الباحث القرآني

المُقَدِّمَةُ الأُولى: أنَّ إبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النّارِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهُ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والجانَّ خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ مِن نارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: ٢٧] . المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ النّارَ أفْضَلُ مِنَ الطِّينِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ الأجْرامَ الفَلَكِيَّةَ أشْرَفُ مِنَ الأجْرامِ العُنْصُرِيَّةِ، والنّارُ أقْرَبُ العَناصِرِ مِنَ الفَلَكِ، والأرْضُ أبْعَدُها عَنْهُ، فَوَجَبَ كَوْنُ النّارِ أفْضَلَ مِنَ الأرْضِ. الثّانِي: أنَّ النّارَ خَلِيفَةُ الشَّمْسِ والقَمَرِ في إضاءَةِ هَذا العالَمِ عِنْدَ غَيْبَتِهِما، والشَّمْسُ والقَمَرُ أشْرَفُ مِنَ الأرْضِ، فَخَلِيفَتُهُما في الإضاءَةِ أفْضَلُ مِنَ الأرْضِ. الثّالِثُ: أنَّ الكَيْفِيَّةَ الفاعِلَةَ الأصْلِيَّةَ، إمّا الحَرارَةُ أوِ البُرُودَةُ، والحَرارَةُ أفْضَلُ مِنَ البُرُودَةِ؛ لِأنَّ الحَرارَةَ تُناسِبُ الحَياةَ، والبُرُودَةُ تُناسِبُ المَوْتَ. الرّابِعُ: الأرْضُ كَثِيفَةٌ والنّارُ لَطِيفَةٌ، واللَّطافَةُ أشْرَفُ مِنَ الكَثافَةِ. الخامِسُ: النّارُ مُشْرِقَةٌ والأرْضُ مُظْلِمَةٌ، والنُّورُ خَيْرٌ مِنَ الظُّلْمَةِ. السّادِسُ: النّارُ خَفِيفَةٌ تُشْبِهُ الرُّوحَ، والأرْضُ ثَقِيلَةٌ تُشْبِهُ الجَسَدَ، والرُّوحُ أفْضَلُ مِنَ الجَسَدِ، فالنّارُ أفْضَلُ مِنَ الأرْضِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ الأطِبّاءَ أطْبَقُوا عَلى أنَّ العُنْصُرَيْنِ الثَّقِيلَيْنِ أعْوَنُ عَلى تَرْكِيبِ الأجْسادِ، وأنَّ العُنْصُرَيْنِ الخَفِيفَيْنِ أعَوْنُ عَلى تَوَلُّدِ الأرْواحِ. السّابِعُ: النّارُ صاعِدَةٌ والأرْضُ هابِطَةٌ، والصّاعِدُ أفْضَلُ مِنَ الهابِطِ. الثّامِنُ: أنَّ أوَّلَ بُرُوجِ الفَلَكِ هو الحَمَلُ، لِأنَّهُ هو الَّذِي يَبْدَأُ مِن نُقْطَةِ الِاسْتِواءِ الشَّمالِيِّ، ثُمَّ إنَّ الحَمَلَ عَلى طَبِيعَةِ النّارِ، وأشْرَفُ أعْضاءِ الحَيَوانِ القَلْبُ والرُّوحُ، وهُما عَلى طَبِيعَةِ النّارِ، وأخَسُّ أعْضاءِ الحَيَوانِ هو العَظْمُ، وهو بارِدٌ يابِسٌ أرْضِيٌّ. التّاسِعُ: أنَّ الأجْسامَ الأرْضِيَّةَ كُلَّما كانَتْ أشَدَّ نُورانِيَّةً ومُشابَهَةً بِالنّارِ كانَتْ أشْرَفَ، وكُلَّما كانَتْ أكْثَرَ غُبْرَةً وكَثافَةً وكُدُورَةً ومُشابَهَةً بِالأرْضِ كانَتْ أخَسَّ، مِثالُهُ: الأجْسامُ الشَّبِيهَةُ بِالنّارِ الذَّهَبُ والياقُوتُ (p-٢٠٣)والأحْجارُ الصّافِيَةُ النُّورانِيَّةُ، ومِثالُهُ أيْضًا مِنَ الثِّيابِ الإبْرَيْسَمُ وما يُتَّخَذُ مِنهُ، وأمّا أنَّ كَلَّ ما كانَ أكْثَرَ أرْضِيَّةً وغُبْرَةً فَهو أخَسُّ، فالأمْرُ ظاهِرٌ. العاشِرُ: أنَّ القُوَّةَ الباصِرَةَ قُوَّةٌ في غايَةِ الشَّرَفِ والجَلالَةِ، ولا يَتِمُّ عَمَلُها إلّا بِالشُّعاعِ وهو جِسْمٌ شَبِيهٌ بِالنّارِ. الحادِيَ عَشَرَ: أنَّ أشْرَفَ أجْسامِ العالَمِ الجُسْمانِيِّ هو الشَّمْسُ، ولا شَكَّ أنَّهُ شَبِيهٌ بِالنّارِ في صُورَتِهِ وطَبِيعَتِهِ وأثَرِهِ. الثّانِيَ عَشَرَ: أنَّ النُّضْجَ والهَضْمَ والحَياةَ لا تَتِمُّ إلّا بِالحَرارَةِ، ولَوْلا قُوَّةُ الحَرارَةِ لَما تَمَّ المِزاجُ وتَوَلَّدَتِ المُرَكَّباتُ. الثّالِثَ عَشَرَ: أنَّ أقْوى العَناصِرِ الأرْبَعَةِ في قُوَّةِ الفِعْلِ هو النّارُ، وأكْمَلُها في قُوَّةِ الِانْفِعالِ هو الأرْضُ، والفِعْلُ أفْضَلُ مِنَ الِانْفِعالِ، فالنّارُ أفْضَلُ مِنَ الأرْضِ. أمّا القائِلُونَ بِتَفْضِيلِ الأرْضِ عَلى النّارِ فَذَكَرُوا أيْضًا وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ الأرْضَ أمِينٌ مُصْلِحٌ، فَإذا أوْدَعْتَها حَبَّةً رَدَّتْها إلَيْكَ شَجَرَةً مُثْمِرَةً، والنّارُ خائِنَةٌ تُفْسِدُ كُلَّ ما أسْلَمْتَهُ إلَيْها. الثّانِي: أنَّ الحِسَّ البَصَرِيَّ أثْنى عَلى النّارِ، فَلْيَسْتَمِعْ ما يَقُولُهُ الحِسُّ اللَّمْسِيُّ. الثّالِثُ: أنَّ الأرْضَ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلى النّارِ، فَإنَّها تُطْفِئُ النّارَ، وأمّا النّارُ فَإنَّها لا تُؤَثِّرُ في الأرْضِ الخالِصَةِ. وأمّا المُقَدِّمَةُ الثّالِثَةُ: فَهي أنَّ مَن كانَ أصْلُهُ خَيْرًا مِن أصْلِهِ فَهو خَيْرٌ مِنهُ، فاعْلَمْ أنَّ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ كاذِبَةٌ جِدًّا، وذَلِكَ لِأنَّ أصْلَ الرَّمادِ النّارُ، وأصْلَ البَساتِينِ النَّزِهَةِ والأشْجارِ المُثْمِرَةِ هو الطِّينُ، ومَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الأشْجارَ المُثْمِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الرَّمادِ، وأيْضًا فَهَبْ أنَّ اعْتِبارَ هَذِهِ الجِهَةِ يُوجِبُ الفَضِيلَةَ، إلّا أنَّ هَذا يُمْكِنُ أنْ يَصِيرَ مُعارَضًا بِجِهَةٍ أُخْرى تُوجِبُ الرُّجْحانَ، مِثْلَ إنْسانٍ نَسِيبٍ عارٍ عَنْ كُلِّ الفَضائِلِ، فَإنَّ نَسَبَهُ يُوجِبُ رُجْحانَهُ، إلّا أنَّ الَّذِي لا يَكُونُ نَسِيبًا قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ العِلْمِ والزُّهْدِ، فَيَكُونُ هو أفْضَلَ مِن ذَلِكَ النَّسِيبِ بِدَرَجاتٍ لا حَدَّ لَها، فالمُقَدِّمَةُ الكاذِبَةُ في القِياسِ الَّذِي ذَكَرَهُ إبْلِيسُ هو هَذِهِ المُقَدِّمَةُ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَبْ أنَّ إبْلِيسَ أخْطَأ في هَذا القِياسِ، لَكِنْ كَيْفَ لَزِمَهُ الكُفْرُ مِن تِلْكَ المُخالَفَةِ ؟ وبَيانُ هَذا السُّؤالِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: (اسْجُدُوا) أمْرٌ، والأمْرُ لا يَقْتَضِي الوُجُوبَ بَلِ النَّدْبَ، ومُخالَفَةُ النَّدْبِ لا تُوجِبُ العِصْيانَ فَضْلًا عَنِ الكُفْرِ، وأيْضًا فالَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ فَهم لا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مُحْتَمِلًا لِلنَّدْبِ احْتِمالًا ظاهِرًا، ومَعَ قِيامِ هَذا الِاحْتِمالِ الظّاهِرِ كَيْفَ يَلْزَمُ العِصْيانُ فَضْلًا عَنِ الكُفْرِ. الثّانِي: هَبْ أنَّهُ لِلْوُجُوبِ، إلّا أنَّ إبْلِيسَ ما كانَ مِنَ المَلائِكَةِ، فَأمْرُ المَلائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لا يَدْخُلُ فِيهِ إبْلِيسُ. الثّالِثُ: هَبْ أنَّهُ يَتَناوَلُهُ إلّا أنَّ تَخْصِيصَ العامِّ بِالقِياسِ جائِزٌ، فَخَصَّصَ نَفْسَهُ عَنْ عُمُومِ ذَلِكَ الأمْرِ بِالقِياسِ. الرّابِعُ: هَبْ أنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ كانَ مَأْمُورًا بِهِ إلّا أنَّ هَذا القَدْرَ يُوجِبُ العِصْيانَ ولا يُوجِبُ الكُفْرَ، فَكَيْفَ لَزِمَهُ الكُفْرُ، الجَوابُ: هَبْ أنَّ صِيغَةَ الأمْرِ لا تَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ، ولَكِنْ يَجُوزُ أنْ يَنْضَمَّ إلَيْها مِنَ القَرائِنِ ما يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ، وهَهُنا حَصَلَتْ تِلْكَ القَرائِنُ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أأسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾ فَلَمّا أتى إبْلِيسُ بِقِياسِهِ الفاسِدِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ إنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ القِياسَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلى القَدْحِ في أمْرِ اللَّهِ وتَكْلِيفِهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ الكُفْرَ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ إبْلِيسَ لَمّا ذَكَرَ هَذا القِياسَ الفاسِدَ، قالَ تَعالى: ﴿فاخْرُجْ مِنها فَإنَّكَ رَجِيمٌ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ عَقِيبَ الوَصْفِ المُناسِبِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ ذَلِكَ الحُكْمِ (p-٢٠٤)مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوَصْفِ، وهَهُنا الحُكْمُ بِكَوْنِهِ رَجِيمًا ورَدَ عَقِيبَ ما حُكِيَ عَنْهُ أنَّهُ خَصَّصَ النَّصَّ بِالقِياسِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالقِياسِ يُوجِبُ هَذا الحُكْمَ، وقَوْلُهُ: (مِنها) أيْ: مِنَ الجَنَّةِ أوْ مِنَ السَّماواتِ، والرَّجِيمُ المَرْجُومُ، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ مَجازٌ عَنِ الطَّرْدِ، لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن طُرِدَ فَقَدْ يُرْمى بِالحِجارَةِ وهو الرَّجْمُ، فَلَمّا كانَ الرَّجْمُ مِن لَوازِمِ الطَّرْدِ جُعِلَ الرَّجْمُ كِنايَةً عَنِ الطَّرْدِ، فَإنْ قالُوا: الطَّرْدُ هو اللَّعْنُ فَلَوْ حَمَلْنا قَوْلَهُ: (رَجِيمٌ) عَلى الطَّرْدِ لَكانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾ تَكْرارًا، والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنّا نَحْمِلُ الرَّجْمَ عَلى الطَّرْدِ مِنَ الجَنَّةِ أوْ مِنَ السَّماواتِ، ونَحْمِلُ اللَّعْنَ عَلى الطَّرْدِ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ. والثّانِي: أنّا نَحْمِلُ الرَّجْمَ عَلى الطَّرْدِ، ونَحْمِلُ قَوْلَهُ: ﴿وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ عَلى أنَّ ذَلِكَ الطَّرْدَ يَمْتَدُّ إلى آخِرِ القِيامَةِ فَيَكُونُ هَذا فائِدَةً زائِدَةً، ولا يَكُونُ تَكْرِيرًا. والقَوْلُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ الرَّجِيمِ أنْ نَحْمِلَهُ عَلى الحَقِيقَةِ، وهو كَوْنُ الشَّياطِينِ مَرْجُومِينَ بِالشُّهُبِ، واللَّهُ أعْلَمُ. فَإنْ قِيلَ: كَلِمَةُ ”إلى“ لِانْتِهاءِ الغايَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿إلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ يَقْتَضِي انْقِطاعَ تِلْكَ اللَّعْنَةِ عِنْدَ مَجِيءِ يَوْمِ الدِّينِ، أجابَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ بِأنَّ اللَّعْنَةَ باقِيَةٌ عَلَيْهِ في الدُّنْيا، فَإذا جاءَ يَوْمُ القِيامَةِ جُعِلَ مَعَ اللَّعْنَةِ أنْواعٌ مِنَ العَذابِ تَصِيرُ اللَّعْنَةُ مَعَ حُضُورِها مَنسِيَّةً. واعْلَمْ أنَّ إبْلِيسَ لَمّا صارَ مَلْعُونًا قالَ: ﴿فَأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ قِيلَ: إنَّما طَلَبَ الإنْظارَ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، لِأجْلِ أنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ المَوْتِ، لِأنَّهُ إذا نُظِرَ إلى يَوْمِ البَعْثِ لَمْ يَمُتْ قَبْلَ يَوْمِ البَعْثِ وعِنْدَ مَجِيءِ يَوْمِ البَعْثِ لا يَمُوتُ أيْضًا، فَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنَ المَوْتِ، فَقالَ تَعالى: ﴿فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ ﴿إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ ومَعْناهُ: إنَّكَ مِنَ المَنظَرِينَ إلى يَوْمٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ ولا يَعْلَمُهُ أحَدٌ سِواهُ، فَقالَ إبْلِيسُ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ وهو قَسَمٌ بِعَزَّةِ اللَّهِ وسُلْطانِهِ ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ فَهَهُنا أضافَ الإغْواءَ إلى نَفْسِهِ، وهو عَلى مَذْهَبِ القَدَرِ، وقالَ مَرَّةً أُخْرى: ﴿رَبِّ بِما أغْوَيْتَنِي﴾ فَأضافَ الإغْواءَ إلى اللَّهِ عَلى ما هو مَذْهَبُ الجَبْرِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مُتَحَيِّرٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ فَفِيهِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: قِيلَ: غَرَضُ إبْلِيسَ مِن ذِكْرِهِ هَذا الِاسْتِثْناءَ أنْ لا يَقَعَ في كَلامِهِ الكَذِبُ، لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَذا الِاسْتِثْناءَ، وادَّعى أنَّهُ يُغْوِي الكُلَّ، لَكانَ يَظْهَرُ كَذِبُهُ حِينَ يَعْجَزُ عَنْ إغْواءِ عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ، فَكَأنَّ إبْلِيسَ قالَ: إنَّما ذَكَرْتُ هَذا الِاسْتِثْناءَ لِئَلّا يَقَعَ الكَذِبُ في هَذا الكَلامِ، وعَنْ هَذا يُقالُ: إنَّ الكَذِبَ شَيْءٌ يَسْتَنْكِفُ مِنهُ إبْلِيسُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالمُسْلِمِ الإقْدامُ عَلَيْهِ ؟ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] ؟ قُلْنا: إنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَقُلْ: إنِّي لَمْ أقْصِدْ إغْواءَ عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ، بَلْ قالَ: لَأُغْوِيَنَّهم، وهو وإنْ كانَ يَقْصِدُ الإغْواءَ إلّا أنَّهُ لا يُغْوِيهِمْ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ إبْلِيسَ لا يُغْوِي عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ، وقالَ تَعالى في صِفَةِ يُوسُفَ: ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: ٢٤] فَنَصِلُ مِن مَجْمُوعِ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ أنَّ إبْلِيسَ ما أغْوى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَذِبِ الحَشْوِيَّةِ فِيما يَنْسُبُونَ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ القَبائِحِ. (p-٢٠٥)واعْلَمْ أنَّ إبْلِيسَ لَمّا ذَكَرَ هَذا الكَلامَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ﴾ ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهم أجْمَعِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ ﴿فالحَقُّ﴾ بِالرَّفْعِ ﴿والحَقَّ﴾ بِالنَّصْبِ، والباقُونَ بِالنَّصْبِ فِيهِما. أمّا الرَّفْعُ فَتَقْدِيرُهُ: فالحَقُّ قَسَمِي، وأمّا النَّصْبُ فَعَلى القَسَمِ، أيْ: فَبِالحَقِّ، كَقَوْلِكَ: واللَّهِ لَأفْعَلَنَّ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿والحَقَّ أقُولُ﴾ انْتُصِبَ قَوْلُهُ: ”والحَقَّ“ بِقَوْلِهِ: ﴿أقُولُ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِنكَ﴾ أيْ: مِن جِنْسِكَ، وهُمُ الشَّياطِينُ ﴿ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهُمْ﴾ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﴿أجْمَعِينَ﴾ تَأْكِيدٌ لِماذا ؟ قُلْنا: يُحْتَمَلُ أنْ يُؤَكَّدَ بِهِ الضَّمِيرُ في ”مِنهم“، أوِ الكافُ في ”مِنكَ“ مَعَ ”مَن تَبِعَكَ“، ومَعْناهُ: لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ المَتْبُوعِينَ والتّابِعِينَ، لا أتْرُكُ مِنهم أحَدًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ في مَسْألَةِ أنَّ الكُلَّ بِقَضاءِ اللَّهِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في حَقِّ إبْلِيسَ: ﴿فاخْرُجْ مِنها فَإنَّكَ رَجِيمٌ﴾ ﴿وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ فَهَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ، فَلَوْ آمَنَ لانْقَلَبَ خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا، وهو مُحالٌ، فَكانَ صُدُورُ الإيمانِ مِنهُ مُحالًا مَعَ أنَّهُ أمَرَ بِهِ. والثّانِي: أنَّهُ قالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ فاللَّهُ تَعالى عَلِمَ مِنهُ أنَّهُ يُغْوِيهِمْ، وسَمِعَ مِنهُ هَذِهِ الدَّعْوى، وكانَ قادِرًا عَلى مَنعِهِ عَنْ ذَلِكَ، والقادِرُ عَلى المَنعِ إذا لَمْ يَمْنَعْ كانَ راضِيًا بِهِ، فَإنْ قالُوا: لَعَلَّ ذَلِكَ المَنعَ مُفْسِدٌ، قُلْنا: هَذا قَوْلٌ فاسِدٌ، لِأنَّ ذَلِكَ المَنعَ يُخَلِّصُ إبْلِيسَ عَنِ الإضْلالِ، ويُخَلِّصُ بَنِي آدَمَ عَنِ الضَّلالِ، وهَذا عَيْنُ المَصْلَحَةِ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الكَفَرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكْفُرُوا لَزِمَ الكَذِبُ والجَهْلُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى. الرّابِعُ: أنَّهُ لَوْ أرادَ أنْ لا يَكْفُرَ الكافِرُ لَوَجَبَ أنْ يُبْقِيَ الأنْبِياءَ والصّالِحِينَ، وأنْ يُمِيتَ إبْلِيسَ والشَّياطِينَ، وحَيْثُ قَلَبَ الأمْرَ عَلِمْنا أنَّهُ فاسِدٌ. الخامِسُ: أنَّ تَكْلِيفَ أُولَئِكَ الكُفّارِ بِالإيمانِ يَقْتَضِي تَكْلِيفَهم بِالإيمانِ بِهَذِهِ الآياتِ الَّتِي هي دالَّةٌ عَلى أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ألْبَتَّةَ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ يَصِيرُوا مُكَلَّفِينَ بِأنْ يُؤْمِنُوا بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ألْبَتَّةَ، وذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِما لا يُطاقُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب