الباحث القرآني

(p-١٩٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ ﴿إلّا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ ﴿قالَ ياإبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أأسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾ ﴿قالَ أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ ﴿قالَ فاخْرُجْ مِنها فَإنَّكَ رَجِيمٌ﴾ ﴿وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ ﴿قالَ رَبِّ فَأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿قالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ ﴿إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ ﴿قالَ فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ﴾ ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهم أجْمَعِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ هَذِهِ القِصَّةِ المَنعُ مِنَ الحَسَدِ والكِبْرِ، وذَلِكَ لِأنَّ إبْلِيسَ، إنَّما وقَعَ فِيما وقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ الحَسَدِ والكِبْرِ، والكَفّارُ إنَّما نازَعُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلامُ بِسَبَبِ الحَسَدِ والكِبْرِ، فاللَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ هَهُنا لِيَصِيرَ سَماعُها زاجِرًا لَهم عَنْ هاتَيْنِ الخَصْلَتَيْنِ المَذْمُومَتَيْنِ، والحاصِلُ أنَّهُ تَعالى رَغَّبَ المُكَلَّفِينَ في النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، ومَنَعَهم عَنِ الإصْرارِ والتَّقْلِيدِ وذَكَرَ في تَقْرِيرِهِ أُمُورًا أرْبَعَةً: أوَّلُها: أنَّهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَيَجِبُ الِاحْتِياطُ فِيهِ. والثّانِي: أنَّ قِصَّةَ سُؤالِ المَلائِكَةِ عَنِ الحِكْمَةِ في تَخْلِيقِ البَشَرِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحِكْمَةَ الأصْلِيَّةَ في تَخْلِيقِ آدَمَ هو المَعْرِفَةُ والطّاعَةُ لا الجَهْلُ والتَّكَبُّرُ. الثّالِثُ: أنَّ إبْلِيسَ إنَّما خاصَمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأجْلِ الحَسَدِ والكِبْرِ فَيَجِبُ عَلى العاقِلِ أنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُما، فَهَذا هو وجْهُ النَّظْمِ في هَذِهِ الآياتِ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُها في سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ إلّا ما لا بُدَّ مِنهُ وفِيها مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ سُؤالاتٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا النَّظْمَ إنَّما يَصِحُّ لَوْ أمْكَنَ خَلْقُ البَشَرِ لا مِنَ الطِّينِ، كَما إذا قِيلَ أنا مُتَّخِذٌ سُوارًا مِن ذَهَبٍ، فَهَذا إنَّما يَسْتَقِيمُ لَوْ أمْكَنَ اتِّخاذُهُ مِنَ الفِضَّةِ. الثّانِي: ذَكَرَ هَهُنا أنَّهُ خَلَقَ البَشَرَ مِن طِينٍ، وفي سائِرِ الآياتِ ذَكَرَ أنَّهُ خَلَقَهُ مِن سائِرِ الأشْياءِ كَقَوْلِهِ تَعالى في آدَمَ إنَّهُ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ، وكَقَوْلِهِ: ﴿مِن صَلْصالٍ مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحِجْرِ: ٢٨] وكَقَوْلِهِ: ﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ [الأنْبِياءِ: ٣٧] . الثّالِثُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ المَلائِكَةَ بِأنَّهُ خَلَقَ بَشَرًا مِن طِينٍ. لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وفي الآيَةِ الأُخْرى وهي الَّتِي قالَ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ بَيَّنَ أنَّهم أوْرَدُوا السُّؤالَ والجَوابَ فَبَيْنَهُما تَناقُضٌ، والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّ التَّقْدِيرَ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ وصَفَ لَهم أوَّلًا أنَّ البَشَرَ شَخْصٌ جامِعٌ لِلْقُوَّةِ البَهِيمِيَّةِ والسَّبْعِيَّةِ والشَّيْطانِيَّةِ والمَلَكِيَّةِ، فَلَمّا قالَ: ﴿إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ فَكَأنَّهُ قالَ ذَلِكَ الشَّخْصُ المُسْتَجْمِعُ لِتِلْكَ الصِّفاتِ، إنَّما أخْلُقُهُ مِنَ الطِّينِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي أنَّ المادَّةَ البَعِيدَةَ هو التُّرابُ، وأقْرَبُ مِنهُ الطِّينُ، وأقْرَبُ مِنهُ الحَمَأُ المَسْنُونُ، وأقْرَبُ مِنهُ الصَّلْصالُ فَثَبَتَ أنَّهُ لا مُنافاةَ بَيْنَ الكُلِّ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ أنَّهُ في الآيَةِ المَذْكُورَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ بَيَّنَ لَهم أنَّهُ يَخْلُقُ في الأرْضِ خَلِيفَةً، وبِالآيَةِ المَذْكُورَةِ هَهُنا بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الخَلِيفَةَ بَشَرٌ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَخْلِيقَ البَشَرِ لا يَتِمُّ إلّا بِأمْرَيْنِ التَّسْوِيَةُ أوَّلًا، ثُمَّ نَفْخُ الرُّوحِ ثانِيًا، وهَذا حَقٌّ لِأنَّ الإنْسانَ مُرَكَّبٌ مِن جَسَدٍ ونَفْسٍ. (p-١٩٩)أمّا الجَسَدُ فَإنَّهُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ المَنِيِّ، والمَنِيُّ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِن دَمِ الطَّمْثِ وهو إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الأخْلاطِ الأرْبَعَةِ، وهي إنَّما تَتَوَلَّدُ مِنَ الأرْكانِ الأرْبَعَةِ، ولا بُدَّ في حُصُولِ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ مِن رِعايَةِ مِقْدارٍ مَخْصُوصٍ لِكُلِّ واحِدٍ مِنها، ومِن رِعايَةِ كَيْفِيَّةِ امْتِزاجاتِها وتَرْكِيباتِها، ومِن رِعايَةِ المُدَّةِ الَّتِي في مِثْلِها حَصَلَ ذَلِكَ المِزاجُ الَّذِي لِأجْلِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِعْدادُ لِقَبُولِ النَّفْسِ النّاطِقَةِ. وأمّا النَّفْسُ فَإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ ولَمّا أضافَ الرُّوحَ إلى نَفْسِهِ دَلَّ عَلى أنَّهُ جَوْهَرٌ شَرِيفٌ عُلْوِيٌّ قُدْسِيٌّ، وذَهَبَتِ الحُلُولِيَّةُ إلى أنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ تَدُلُّ عَلى التَّبْعِيضِ، وهَذا يُوهِمُ أنَّ الرُّوحَ جُزْءٌ مِن أجْزاءِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا غايَةُ الفَسادِ، لِأنَّ كُلَّ ما لَهُ جُزْءٌ وكُلٌّ، فَهو مُرَكَّبٌ ومُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ ومُحْدَثٌ. وأمّا كَيْفِيَّةُ نَفْخِ الرُّوحِ، فاعْلَمْ أنَّ الأقْرَبَ أنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ عِبارَةٌ عَنْ أجْسامٍ شَفّافَةٍ نُورانِيَّةٍ، عُلْوِيَّةِ العُنْصُرِ، قُدْسِيَّةِ الجَوْهَرِ، وهي تَسْرِي في البَدَنِ سَرَيانَ الضَّوْءِ في الهَواءِ، وسَرَيانَ النّارِ في الفَحْمِ، فَهَذا القَدْرُ مَعْلُومٌ. أمّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ النَّفْخِ فَمِمّا لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ كَما تَمَّ نَفْخُ الرَّوْحِ في الجَسَدِ تَوَّجَهُ أمْرُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالسُّجُودِ، وأمّا أنَّ المَأْمُورَ بِذَلِكَ السُّجُودِ مَلائِكَةُ الأرْضِ، أوْ دَخَلَ فِيهِ مَلائِكَةُ السَّماواتِ مِثْلُ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ، والرُّوحِ الأعْظَمِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ [النَّبَأِ: ٣٨] فَفِيهِ مَباحِثٌ عَمِيقَةٌ. وقالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: المَلائِكَةُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، هُمُ القُوى النَّباتِيَّةُ والحَيَوانِيَّةُ الحِسِّيَّةُ والحَرَكِيَّةُ، فَإنَّها في بَدَنِ الإنْسانِ خَوادِمُ النَّفْسِ النّاطِقَةِ، وإبْلِيسُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ هو القُوَّةُ الوَهْمِيَّةُ الَّتِي هي المُنازِعَةُ لِجَوْهَرِ العَقْلِ، والكَلامُ فِيهِ طَوِيلٌ. وأمّا بَقِيَّةُ المَسائِلِ وهي: كَيْفِيَّةُ سُجُودِ المَلائِكَةِ لِآدَمَ، وأنَّ ذَلِكَ هَلْ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ أفْضَلَ مِنَ المَلائِكَةِ أمْ لا، وأنَّ إبْلِيسَ هَلْ كانَ مِنَ المَلائِكَةِ أمْ لا، وأنَّهُ هَلْ كانَ كافِرًا أصْلِيًّا أمْ لا، فَكُلُّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ وغَيْرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب