الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا بَلْ هم في شَكٍّ مِن ذِكْرِي بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ﴾ ﴿أمْ عِنْدَهم خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهّابِ﴾ ﴿أمْ لَهم مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ﴾ ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزابِ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ لِأُولَئِكَ الكُفّارِ وهي الشُّبْهَةُ المُتَعَلِّقَةُ بِالنُّبُوّاتِ، وهي قَوْلُهم إنَّ مُحَمَّدًا لَمّا كانَ مُساوِيًا لِغَيْرِهِ في الذّاتِ والصِّفاتِ والخِلْقَةِ الظّاهِرَةِ والأخْلاقِ الباطِنَةِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يُخْتَصَّ هو بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ العالِيَةِ والمَنزِلَةِ الشَّرِيفَةِ ؟ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا﴾ فَإنَّهُ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، وحَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ قَوْمِ صالِحٍ أنَّهم قالُوا مِثْلَ هَذا القَوْلِ فَقالُوا: (p-١٥٧)﴿أؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنا بَلْ هو كَذّابٌ أشِرٌ﴾ [القَمَرِ: ٢٥] وحَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ ﷺ أيْضًا أنَّهم قالُوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣١] وتَمامُ الكَلامِ في تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أنَّهم قالُوا النُّبُوَّةُ أشْرَفُ المَراتِبِ، فَوَجَبَ أنْ لا تَحْصُلَ إلّا لِأشْرَفِ النّاسِ ومُحَمَّدٌ لَيْسَ أشْرَفَ النّاسِ، فَوَجَبَ أنْ لا تَحْصُلَ لَهُ النُّبُوَّةُ، والمُقَدِّمَتانِ الأوَّلِيّانِ حَقِيقَتانِ، لَكِنَّ الثّالِثَةَ كاذِبَةٌ وسَبَبُ رَواجِ هَذا التَّغْلِيطِ عَلَيْهِمْ أنَّهم ظَنُّوا أنَّ الشَّرَفَ لا يَحْصُلُ إلّا بِالمالِ والأعْوانِ وذَلِكَ باطِلٌ، فَإنَّ مَراتِبَ السَّعادَةِ ثَلاثٌ أعْلاها هي النَّفْسانِيَّةُ وأوْسَطُها هي البَدَنِيَّةُ، وأدْوَنُها هي الخارِجِيَّةُ وهي المالُ والجاهُ، فالقَوْمُ عَكَسُوا القَضِيَّةَ وظَنُّوا بِأخَسِّ المَراتِبِ أشْرَفَها، فَلَمّا وجَدُوا المالَ والجاهَ عِنْدَ غَيْرِهِ أكْثَرَ ظَنُّوا أنَّ غَيْرَهُ أشْرَفُ مِنهُ، فَحِينَئِذٍ انْعَقَدَ هَذا القِياسُ الفاسِدُ في أفْكارِهِمْ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أجابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِن ذِكْرِي بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِن ذِكْرِي﴾ أيْ مِنَ الدَّلائِلِ الَّتِي لَوْ نَظَرُوا فِيها لَزالَ هَذا الشَّكُّ عَنْهم وذَلِكَ لَأنَّ كُلَّ ما ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّبُهاتِ فَهي كَلِماتٌ ضَعِيفَةٌ، وأمّا الدَّلائِلُ الَّتِي تَدُلُّ بِنَفْسِها عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَهي دَلائِلُ قاطِعَةٌ، فَلَوْ تَأمَّلُوا حَقَّ التَّأمُّلِ في الكَلامِ لَوَقَفُوا عَلى ضَعْفِ الشُّبُهاتِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِها في إبْطالِ النُّبُوَّةِ، ولَعَرَفُوا صِحَّةَ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ كانَ لِأجْلِ أنَّهم تَرَكُوا النَّظَرَ والِاسْتِدْلالَ، فَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ﴾ فَمَوْقِعُهُ مِن هَذا الكَلامِ أنَّهُ تَعالى يَقُولُ هَؤُلاءِ إنَّما تَرَكُوا النَّظَرَ والِاسْتِدْلالَ لِأنِّي لَمْ أُذِقْهم عَذابِي، ولَوْ ذاقُوهُ لَمْ يَقَعْ مِنهم إلّا الإقْبالُ عَلى أداءِ المَأْمُوراتِ والِانْتِهاءُ عَنِ المَنهِيّاتِ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ؛ ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِن ذِكْرِي﴾ هو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُخَوِّفُهم مِن عَذابِ اللَّهِ لَوْ أصَرُّوا عَلى الكُفْرِ، ثُمَّ إنَّهم أصَرُّوا عَلى الكُفْرِ، ولَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمُ العَذابُ، فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشَكِّهِمْ في صِدْقِهِ، وقالُوا: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ [الأنْفالِ: ٣٢] فَقالَ: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِن ذِكْرِي﴾ مَعْناهُ ما ذَكَرْناهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ﴾ مَعْناهُ أنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ عَدَمِ نُزُولِ العَذابِ. والوَجْهُ الثّانِي مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في الجَوابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ عِنْدَهم خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهّابِ﴾ وتَقْرِيرُ هَذا الجَوابِ أنَّ مَنصِبَ النُّبُوَّةِ مَنصِبٌ عَظِيمٌ ودَرَجَةٌ عالِيَةٌ، والقادِرُ عَلى هِبَتِها يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَزِيزًا أيْ: كامِلَ القُدْرَةِ، ووَهّابًا أيْ: عَظِيمَ الجُودِ، وذَلِكَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وإذا كانَ هو تَعالى كامِلَ القُدْرَةِ وكامِلَ الجُودِ، لَمْ يَتَوَقَّفْ كَوْنُهُ واهِبًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ عَلى كَوْنِ المَوْهُوبِ مِنهُ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا، ولَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ أيْضًا بِسَبَبِ أنَّ أعْداءَهُ يُحِبُّونَهُ أوْ يَكْرَهُونَهُ. والوَجْهُ الثّالِثُ في الجَوابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ لَهم مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذا الكَلامِ مُغايِرًا لِلْمُرادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿أمْ عِنْدَهم خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ والفَرْقُ أنَّ خَزائِنَ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ كَما قالَ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ [الحِجْرِ: ٢١] ومِن جُمْلَةِ تِلْكَ الخَزائِنِ هو هَذِهِ السَّماواتُ والأرْضُ، فَلَمّا ذَكَّرَنا الخَزائِنَ أوَّلًا عَلى عُمُومِها أرْدَفَها بِذِكْرِ ﴿مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ يَعْنِي أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ أحَدُ أنْواعِ خَزائِنِ اللَّهِ، فَإذا كُنْتُمْ عاجِزِينَ عَنْ هَذا القِسْمِ، فَبِأنْ تَكُونُوا عاجِزِينَ عَنْ كُلِّ خَزائِنِ اللَّهِ كانَ أوْلى، فَهَذا (p-١٥٨)ما أمْكَنَنِي ذِكْرُهُ في الفَرْقِ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ﴾ فالمَعْنى أنَّهم إنِ ادَّعَوْا أنَّ لَهم مُلْكَ السَّماواتِ والأرْضِ فَعِنْدَ هَذا يُقالُ لَهُمُ ارْتَقُوا في الأسْبابِ واصْعَدُوا في المَعارِجِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِها إلى العَرْشِ حَتّى يَرْتَقُوا عَلَيْهِ ويُدَبِّرُوا أمْرَ العالَمِ ومَلَكُوتَ اللَّهِ ويُنْزِلُوا الوَحْيَ عَلى مَن يَخْتارُونَ، واعْلَمْ أنَّ حُكَماءَ الإسْلامِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ﴾ عَلى أنَّ الأجْرامَ الفَلَكِيَّةَ وما أوْدَعَ اللَّهُ فِيها مِنَ القُوى والخَواصِّ أسْبابٌ لِحَوادِثِ العالَمِ السُّفْلِيِّ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى الفَلَكِيّاتِ أسْبابًا وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ واللَّهُ أعْلَمُ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزابِ﴾ فَفِيهِ مَقامانِ مِنَ البَحْثِ: أحَدُهُما: في تَفْسِيرِ هَذِهِ الألْفاظِ. والثّانِي: في كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِها بِما قَبْلَها. أمّا المَقامُ الأوَّلُ: فَقَوْلُهُ: ﴿جُنْدٌ﴾ مُبْتَدَأٌ وما لِلْإيهامِ كَقَوْلِهِ جِئْتُ لِأمْرٍ ما، وعِنْدِي طَعامٌ ما، و﴿مِنَ الأحْزابِ﴾ صِفَةٌ لِجُنْدٍ و﴿مَهْزُومٌ﴾ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿هُنالِكَ﴾ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِجُنْدٍ أيْ جُنْدٌ ثابِتٌ هُنالِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَهْزُومٍ مَعْناهُ أنَّ الجُنْدَ مِنَ الأحْزابِ مَهْزُومٌ هُنالِكَ، أيْ في ذَلِكَ المَوْضِعِ الَّذِي كانُوا يَذْكُرُونَ فِيهِ هَذِهِ الكَلِماتِ الطّاعِنَةَ في نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وأمّا المَقامُ الثّانِي: فَهو أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ إنْ كانُوا يَمْلِكُونَ السَّماواتِ والأرْضَ فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أنَّهم جُنْدٌ مِنَ الأحْزابِ ضَعِيفُونَ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ مالِكِي السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما، قالَ قَتادَةُ: هُنالِكَ إشارَةٌ إلى يَوْمِ بَدْرٍ فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِمَكَّةَ أنَّهُ سَيُهْزَمُ جُنْدُ المُشْرِكِينَ فَجاءَ تَأْوِيلُها يَوْمَ بَدْرٍ، وقِيلَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، والأصْوَبُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وذَلِكَ لِأنَّ المَعْنى أنَّهم جُنْدٌ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ في المَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ هَذِهِ الكَلِماتِ، وذَلِكَ المَوْضِعُ هو مَكَّةُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ في مَكَّةَ وما ذاكَ إلّا يَوْمَ الفَتْحِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب