الباحث القرآني

المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ مَن أثْبَتَ الأعْضاءَ والجَوارِحَ لِلَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ في إثْباتِ يَدَيْنِ لِلَّهِ تَعالى، بِأنْ قالُوا ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، والآياتُ الكَثِيرَةُ وارِدَةٌ عَلى وفْقِ هَذِهِ الآيَةِ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِهِ. واعْلَمْ أنَّ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى نَفْيِ كَوْنِهِ تَعالى جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأعْضاءِ، قَدْ سَبَقَتْ، إلّا أنّا نَذْكُرُ هَهُنا نُكَتًا جارِيَةً مَجْرى الإلْزاماتِ الظّاهِرَةِ. فالأوَّلُ: أنَّ مَن قالَ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الأعْضاءِ والأجْزاءِ، فَإمّا أنْ يُثْبِتَ الأعْضاءَ الَّتِي ورَدَ ذِكْرُها في القُرْآنِ ولا يَزِيدَ عَلَيْها، وإمّا أنْ يَزِيدَ عَلَيْها، فَإنْ كانَ الأوَّلُ لَزِمَهُ إثْباتُ صُورَةٍ لا يُمْكِنُ أنْ يُزادَ عَلَيْها في القُبْحِ، لِأنَّهُ يَلْزَمُهُ إثْباتُ وجْهٍ بِحَيْثُ لا يُوجَدُ مِنهُ إلّا مُجَرَّدُ رُقْعَةِ الوَجْهِ لِقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القَصَصِ: ٨٨] ويَلْزَمُهُ أنْ يُثْبِتَ في تِلْكَ الرُّقْعَةِ عُيُونًا كَثِيرَةً لِقَوْلِهِ: ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ [القَمَرِ: ١٤] وأنْ يُثْبِتَ جَنْبًا واحِدًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَفْسٌ ياحَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزُّمَرِ: ٥٦] وأنْ يُثْبِتَ عَلى ذَلِكَ الجَنْبِ أيْدِيَ كَثِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا﴾ [يس: ٧١] وبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ لَهُ يَدانِ فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ كِلاهُما عَلى جانِبٍ واحِدٍ لِقَوْلِهِ ﷺ: «الحَجَرُ الأسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ في الأرْضِ» وأنْ يُثْبِتَ لَهُ ساقًا واحِدًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ﴾ [القَلَمِ: ٤٢] فَيَكُونُ الحاصِلُ مِن هَذِهِ الصُّورَةِ، مُجَرَّدَ رُقْعَةِ الوَجْهِ (p-٢٠٠)ويَكُونُ عَلَيْها عُيُونٌ كَثِيرَةٌ، وجَنْبٌ واحِدٌ ويَكُونُ عَلَيْهِ أيْدٍ كَثِيرَةٌ وساقٌ واحِدٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ أقْبَحُ الصُّوَرِ، ولَوْ كانَ هَذا عَبْدًا لَمْ يَرْغَبْ أحَدٌ في شِرائِهِ، فَكَيْفَ يَقُولُ العاقِلُ إنَّ رَبَّ العالَمِينَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ. وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ لا يَقْتَصِرَ عَلى الأعْضاءِ المَذْكُورَةِ في القُرْآنِ، بَلْ يَزِيدُ ويَنْقُصُ عَلى وفْقِ التَّأْوِيلاتِ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَذْهَبُهُ في الحَمْلِ عَلى مُجَرَّدِ الظَّواهِرِ، ولا بُدَّ لَهُ مِن قَبُولِ دَلائِلِ العَقْلِ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: في إبْطالِ قَوْلِهِمْ إنَّهم إذا أثْبَتُوا الأعْضاءَ لِلَّهِ تَعالى، فَإنْ أثْبَتُوا لَهُ عُضْوَ الرَّجُلِ فَهو رَجُلٌ، وإنْ أثْبَتُوا لَهُ عُضْوَ النِّساءِ فَهو أُنْثى، وإنْ نَفَوْهُما فَهو خَصِيٌّ أوْ عِنِّينٌ، وتَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ في ذاتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، إمّا أنْ يَكُونَ جِسْمًا صُلْبًا لا يَنْغَمِزُ البَتَّةَ، فَيَكُونُ حَجَرًا صُلْبًا، وإمّا أنْ يَكُونَ قابِلًا لِلِانْغِمازِ، فَيَكُونُ لَيِّنًا قابِلًا لِلتَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ. وتَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّهُ إنْ كانَ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَتَحَرَّكَ عَنْ مَكانِهِ، كانَ كالزَّمِنِ المُقْعَدِ العاجِزِ، وإنْ كانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَحَرَّكَ عَنْ مَكانِهِ، كانَ مَحَلًّا لِلتَّغَيُّراتِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [الأنْعامِ: ٧٦] . الحُجَّةُ الخامِسَةُ: إنْ كانَ لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ ولا يَنامُ ولا يَتَحَرَّكُ كانَ كالمَيِّتِ، وإنْ كانَ يَفْعَلُ هَذِهِ الأشْياءَ، كانَ إنْسانًا كَثِيرَ التُّهْمَةِ مُحْتاجًا إلى الأكْلِ والشُّرْبِ والوِقاعِ وذَلِكَ باطِلٌ. الحُجَّةُ السّادِسَةُ: أنَّهم يَقُولُونَ إنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ العَرْشِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَنَقُولُ لَهم حِينَ نُزُولِهِ: هَلْ يَبْقى مُدَبِّرًا لِلْعَرْشِ ويَبْقى مُدَبِّرًا لِلسَّماءِ الدُّنْيا حِينَ كانَ عَلى العَرْشِ، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى في النُّزُولِ فائِدَةٌ، وإنْ لَمْ يَبْقَ مُدَبِّرًا لِلْعَرْشِ فَعِنْدَ نُزُولِهِ يَصِيرُ مَعْزُولًا عَنْ إلَهِيَّةِ العَرْشِ والسَّماواتِ. الحُجَّةُ السّابِعَةُ: أنَّهم يَقُولُونَ إنَّهُ تَعالى أعْظَمُ مِنَ العَرْشِ، وإنَّ العَرْشَ لا نِسْبَةَ لِعَظَمَتِهِ إلى عَظَمَةِ الكُرْسِيِّ، وعَلى هَذا التَّرْتِيبِ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتِ السَّماءُ الدُّنْيا بِالنِّسْبَةِ إلى عَظَمَةِ اللَّهِ كالذَّرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلى البَحْرِ، فَإذا نَزَلَ فَإمّا أنْ يُقالَ إنَّ الإلَهَ يَصِيرُ صَغِيرًا بِحَيْثُ تَسَعُهُ السَّماءُ الدُّنْيا، وإمّا أنْ يُقالَ إنَّ السَّماءَ الدُّنْيا تَصِيرُ أعْظَمَ مِنَ العَرْشِ، وكُلُّ ذَلِكَ باطِلٌ. الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: ثَبَتَ أنَّ العالَمَ كُرَةٌ، فَإنْ كانَ فَوْقَ بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْمٍ كانَ تَحْتَ بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْمٍ آخَرِينَ وذَلِكَ باطِلٌ، وإنْ كانَ فَوْقَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُلِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ جِسْمًا مُحِيطًا بِهَذا العالَمِ مِن كُلِّ الجَوانِبِ، فَيَكُونُ إلَهُ العالَمِ عَلى هَذا القَوْلِ فَلَكًا مِنَ الأفْلاكِ. الحُجَّةُ التّاسِعَةُ: لَمّا كانَتِ الأرْضُ كُرَةً، وكانَتِ السَّماواتُ كُراتٍ، فَكُلُّ ساعَةٍ تُفْرَضُ السّاعاتُ فَإنَّها تَكُونُ ثُلْثَ اللَّيْلِ في حَقِّ أقْوامٍ مُعَيَّنِينَ مِن سُكّانِ كُرَةِ العَوارِضِ، فَلَوْ نَزَلَ مِنَ العَرْشِ في ثُلْثِ اللَّيْلِ وجَبَ أنْ يَبْقى أبَدًا نازِلًا عَنِ العَرْشِ، وأنْ لا يَرْجِعَ إلى العَرْشِ البَتَّةَ. الحُجَّةُ العاشِرَةُ: أنّا إنَّما زَيَّفْنا إلَهِيَّةَ الشَّمْسِ والقَمَرِ لِثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ العُيُوبِ: أوَّلُها: كَوْنُهُ مُؤَلَّفًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ. وثانِيها: كَوْنُهُ مَحْدُودًا مُتَناهِيًا. وثالِثُها: كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِالحَرَكَةِ والسُّكُونِ والطُّلُوعِ (p-٢٠١)والغُرُوبِ، فَإذا كانَ إلَهُ المُشَبِّهَةِ مُؤَلَّفًا مِنَ الأعْضاءِ والأجْزاءِ كانَ مُرَكَّبًا، فَإذا كانَ عَلى العَرْشِ كانَ مَحْدُودًا مُتَناهِيًا، وإنْ كانَ يَنْزِلُ مِنَ العَرْشِ ويَرْجِعُ إلَيْهِ كانَ مَوْصُوفًا بِالحَرَكَةِ والسُّكُونِ، فَهَذِهِ الصِّفاتُ الثَّلاثَةُ إنْ كانَتْ مُنافِيَةً لِلْإلَهِيَّةِ وجَبَ تَنْزِيهُ الإلَهِ عَنْها بِأسْرِها، وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ المُشَبِّهَةِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مُنافِيَةً لِلْإلَهِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى الطَّعْنِ في إلَهِيَّةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ. الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] ولَفْظُ الأحَدِ مُبالَغَةٌ في الوَحْدَةِ، وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهُ مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ. الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ [محمد: ٣٨] ولَوْ كانَ مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ لَكانَ مُحْتاجًا إلَيْها، وذَلِكَ يَمْنَعُ مِن كَوْنِهِ غَنِيًّا عَلى الإطْلاقِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ القَوْلَ بِإثْباتِ الأعْضاءِ والأجْزاءِ لِلَّهِ مُحالٌ، ولَمّا ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ اليَقِينِيَّةِ وُجُوبُ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى عَنْ هَذِهِ الأعْضاءِ - فَنَقُولُ: ذَكَرَ العُلَماءُ في لَفْظِ اليَدِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ اليَدَ عِبارَةٌ عَنِ القُدْرَةِ، تَقُولُ العَرَبُ: ما لِي بِهَذا الأمْرِ مِن يَدٍ، أيْ: مِن قُوَّةٍ وطاقَةٍ، قالَ تَعالى: ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧] . الثّانِي: اليَدُ عِبارَةٌ عَنِ النِّعْمَةِ؛ يُقالُ: أيادِي فُلانٍ في حَقِّ فُلانٍ ظاهِرَةٌ، والمُرادُ النِّعَمُ، والمُرادُ بِاليَدَيْنِ النِّعَمُ الظّاهِرَةُ والباطِنَةُ أوْ نِعَمُ الدِّينِ والدُّنْيا. الثّالِثُ: أنَّ لَفْظَ اليَدِ قَدْ يُزادُ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِ القائِلِ لِمَن جَنى بِاللِّسانِ: هَذا ما كَسَبَتْ يَداكَ، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: ٥٧] . ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: حَمْلُ اليَدِ عَلى القُدْرَةِ هَهُنا غَيْرُ جائِزٍ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي إثْباتَ اليَدَيْنِ، فَلَوْ كانَتِ اليَدُ عِبارَةً عَنِ القُدْرَةِ لَزِمَ إثْباتُ قُدْرَتَيْنِ لِلَّهِ، وهو باطِلٌ. والثّانِي: أنَّ الآيَةَ تَقْتَضِي أنَّ كَوْنَ آدَمَ مَخْلُوقًا بِاليَدَيْنِ يُوجِبُ فَضِيلَتَهُ وكَوْنَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلائِكَةِ، فَلَوْ كانَتِ اليَدُ عِبارَةً عَنِ القُدْرَةِ لَكانَ آدَمُ مَخْلُوقًا بِالقُدْرَةِ، لَكِنَّ جَمِيعَ الأشْياءِ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، فَكَما أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَخْلُوقٌ بِيَدِ اللَّهِ تَعالى، فَكَذَلِكَ إبْلِيسُ مَخْلُوقٌ بِيَدِ اللَّهِ تَعالى، وعَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ عِبارَةً عَنِ القُدْرَةِ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ العِلَّةُ عِلَّةً، لِكَوْنِ آدَمَ مَسْجُودًا لِإبْلِيسَ أوْلى مِن أنْ يَكُونَ إبْلِيسُ مَسْجُودًا لِآدَمَ، وحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ نَظْمُ الآيَةِ ويَبْطُلُ. الثّالِثُ: أنَّهُ جاءَ في الحَدِيثِ أنَّهُ ﷺ قالَ: «كِلْتا يَدَيْهِ يُمْنى» ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا الوَصْفَ لا يَلِيقُ بِالقُدْرَةِ. وأمّا التَّأْوِيلُ الثّانِي: وهو حَمْلُ اليَدَيْنِ عَلى النِّعْمَتَيْنِ، فَهو أيْضًا باطِلٌ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى كَثِيرَةٌ كَما قالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ اليَدَ لا تَزِيدُ عَلى الِاثْنَتَيْنِ. الثّانِي: لَوْ كانَتِ اليَدُ عِبارَةً عَنِ النِّعْمَةِ، فَنَقُولُ: النِّعْمَةُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ آدَمُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعالى، بَلْ يَكُونُ مَخْلُوقًا لِبَعْضِ المَخْلُوقاتِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَزِيدِ النُّقْصانِ أوْلى مِن أنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الكَمالِ. الثّالِثُ: لَوْ كانَتِ اليَدُ عِبارَةً عَنِ النِّعْمَةِ لَكانَ قَوْلُهُ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك: ١] مَعْناهُ: تَبارَكَ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ المُلْكُ، ولَكانَ قَوْلُهُ: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ مَعْناهُ: بِنِعْمَتِكَ الخَيْرُ، ولَكانَ قَوْلُهُ: ﴿يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ [المائدة: ٦٤] مَعْناهُ: نِعْمَتاهُ مَبْسُوطَتانِ، ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ ذَلِكَ فاسِدٌ. وأمّا التَّأْوِيلُ الثّالِثُ: وهو قَوْلُهُ: إنَّ لَفْظَ اليَدِ قَدْ يُذْكَرُ زِيادَةً لِأجْلِ التَّأْكِيدِ، فَنَقُولُ: لَفْظُ اليَدِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ في (p-٢٠٢)حَقِّ مَن يَكُونُ هَذا العُضْوُ حاصِلًا لَهُ، وفي حَقِّ مَن لا يَكُونُ هَذا العُضْوُ حاصِلًا في حَقِّهِ. أمّا الأوَّلُ: فَكَقَوْلِهِمْ في حَقِّ مَن جَنى بِلِسانِهِ: هَذا ما كَسَبَتْ يَداكَ، والسَّبَبُ في هَذا أنَّ مَحَلَّ القُدْرَةِ هو اليَدُ، فَأطْلَقَ اسْمَ اليَدِ عَلى القُدْرَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَصِيرُ المُرادُ مِن لَفْظِ اليَدِ القُدْرَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ إبْطالُ هَذا الوَجْهِ. وأمّا الثّانِي: فَكَقَوْلِهِ ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٤٦] وقَوْلِهِ: (بَيْنَ يَدَيِ السّاعَةِ) إلّا أنّا نَقُولُ: هَذا المَجازُ بِهَذا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ، والمَجازُ لا يُقاسُ عَلَيْهِ، ولا يَكُونُ مُطَّرِدًا، فَلا جَرَمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذا المَعْنى إنَّما حَصَلَ بِيَدِ العَذابِ وبِيَدِ السّاعَةِ، ونَحْنُ نُسَلِّمُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١] قَدْ يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ التَّأْكِيدُ والصِّلَةُ، أمّا المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ هَذا اللَّفْظُ، بَلْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وإنْ كانَ القِياسُ في المَجازاتِ باطِلًا فَقَدْ سَقَطَ كَلامُكم بِالكُلِّيَّةِ، فَهَذا مُنْتَهى البَحْثِ في هَذا البابِ. والَّذِي تَلَخَّصَ عِنْدِي في هَذا البابِ أنَّ السُّلْطانَ العَظِيمَ لا يَقْدِرُ عَلى عَمَلِ شَيْءٍ بِيَدِهِ إلّا إذا كانَتْ غايَةُ عِنايَتِهِ مَصْرُوفَةً إلى ذَلِكَ العَمَلِ، فَإذا كانَتِ العِنايَةُ الشَّدِيدَةُ مِن لَوازِمِ العَمَلِ بِاليَدِ أمْكَنَ جَعْلُهُ مَجازًا عَنْهُ عِنْدَ قِيامِ الدَّلائِلِ القاهِرَةِ، فَهَذا ما لَخَّصْناهُ في هَذا البابِ، واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾ فالمَعْنى: أسْتَكْبَرْتَ الآنَ أمْ كُنْتَ أبَدًا مِنَ المُتَكَبِّرِينَ العالِينَ، فَأجابَ إبْلِيسُ بِقَوْلِهِ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ فالمَعْنى: أنِّي لَوْ كُنْتُ مُساوِيًا لَهُ في الشَّرَفِ لَكانَ يَقْبُحُ أمْرِي بِسُجُودِي لَهُ، فَكَيْفَ وأنا خَيْرٌ مِنهُ، ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَهُ خَيْرًا مِنهُ بِأنَّ أصْلَهُ مِنَ النّارِ، والنّارُ أشْرَفُ مِنَ الطِّينِ، فَصَحَّ أنَّ أصْلَهُ خَيْرٌ مِن أصْلِ آدَمَ، ومَن كانَ أصْلُهُ خَيْرًا مِن أصْلِهِ فَهو خَيْرٌ مِنهُ، فَهَذِهِ مُقَدِّماتٌ ثَلاثٌ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب