الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا وإنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المِهادُ﴾ ﴿هَذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وغَسّاقٌ﴾ ﴿وآخَرُ مِن شَكْلِهِ أزْواجٌ﴾ ﴿هَذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكم لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنَّهم صالُوا النّارِ﴾ ﴿قالُوا بَلْ أنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكم أنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ القَرارُ﴾ ﴿قالُوا رَبَّنا مَن قَدَّمَ لَنا هَذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا في النّارِ﴾ ﴿وقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنّا نَعُدُّهم مِنَ الأشْرارِ﴾ ﴿أأتَّخَذْناهم سِخْرِيًّا أمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصارُ﴾ ﴿إنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أهْلِ النّارِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ ثَوابَ المُتَّقِينَ، وصَفَ بَعْدَهُ عِقابَ الطّاغِينَ، لِيَكُونَ الوَعِيدُ مَذْكُورًا عَقِيبَ الوَعْدِ، والتَّرْهِيبُ عَقِيبَ التَّرْغِيبِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ مِن أحْوالِ النّارِ أنْواعًا: فالأوَّلُ: مَرْجِعُهم ومَآبُهم، فَقالَ: ﴿هَذا وإنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ وهَذا في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ حالَ الطّاغِينَ مُضادٌّ لِحالِ المُتَّقِينَ، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالطّاغِينَ، فَأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلى الكُفّارِ، وقالَ الجُبّائِيُّ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى أصْحابِ الكَبائِرِ سَواءٌ كانُوا كَفّارًا أوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. واحْتَجَّ الأوَّلُونَ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مَآبُهم شَرًّا مِن مَآبِ غَيْرِهِمْ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ إلّا بِالكُفّارِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿أأتَّخَذْناهم سِخْرِيًّا﴾ وذَلِكَ لا يَلِيقُ إلّا بِالكُفّارِ، لِأنَّ الفاسِقَ لا يَتَّخِذُ المُؤْمِنَ سِخْرِيًّا. الثّالِثُ: أنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ، والِاسْمُ المُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلى الكامِلِ، والكامِلُ في الطُّغْيانِ هو الكافِرُ، واحْتَجَّ الجُبّائِيُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العَلَقِ: ٦] وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الوَصْفَ بِالطُّغْيانِ قَدْ يَحْصُلُ في حَقِّ صاحِبِ الكَبِيرَةِ، ولِأنَّ كُلَّ مَن تَجاوَزَ عَنْ تَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى وتَعَدّاها فَقَدْ طَغى. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: المَعْنى أنَّ الَّذِينَ طَغَوْا وكَذَّبُوا رُسُلِي لَهم شَرُّ مَآبٍ، أيْ شَرُّ مَرْجِعٍ ومَصِيرٍ، ثُمَّ قالَ: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكَمَ بِأنَّ الطّاغِينَ لَهم شَرُّ مَآبٍ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿فَبِئْسَ المِهادُ﴾ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿لَهم مِن جَهَنَّمَ مِهادٌ ومِن فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾ [الأعْرافِ: ٤١] شَبَّهَ اللَّهُ ما تَحْتَهم مِنَ النّارِ بِالمِهادِ الَّذِي يَفْتَرِشُهُ النّائِمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿هَذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وغَسّاقٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والتَّقْدِيرُ هَذا حَمِيمٌ وغَسّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المِهادُ هَذا فَلْيَذُوقُوهُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: حَمِيمٌ وغَسّاقٌ. (p-١٩٣)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الغَساقُ بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ الَّذِي يُغْسَقُ مِن صَدِيدِ أهْلِ النّارِ، يُقالُ: غَسَقَتِ العَيْنُ إذا سالَ دَمْعُها. وقالَ ابْنُ عُمَرَ: هو القَيْحُ الَّذِي يَسِيلُ مِنهم يَجْتَمِعُ فَيُسْقَوْنَهُ. الثّانِي: قِيلَ الحَمِيمُ يَحْرِقُ بِحَرِّهِ، والغَسّاقُ يَحْرِقُ بِبَرْدِهِ، وذَكَرَ الأزْهَرِيُّ: أنَّ الغاسِقَ البارِدُ، ولِهَذا قِيلَ لِلَّيْلِ غاسِقٌ لِأنَّهُ أبْرَدُ مِنَ النَّهارِ. الثّالِثُ: أنَّ الغَسّاقَ المُنْتِنُ، حَكى الزَّجّاجُ لَوْ قُطِرَتْ مِنهُ قَطْرَةٌ في المَشْرِقِ لَأنْتَنَتْ أهْلَ المَغْرِبِ، ولَوْ قُطِرَتْ مِنهُ قَطْرَةٌ في المَغْرِبِ لَأنْتَنَتْ أهْلَ المَشْرِقِ. الرّابِعُ: قالَ كَعْبٌ: الغَسّاقُ عَيْنٌ في جَهَنَّمَ يَسِيلُ إلَيْها سُمُّ كُلِّ ذاتِ حُمَةٍ مِن عَقْرَبٍ وحَيَّةٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفَصٌ عَنْ عاصِمٍ ”غَسّاقٌ“ بِتَشْدِيدِ السِّينِ حَيْثُ كانَ، والباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: الِاخْتِيارُ التَّخْفِيفُ لِأنَّهُ إذا شَدَّدَ لَمْ يَخْلُ مِن أنْ يَكُونَ اسْمًا أوْ صِفَةً، فَإنْ كانَ اسْمًا فالأسْماءُ لَمْ تَجِئْ عَلى هَذا الوَزْنِ إلّا قَلِيلًا، وإنْ كانَ صِفَةً فَقَدْ أُقِيمَ مَقامَ المَوْصُوفِ والأصْلُ أنْ لا يَجُوزَ ذَلِكَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وآخَرُ مِن شَكْلِهِ أزْواجٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عُمَرَ ”وأُخَرُ“ بِضَمِّ الألْفِ عَلى جَمْعِ أُخْرى أيْ أصْنافٌ أُخَرُ مِنَ العَذابِ، وهو قِراءَةُ مُجاهِدٍ، والباقُونَ ”آخَرُ“ عَلى الواحِدِ أيْ عَذابٌ آخَرُ، أمّا عَلى القِراءَةِ الأُولى فَقَوْلُهُ وأُخَرُ أيْ ومَذُوقاتٍ أُخَرُ مِن شَكْلِ هَذا المَذُوقِ، أيْ مِن مِثْلِهِ في الشِّدَّةِ والفَظاعَةِ، أزْواجٌ أيْ أجْناسٌ، وأمّا عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ فالتَّقْدِيرُ وعَذابٌ أوْ مَذُوقٌ آخَرُ، وأزْواجٌ صِفَةٌ لِآخَرَ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضُرُوبًا أوْ صِفَةً لِلثَّلاثَةِ وهم حَمِيمٌ وغَسّاقٌ وآخَرُ مِن شَكْلِهِ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقُرِئَ ”مِن شِكْلِهِ“ بِالكَسْرِ وهي لُغَةٌ، وأمّا الغَنْجُ فَبِالكَسْرِ لا غَيْرُ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ مَسْكَنَ الطّاغِينَ ومَأْكُولَهم حَكى أحْوالَهُمُ الَّذِينَ كانُوا أحِبّاءً لَهم في الدُّنْيا أوَّلًا، ثُمَّ مَعَ الَّذِينَ كانُوا أعْداءً لَهم في الدُّنْيا ثانِيًا. أمّا الأوَّلُ: فَهو قَوْلُهُ: ﴿هَذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذا حِكايَةُ كَلامِ رُؤَساءِ أهْلِ النّارِ، يَقُولُهُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ، بِدَلِيلِ أنَّ ما حُكِيَ بَعْدَ هَذا مِن أقْوالِ الأتْباعِ وهو قَوْلُهُ: ﴿قالُوا بَلْ أنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكم أنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا﴾، وقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: ﴿هَذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾ كَلامُ الخَزَنَةِ لِرُؤَساءِ الكَفَرَةِ في أتْباعِهِمْ، وقَوْلَهُ: ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنَّهم صالُوا النّارِ﴾ كَلامُ الرُّؤَساءِ، وقَوْلُهُ: ﴿هَذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾ أيْ هَذا جَمْعٌ كَثِيفٌ قَدِ اقْتَحَمَ مَعَكُمُ النّارَ كَما كانُوا قَدِ اقْتَحَمُوا مَعَكم في الجَهْلِ والضَّلالِ، ومَعْنى اقْتَحَمَ مَعَكُمُ النّارَ أيْ دَخَلَ النّارَ في صُحْبَتِكم، والِاقْتِحامُ رُكُوبُ الشِّدَّةِ والدُّخُولُ فِيها، والقَحْمَةُ الشِّدَّةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ دُعاءٌ مِنهم عَلى أتْباعِهِمْ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَن يَدْعُو لَهُ: مَرْحَبًا، أيْ أتَيْتَ رَحْبًا في البِلادِ لا ضَيْفًا، أوْ رَحُبَتْ بِلادُكَ رُحْبًا، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كَلِمَةُ لا في دُعاءِ السُّوءِ، وقَوْلُهُ: ﴿بِهِمْ﴾ بَيانٌ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ أنَّهم صالُو النّارِ تَعْلِيلٌ لِاسْتِيجابِهِمُ الدُّعاءَ عَلَيْهِمْ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها﴾ [الأعْرافِ: ٣٨] ”قالُوا“ أيِ الأتْباعُ ﴿بَلْ أنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ يُرِيدُونَ أنَّ الدُّعاءَ الَّذِي دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنا أيُّها الرُّؤَساءُ أنْتُمْ أحَقُّ بِهِ، وعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا﴾ والضَّمِيرُ لِلْعَذابِ أوْ لِصِلِيِّهِمْ، فَإنْ قِيلَ ما (p-١٩٤)مَعْنى تَقْدِيمِهِمُ العَذابَ لَهم ؟ قُلْنا الَّذِي أوْجَبَ التَّقْدِيمَ هو عَمَلُ السُّوءِ. قالَ تَعالى: ﴿وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الأنْفالِ: ٥٠، ٥١] إلّا أنَّ الرُّؤَساءَ لَمّا كانُوا هُمُ السَّبَبُ فِيهِ بِإغْوائِهِمْ وكانَ العَذابُ جَزاءُهم عَلَيْهِ قِيلَ أنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، فَجَعَلَ الرُّؤَساءَ هُمُ المُقَدَّمِينَ وجَعَلَ الجَزاءَ هو المُقَدَّمُ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿قَدَّمْتُمُوهُ﴾ كِنايَةٌ عَنِ الطُّغْيانِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿فَبِئْسَ القَرارُ﴾ أيْ: بِئْسَ المُسْتَقَرُّ والمَسْكَنُ جَهَنَّمُ، ثُمَّ قالَتِ الأتْباعُ ﴿رَبَّنا مَن قَدَّمَ لَنا هَذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا﴾ أيْ مُضاعَفًا ومَعْناهُ ذا ضَعْفٍ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ أضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا﴾ [الأعْرافِ: ٣٨] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فَأضَلُّونا السَّبِيلَ﴾ ﴿رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذابِ﴾ [الأحْزابِ: ٦٧، ٦٨] فَإنْ قِيلَ كُلُّ مِقْدارٍ يُفْرَضُ مِنَ العَذابِ فَإنْ كانَ بِقَدْرِ الِاسْتِحْقاقِ لَمْ يَكُنْ مُضاعَفًا، وإنْ كانَ زائِدًا عَلَيْهِ كانَ ظالِمًا وإنَّهُ لا يَجُوزُ. قُلْنا المُرادُ مِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ومَن سَنَّ سَنَةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» والمَعْنى أنَّهُ يَكُونُ أحَدُ القِسْمَيْنِ عَذابَ الضَّلالِ، والثّانِي عَذابَ الإضْلالِ واللَّهُ أعْلَمُ. وهَهُنا آخِرُ شَرْحِ أحْوالِ الكُفّارِ مَعَ الَّذِينَ كانُوا أحْبابًا لَهم في الدُّنْيا، وأمّا شَرْحُ أحْوالِهِمْ مَعَ الَّذِينَ كانُوا أعْداءً لَهم في الدُّنْيا فَهو قَوْلُهُ: ﴿وقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنّا نَعُدُّهم مِنَ الأشْرارِ﴾ يَعْنِي أنَّ الكُفّارَ إذا نَظَرُوا إلى جَوانِبِ جَهَنَّمَ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: ﴿ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنّا نَعُدُّهم مِنَ الأشْرارِ﴾ يَعْنُونَ فُقَراءَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ لا يَؤُبَهُ بِهِمْ، وسَمَّوْهم مِنَ الأشْرارِ، إمّا بِمَعْنى الأراذِلِ الَّذِينَ لا خَيْرَ فِيهِمْ ولا جَدْوى، أوْ لِأنَّهم كانُوا عَلى خِلافِ دِينِهِمْ فَكانُوا عِنْدَهم أشْرارًا. ثُمَّ قالُوا: ﴿أأتَّخَذْناهم سِخْرِيًّا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (مِنَ الأشْرارِ اتَّخَذْناهم ) بِوَصْلِ ألْفِ (اتَّخَذْناهم) والباقُونَ بِفَتْحِها عَلى الِاسْتِفْهامِ، قالَ أبُو عُبَيْدٍ وبِالوَصْلِ يُقْرَأُ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ مُتَقَدِّمٌ في قَوْلِهِ: ﴿ما لَنا لا نَرى رِجالًا﴾، ولِأنَّ المُشْرِكِينَ لا يَشُكُّونَ في اتِّخاذِهِمُ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا سِخْرِيًّا، لِأنَّهُ تَعالى قَدْ أخْبَرَ عَنْهم بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿فاتَّخَذْتُمُوهم سِخْرِيًّا حَتّى أنْسَوْكم ذِكْرِي﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١١٠] فَكَيْفَ يَحْسُنُ أنْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ شَيْءٍ عَلِمُوهُ ؟ أجابَ الفَرّاءُ عَنْهُ بِأنْ قالَ: هَذا مِنَ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي مَعْناهُ التَّعْجِيبُ والتَّوْبِيخُ، ومِثْلُ هَذا الِاسْتِفْهامِ جائِزٌ عَنِ الشَّيْءِ المَعْلُومِ، أمّا وجْهُ قَوْلِ مَن ألْحَقَ الهَمْزَةَ لِلِاسْتِفْهامِ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ المَصِيرِ إلَيْهِ لِيُعادِلَ قَوْلَهُ: ﴿أأتَّخَذْناهُمْ﴾ بِأمْ في قَوْلِهِ: ﴿أمْ زاغَتْ عَنْهُمُ﴾ فَإنْ قِيلَ فَما الجُمْلَةُ المُعادِلَةُ لِقَوْلِهِ: ﴿أمْ زاغَتْ﴾ عَلى القِراءَةِ الأُولى ؟ قُلْنا إنَّها مَحْذُوفَةٌ والمَعْنى المَقْصُودُونَ هم أمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصارُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ ”سُخْرِيًّا“ بِضَمِّ السِّينِ والباقُونَ بِكَسْرِها، وقِيلَ هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وقِيلَ بِالكَسْرِ هو الهُزْءُ وبِالضَّمِّ هو التَّذْلِيلُ والتَّسْخِيرُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في نَظْمِ الآيَةِ عَلى قَوْلَيْنِ بِناءً عَلى القِراءَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، أمّا القِراءَةُ عَلى سَبِيلِ الإخْبارِ فالتَّقْدِيرُ ما لَنا لا نَراهم حاضِرِينَ لِأجْلِ أنَّهم لِحَقارَتِهِمْ تَرَكُوا، أوْ لِأجْلِ أنَّهم زاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصارُ. ووَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ حَقارَتِهِمْ بِقَوْلِهِمْ ﴿أأتَّخَذْناهم سِخْرِيًّا﴾ وأمّا القِراءَةُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِفْهامِ، فالتَّقْدِيرُ لِأجْلِ أنّا قَدِ اتَّخَذْناهم سِخْرِيًّا وما كانُوا كَذَلِكَ فَلَمْ يَدْخُلُوا النّارَ، أمْ لِأجْلِ أنَّهُ زاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصارُ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم هَذِهِ المُناظَرَةَ قالَ: إنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَكَيْنا عَنْهم لَحَقٌّ لا بُدَّ وأنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنِ الَّذِي حَكَيْناهُ عَنْهم ما هو، فَقالَ: ﴿تَخاصُمُ أهْلِ النّارِ﴾ وإنَّما سَمّى اللَّهُ تَعالى تِلْكَ الكَلِماتِ تُخاصُمًا لِأنَّ قَوْلَ (p-١٩٥)الرُّؤَساءِ ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ وقَوْلَ الأتْباعِ ﴿بَلْ أنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ مِن بابِ الخُصُومَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب