّهُ يُوجِبُ أنْ لا يَكُونَ الإنْسانُ مَزْجُورًا عَنِ الزِّنا والسَّرِقَةِ، وأنْ لا يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِما، لِأنَّهُ مَعَ شِدَّةِ شَهْوَتِهِ لِلْقَبِيحِ يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَضُرُّهُ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِالشَّهادَتَيْنِ، فَكَأنَّ ذَلِكَ إغْراءٌ بِالقَبِيحِ، لِأنّا نَقُولُ: إنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أنَّ ضَرَرَهُ يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ فَقَدِ اعْتَقَدَ أنَّ فِعْلَ القَبِيحِ مَضَرَّةٌ، إلّا أنَّهُ يُزِيلُ ذَلِكَ الضَّرَرَ بِفِعْلِ التَّوْبَةِ بِخِلافِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ فِعْلَ القَبِيحِ لا يَضُرُّ مَعَ التَّمَسُّكِ بِالشَّهادَتَيْنِ. هَذا تَمامُ كَلامِ القاضِي، فَيُقالُ لَهُ: أمّا قَوْلُكَ: إنَّ القَوْلَ بِالمَغْفِرَةِ مُخالِفٌ لِلْقُرْآنِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، وقالَ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦] أيْ: حالَ ظُلْمِهِمْ، كَما يُقالُ: رَأيْتُ الأمِيرَ عَلى أكْلِهِ وشُرْبِهِ، أيْ: حالَ كَوْنِهِ آكِلًا وشارِبًا، وقالَ: ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣]، وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الإغْراءَ بِالقَبِيحِ، فَيُقالُ لَهُ: إنْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَقْبُحَ غُفْرانُهُ عَقْلًا، وهَذا مَذْهَبُ البَغْدادِيِّينَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، وأنْتَ لا تَقُولُ بِهِ، لِأنَّ مَذْهَبَ البَصْرِيِّينَ أنَّ عَذابَ المُذْنِبِ جائِزٌ عَقْلًا، وأيْضًا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أنْ لا يَحْصُلَ الغُفْرانُ بِالتَّوْبَةِ، لِأنَّهُ إذا عَلِمَ أنَّهُ إذا أذْنَبَ ثُمَّ تابَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لَمْ يَنْزَجِرْ، وأمّا الفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ القاضِي فَبَعِيدٌ، لِأنَّهُ إذا عَزَمَ عَلى أنْ يَتُوبَ عَنْهُ في الحالِ عَلِمَ أنَّهُ لا يَضُرُّهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ ألْبَتَّةَ.
ثُمَّ نَقُولُ: مَذْهَبُنا أنّا نَقْطَعُ بِحُصُولِ العَفْوِ عَنِ الكَبائِرِ في الجُمْلَةِ، فَأمّا في حَقِّ كُلِّ واحِدٍ مِنَ النّاسِ فَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فَقَطَعَ بِحُصُولِ المَغْفِرَةِ في الجُمْلَةِ، إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ يَقْطَعْ بِحُصُولِ هَذا الغُفْرانِ في حَقِّ كُلِّ أحَدٍ، بَلْ في حَقِّ مَن شاءَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الخَوْفُ حاصِلًا، فَلا يَكُونُ الإغْراءُ حاصِلًا، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”الدِّينُ“ بِالرَّفْعِ، ثُمَّ قالَ: وحَقُّ مَن رَفَعَهُ أنْ يَقْرَأ ”مُخْلَصًا“ بِفَتْحِ اللّامِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ﴾ [النساء: ١٤٦] حَتّى يُطابِقَ قَوْلَهُ: ﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾ والخالِصُ والمُخْلَصُ واحِدٌ، إلّا أنَّهُ وصَفَ الدِّينَ بِصِفَةِ صاحِبِهِ عَلى الإسْنادِ المَجازِيِّ، كَقَوْلِهِمْ: شِعْرُ شاعِرٍ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ رَأْسَ العِباداتِ ورَئِيسَها الإخْلاصُ في التَّوْحِيدِ - أرْدَفَهُ بِذَمِّ طَرِيقَةِ المُشْرِكِينَ، فَقالَ: ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ، يَقُولُونَ: ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَخَبَرُ ”الَّذِينَ“ مَحْذُوفٌ، وهو قَوْلُهُ ”يَقُولُونَ“، واعْلَمْ أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ عائِدٌ عَلى الأشْياءِ الَّتِي عُبِدَتْ مِن دُونِ اللَّهِ، وهي قِسْمانِ: العُقَلاءُ وغَيْرُ العُقَلاءِ، أمّا العُقَلاءُ فَهو أنَّ قَوْمًا عَبَدُوا المَسِيحَ وعُزَيْزًا والمَلائِكَةَ، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ، ويَعْتَقِدُونَ فِيها أنَّها أحْياءٌ عاقِلَةٌ ناطِقَةٌ، وأمّا الأشْياءُ الَّتِي عُبِدَتْ مَعَ أنَّها لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً بِالحَياةِ والعَقْلِ فَهي الأصْنامُ، إذا عَرَفْتَ هَذا، فَنَقُولُ: الكَلامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الكُفّارُ لائِقٌ بِالعُقَلاءِ، أمّا بِغَيْرِ العُقَلاءِ فَلا يَلِيقُ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ﴾ ضَمِيرٌ لِلْعُقَلاءِ، فَلا يَلِيقُ بِالأصْنامِ.
الثّانِي: أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَعْتَقِدَ أُولَئِكَ الكُفّارُ أنَّها تُقَرِّبُهُ إلى اللَّهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَمُرادُهم أنَّ (p-٢١١)عِبادَتَهم لَها تُقَرِّبُهم إلى اللَّهِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ العاقِلَ لا يَعْبُدُ الصَّنَمَ مِن حَيْثُ إنَّهُ خَشَبٌ أوْ حَجَرٌ، وإنَّما يَعْبُدُونَهُ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّها تَماثِيلُ الكَواكِبِ أوْ تَماثِيلُ الأرْواحِ السَّماوِيَّةِ، أوْ تَماثِيلُ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ الَّذِينَ مَضَوْا، ويَكُونُ مَقْصُودُهم مِن عِبادَتِها تَوْجِيهُ تِلْكَ العِباداتِ إلى تِلْكَ الأشْياءِ الَّتِي جَعَلُوا هَذِهِ التَّماثِيلَ صُوَرًا لَها.
وحاصِلُ الكَلامِ لِعُبّادِ الأصْنامِ أنْ قالُوا: إنَّ الإلَهَ الأعْظَمَ أجَلُّ مِن أنْ يَعْبُدَهُ البَشَرُ، لَكِنَّ اللّائِقَ بِالبَشَرِ أنْ يَشْتَغِلُوا بِعِبادَةِ الأكابِرِ مِن عِبادِ اللَّهِ، مِثْلَ الكَواكِبِ، ومِثْلَ الأرْواحِ السَّماوِيَّةِ، ثُمَّ إنَّها تَشْتَغِلُ بِعِبادَةِ الإلَهِ الأكْبَرِ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ .
واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا حَكى مَذاهِبَهم أجابَ عَنْها مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ اقْتَصَرَ في الجَوابِ عَلى مُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ، فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهم في ما هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، واعْلَمْ أنَّ الرَّجُلَ المُبْطِلَ إذا ذَكَرَ مَذْهَبًا باطِلًا وكانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، فالطَّرِيقُ في عِلاجِهِ أنْ يُحْتالَ بِحِيلَةٍ تُوجِبُ زَوالَ ذَلِكَ الإصْرارِ عَنْ قَلْبِهِ، فَإذا زالَ الإصْرارُ عَنْ قَلْبِهِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يُسْمِعُهُ الدَّلِيلَ الدّالَّ عَلى بُطْلانِهِ، فَيَكُونُ هَذا الطَّرِيقُ أفْضى إلى المَقْصُودِ، والأطِبّاءُ يَقُولُونَ: لا بُدَّ مِن تَقْدِيمِ المُنْضِجِ عَلى سَقْيِ المُسَهِّلِ، فَإنَّ بِتَناوُلِ المُنْضِجِ تَصِيرُ المَوادُّ الفاسِدَةُ رَخْوَةً قابِلَةً لِلزَّوالِ، فَإذا سَقَيْتَهُ المُسَهِّلَ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ النَّقاءُ التّامُّ، فَكَذَلِكَ هَهُنا سَماعُ التَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ أوَّلًا يَجْرِي مَجْرى سَقْيِ المُنْضِجِ أوَّلًا، وإسْماعُ الدَّلِيلِ ثانِيًا يَجْرِي مَجْرى سَقْيِ المُسَهِّلِ ثانِيًا، فَهَذا هو الفائِدَةُ في تَقْدِيمِ هَذا التَّهْدِيدِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ والمُرادُ أنَّ مَن أصَرَّ عَلى الكَذِبِ والكُفْرِ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنِ الهِدايَةِ، والمُرادُ بِهَذا الكَذِبِ - وصْفُهم بِهَذِهِ الأصْنامِ بِأنَّها آلِهَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْعِبادَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّها جَماداتٌ خَسِيسَةٌ، وهم نَحَتُوها وتَصَرَّفُوا فِيها، والعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حاصِلٌ بِأنَّ وصْفَ هَذِهِ الأشْياءِ بِالإلَهِيَّةِ كَذِبٌ مَحْضٌ، وأمّا الكُفْرُ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ الكُفْرَ الرّاجِعَ إلى الِاعْتِقادِ، والأمْرُ هَهُنا كَذَلِكَ، فَإنَّ وصْفَهم لَها بِالإلَهِيَّةِ كَذِبٌ، واعْتِقادَهم فِيها بِالإلَهِيَّةِ جَهْلٌ وكُفْرٌ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كُفْرانَ النِّعْمَةِ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ العِبادَةَ نِهايَةُ التَّعْظِيمِ، ونِهايَةُ التَّعْظِيمِ لا تَلِيقُ إلّا بِمَن يَصْدُرُ عَنْهُ غايَةُ الإنْعامِ، وذَلِكَ المُنْعِمُ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وهَذِهِ الأوْثانُ لا مَدْخَلَ لَها في ذَلِكَ الإنْعامِ، فالِاشْتِغالُ بِعِبادَةِ هَذِهِ الأوْثانِ يُوجِبُ كُفْرانَ نِعْمَةِ المُنْعِمِ الحَقِّ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هو اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ والمُرادُ مِن هَذا الكَلامِ - إقامَةُ الدَّلائِلِ القاهِرَةِ عَلى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الوَلَدِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لَوِ اتَّخَذَ ولَدًا لَما رَضِيَ إلّا بِأكْمَلِ الأوْلادِ وهو الِابْنُ، فَكَيْفَ نَسَبْتُمْ إلَيْهِ البِنْتَ.
الثّانِي: أنَّهُ سُبْحانَهُ واحِدٌ حَقِيقِيٌّ، والواحِدُ الحَقِيقِيُّ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ، أمّا أنَّهُ واحِدٌ حَقِيقِيٌّ فَلِأنَّهُ لَوْ كانَ مُرَكَّبًا لاحْتاجَ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ، وجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، فَكانَ يَحْتاجُ إلى غَيْرِهِ، والمُحْتاجُ إلى الغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، والمُمْكِنُ لِذاتِهِ لا يَكُونُ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ، وأمّا أنَّ الواحِدَ لا يَكُونُ لَهُ ولَدٌ فَلِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الوَلَدَ عِبارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ الشَّيْءِ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ صُورَةٌ مُساوِيَةٌ لِصُورَةِ الوالِدِ، وهَذا إنَّما يُعْقَلُ في الشَّيْءِ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنهُ جُزْءٌ، والفَرْدُ المُطْلَقُ لا يُقالُ ذَلِكَ فِيهِ.
الثّانِي: شَرْطُ الوَلَدِ أنْ يَكُونَ مُماثِلًا في تَمامِ الماهِيَّةِ لِلْوالِدِ، فَتَكُونُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ حَقِيقَةً نَوْعِيَّةً مَحْمُولَةً عَلى شَخْصَيْنِ، وذَلِكَ مُحالٌ، لِأنَّ تَعْيِينَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما إنْ كانَ مِن لَوازِمِ تِلْكَ الماهِيَّةِ لَزِمَ أنْ لا (p-٢١٢)يَحْصُلَ مِن تِلْكَ الماهِيَّةِ إلّا الشَّخْصُ الواحِدُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعْيِينُ مِن لَوازِمِ تِلْكَ الماهِيَّةِ كانَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مُنْفَصِلٍ، فَلا يَكُونُ إلَهًا واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ إلَهًا واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ يُوجِبُ كَوْنَهُ واحِدًا في حَقِيقَتِهِ، وكَوْنُهُ واحِدًا في حَقِيقَتِهِ يَمْنَعُ مِن ثُبُوتِ الوَلَدِ لَهُ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ واحِدًا يَمْنَعُ مِن ثُبُوتِ الوَلَدِ.
الثّالِثُ: أنَّ الوَلَدَ لا يَحْصُلُ إلّا مِنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ، والزَّوْجانِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونا مِن جِنْسٍ واحِدٍ، فَلَوْ كانَ لَهُ ولَدٌ لَما كانَ واحِدًا، بَلْ كانَتْ زَوْجَتُهُ مِن جِنْسِهِ، وأمّا أنَّ كَوْنَهُ قَهّارًا يَمْنَعُ مِن ثُبُوتِ الوَلَدِ لَهُ، فَلِأنَّ المُحْتاجَ إلى الوَلَدِ هو الَّذِي يَمُوتُ فَيَحْتاجُ إلى ولَدٍ يَقُومُ مَقامَهُ، فالمُحْتاجُ إلى الوَلَدِ هو الَّذِي يَكُونُ مَقْهُورًا بِالمَوْتِ، أمّا الَّذِي يَكُونُ قاهِرًا ولا يَقْهَرُهُ غَيْرُهُ كانَ الوَلَدُ في حَقِّهِ مُحالًا، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿هُوَ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ ألْفاظٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى دَلائِلَ قاطِعَةٍ في نَفْيِ الوَلَدِ عَنِ اللَّهِ تَعالى.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصࣰا لَّهُ ٱلدِّینَ","أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ فِی مَا هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱ كَفَّارࣱ","لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن یَتَّخِذَ وَلَدࣰا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ سُبۡحَـٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ"],"ayah":"أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ فِی مَا هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱ كَفَّارࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق