الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهم وقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ ﴿وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهم أنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكم إنَّ هَذا لَشَيْءٌ يُرادُ﴾ ﴿ما سَمِعْنا بِهَذا في المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ الكُفّارِ كَوْنَهم في عِزَّةٍ وشِقاقٍ أرْدَفَهُ بِشَرْحِ كَلِماتِهِمُ الفاسِدَةِ فَقالَ: ﴿وعَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهُمْ﴾ . في قَوْلِهِ: ﴿مِنهُمْ﴾ وجْهانِ. الأوَّلُ: أنَّهم قالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا مُساوٍ لَنا في الخِلْقَةِ الظّاهِرَةِ والأخْلاقِ الباطِنَةِ والنَّسَبِ والشَّكْلِ والصُّورَةِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يُخْتَصَّ مِن بَيْنِنا بِهَذا المَنصِبِ العالِي والدَّرَجاتِ والرَّفِيعَةِ. والثّانِي: أنَّ الغَرَضَ مِن هَذِهِ الكَلِمَةِ التَّنْبِيهُ عَلى كَمالِ جَهالَتِهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّهُ جاءَهم رَجُلٌ يَدْعُوهم إلى التَّوْحِيدِ وتَعْظِيمِ المَلائِكَةِ والتَّرْغِيبِ في الآخِرَةِ، والتَّنْفِيرِ عَنِ الدُّنْيا، ثُمَّ إنَّ هَذا الرَّجُلَ مِن أقارِبِهِمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُ كانَ بَعِيدًا مِنَ الكَذِبِ والتُّهْمَةِ؛ وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُ الِاعْتِرافَ بِتَصْدِيقِهِ، ثُمَّ إنَّ هَؤُلاءِ الأقْوامَ لِحَماقَتِهِمْ يَتَعَجَّبُونَ مِن قَوْلِهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهم فَهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٦٩] فَقالَ: ﴿وعَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهُمْ﴾ ومَعْناهُ أنَّ مُحَمَّدًا كانَ مِن رَهْطِهِمْ وعَشِيرَتِهِمْ وكانَ مُساوِيًا لَهم في الأسْبابِ الدُّنْيَوِيَّةِ فاسْتَنْكَفُوا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ طاعَتِهِ ومِنَ الِانْقِيادِ لِتَكالِيفِهِ، وعَجِبُوا أنْ يُخْتَصَّ هو مِن بَيْنِهِمْ بِرِسالَةِ اللَّهِ وأنْ يَتَمَيَّزَ عَنْهم بِهَذِهِ الخاصِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وبِالجُمْلَةِ فَما كانَ لِهَذا التَّعَجُّبِ سَبَبٌ إلّا الحَسَدَ. (p-١٥٥)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ وإنَّما لَمْ يَقُلْ وقالُوا بَلْ قالَ: ﴿وقالَ الكافِرُونَ﴾ إظْهارًا لِلتَّعَجُّبِ ودَلالَةً عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ لا يَصْدُرُ إلّا عَنِ الكُفْرِ التّامِّ، فَإنَّ السّاحِرَ هو الَّذِي يَمْنَعُ مِن طاعَةِ اللَّهِ، ويَدْعُو إلى طاعَةِ الشَّيْطانِ، وهو عِنْدَكم بِالعَكْسِ مِن ذَلِكَ، والكَذّابُ هو الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ لا عَلى ما هو عَلَيْهِ، وهو يُخْبِرُ عَنْ وُجُودِ الصّانِعِ القَدِيمِ الحَكِيمِ العَلِيمِ، وعَنِ الحَشْرِ والنَّشْرِ وسائِرِ الأشْياءِ الَّتِي تَثْبُتُ بِدَلائِلِ العُقُولِ صِحَّتُها فَكَيْفَ يَكُونُ كَذّابًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى جَمِيعَ ما عَوَّلُوا عَلَيْهِ في إثْباتِ كَوْنِهِ كاذِبًا وهي ثَلاثَةُ أشْياءَ: أحَدُها: ما يَتَعَلَّقُ بِالإلَهِيّاتِ. وثانِيها: ما يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوّاتِ. وثالِثُها: ما يَتَعَلَّقُ بِالمَعادِ، أمّا الشُّبْهَةُ المُتَعَلِّقَةُ بِالإلَهِيّاتِ فَهي قَوْلُهم: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ رُوِيَ أنَّهُ «لَمّا أسْلَمَ عُمَرُ فَرِحَ بِهِ المُسْلِمُونَ فَرَحا شَدِيدًا، وشَقَّ ذَلِكَ عَلى قُرَيْشٍ، فاجْتَمَعَ خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ نَفْسًا مِن صَنادِيدِهِمْ ومَشَوْا إلى أبِي طالِبٍ وقالُوا: أنْتَ شَيْخُنا وكَبِيرُنا وقَدْ عَلِمْتَ ما فَعَلَ هَؤُلاءِ السُّفَهاءُ يَعْنُونَ المُسْلِمِينَ فَجِئْناكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنا وبَيْنَ ابْنِ أخِيكَ، فاسْتَحْضَرَ أبُو طالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وقالَ: يا ابْنَ أخِي هَؤُلاءِ قَوْمُكَ يَسْألُونَكَ السُّؤالَ فَلا تَمِلْ كُلَّ المَيْلِ عَلى قَوْمِكَ، فَقالَ ﷺ: ماذا يَسْألُونَنِي، قالُوا: ارْفُضْنا وارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنا ونَدَعُكَ وإلَهَكَ، فَقالَ ﷺ: أرَأيْتُمْ إنْ أعْطَيْتُكم ما سَألْتُمْ أتُعْطُونِي أنْتُمْ كَلِمَةً واحِدَةً تَمْلِكُونَ بِها العَرَبَ وتَدِينُ لَكُمُ العَجَمُ ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ تَقُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَقامُوا وقالُوا: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ أيْ بَلِيغٌ في التَّعَجُّبِ» . وأقُولُ مَنشَأُ التَّعَجُّبِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: هو أنَّ القَوْمَ ما كانُوا مِن أصْحابِ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، بَلْ كانَتْ أوْهامُهم تابِعَةً لِلْمَحْسُوساتِ، فَلَمّا وجَدُوا في الشّاهِدِ أنَّ الفاعِلَ الواحِدَ لا تَفِي قُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ بِحِفْظِ الخَلْقِ العَظِيمِ قاسُوا الغائِبَ عَلى الشّاهِدِ، فَقالُوا: لا بُدَّ في حِفْظِ هَذا العالَمِ الكَثِيرِ مِن آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ يَتَكَفَّلُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بِحِفْظِ نَوْعٍ آخَرَ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ أسْلافَهم لِكَثْرَتِهِمْ وقُوَّةِ عُقُولِهِمْ كانُوا مُطْبِقِينَ عَلى الشِّرْكِ، فَقالُوا مِنَ العَجَبِ العَجِيبِ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الأقْوامُ عَلى كَثْرَتِهِمْ وقُوَّةِ عُقُولِهِمْ كانُوا جاهِلِينَ مُبْطِلِينَ، وهَذا الإنْسانُ الواحِدُ يَكُونُ مُحِقًّا صادِقًا، وأقُولُ لَعَمْرِي لَوْ سَلَّمْنا إجْراءَ حُكْمِ الشّاهِدِ عَلى الغائِبِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ وحُجَّةٍ، لَكانَتِ الشُّبْهَةُ الأُولى لازِمَةً، ولَمّا تَوافَقْنا عَلى فَسادِها عَلِمْنا أنَّ إجْراءَ حُكْمِ الشّاهِدِ عَلى الغائِبِ فاسِدٌ قَطْعًا، وإذا بَطَلَتْ هَذِهِ القاعِدَةُ فَقَدْ بَطَلَ أصْلُ كَلامِ المُشَبِّهَةِ في الذّاتِ، وكَلامُ المُشَبِّهَةِ في الأفْعالِ، أمّا المُشَبِّهَةُ في الذّاتِ فَهو أنَّهم يَقُولُونَ لَمّا كانَ كُلُّ مَوْجُودٍ في الشّاهِدِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ جِسْمًا ومُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وجَبَ في الغائِبِ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، أمّا المُشَبِّهَةُ في الأفْعالِ فَهُمُ المُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الأمْرَ الفُلانِيَّ قَبِيحٌ مِنّا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّهُ إنْ صَحَّ كَلامُ هَؤُلاءِ المُشَبِّهَةِ في الذّاتِ وفي الأفْعالِ لَزِمَ القَطْعُ بِصِحَّةِ شُبْهَةِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ، وحَيْثُ تَوافَقْنا عَلى فَسادِها عَلِمْنا أنَّ عُمْدَةَ المُجَسِّمَةِ وكَلامَ المُعْتَزِلَةِ باطِلٌ فاسِدٌ. وأمّا الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ فَلَعَمْرِي لَوْ كانَ التَّقْلِيدُ حَقًّا لَكانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لازِمَةً وحَيْثُ كانَتْ فاسِدَةً عَلِمْنا أنَّ التَّقْلِيدَ باطِلٌ بَقِيَ هَهُنا أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ العُجابَ هو العَجِيبُ إلّا أنَّهُ أبْلَغُ مِنَ العَجِيبِ كَقَوْلِهِمْ طَوِيلٌ وطُوالٌ وعَرِيضٌ وعُراضٌ وكَبِيرٌ وكُبارٌ وقَدْ يُشَدَّدُ لِلْمُبالَغَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا كُبّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٢] . البَحْثُ الثّانِي: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ قُرِئَ عُجابٌ بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ، فَقالَ: والتَّشْدِيدُ أبْلَغُ مِنَ التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَكْرًا كُبّارًا﴾ . (p-١٥٦)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهم أنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ﴾ قَدْ ذَكَرْنا أنَّ المَلَأ عِبارَةٌ عَنِ القَوْمِ الَّذِينَ إذا حَضَرُوا في المَجْلِسِ فَإنَّهُ تَمْتَلِئُ القُلُوبُ والعُيُونُ مِن مَهابَتِهِمْ وعَظَمَتِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿مِنهُمْ﴾ أيْ مِن قُرَيْشٍ؛ انْطَلَقُوا عَنْ مَجْلِسِ أبِي طالِبٍ بَعْدَما بَكَتَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالجَوابِ العَتِيدِ قائِلِينَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ﴿أنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: القِراءَةُ المَشْهُورَةُ ”أنِ امْشُوا“ وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ ”امْشُوا“ بِحَذْفِ أنْ، قالَ صاحِبُ: ”الكَشّافِ“ ”أنْ“ بِمَعْنى أيْ لِأنَّ المُنْطَلِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ التَّقاوُلِ لا بُدَّ لَهم مِن أنْ يَتَكَلَّمُوا ويَتَفاوَضُوا فِيما يَجْرِي في المَجْلِسِ المُتَقَدِّمِ، فَكانَ انْطِلاقُهم مُضَمَّنًا مَعْنى القَوْلِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهم يَمْشُونَ. البَحْثُ الثّانِي: مَعْنى أنِ امْشُوا أنَّهُ قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ امْشُوا واصْبِرُوا، فَلا حِيلَةَ لَكم في دَفْعِ أمْرِ مُحَمَّدٍ، إنَّ هَذا لَشَيْءٌ يُرادُ، وفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: ظُهُورُ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظاهِرٌ يُثْبِتُ أنَّ تَزايُدَ ظُهُورِهِ لَيْسَ إلّا لِأنَّ اللَّهَ يُرِيدُهُ، وما أرادَ اللَّهُ كَوْنَهُ فَلا دافِعَ لَهُ. وثانِيها: أنَّ الأمْرَ كَشَيْءٍ مِن نَوائِبِ الدَّهْرِ فَلا انْفِكاكَ لَنا مِنهُ. وثالِثُها: أنَّ دِينَكم لَشَيْءٌ يُرادُ أيْ يُطْلَبُ لِيُؤْخَذَ مِنكم، قالَ القَفّالُ: هَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلتَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ وكَأنَّ مَعْناها أنَّهُ لَيْسَ غَرَضُ مُحَمَّدٍ مِن هَذا القَوْلِ تَقْرِيرَ الدِّينِ، وإنَّما غَرَضُهُ أنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْنا فَيَحْكُمَ في أمْوالِنا وأوْلادِنا بِما يُرِيدُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ما سَمِعْنا بِهَذا في المِلَّةِ الآخِرَةِ﴾ والمِلَّةُ الآخِرَةُ هي مِلَّةُ النَّصارى فَقالُوا إنَّ هَذا التَّوْحِيدَ الَّذِي أتى بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ ما سَمِعْناهُ في دِينِ النَّصارى، أوْ يَكُونُ المُرادُ بِالمِلَّةِ الآخِرَةِ مِلَّةَ قُرَيْشٍ الَّتِي أدْرَكُوا آباءَهم عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قالُوا: ﴿إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾ افْتِعالٌ وكَذِبٌ، وحاصِلُ الكَلامِ مِن هَذا الوَجْهِ أنَّهم قالُوا نَحْنُ ما سَمِعْنا عَنْ أسْلافِنا القَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ باطِلًا، ولَوْ كانَ القَوْلُ بِالتَّقْلِيدِ حَقًّا لَكانَ كَلامُ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ حَقًّا، وحَيْثُ كانَ باطِلًا عَلِمْنا أنَّ القَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ باطِلٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب