الباحث القرآني
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لَفْظُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ النُّصْبَ والعَذابَ إنَّما حَصَلَ مِنَ الشَّيْطانِ ثُمَّ ذَلِكَ العَذابُ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ عِبارَةٌ عَمّا حَصَلَ في بَدَنِهِ مِنَ الأمْراضِ، وعَلى القَوْلِ الثّانِي عِبارَةٌ عَنِ الأحْزانِ الحاصِلَةِ في قَلْبِهِ بِسَبَبِ إلْقاءِ الوَساوِسِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ إثْباتُ الفِعْلِ لِلشَّيْطانِ، وأجابَ أصْحابُنا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِأنّا لا نُنْكِرُ إثْباتَ الفِعْلِ لِلشَّيْطانِ، لَكِنّا نَقُولُ: فِعْلُ العَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى عَلى التَّفْصِيلِ المَعْلُومِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ لَمّا شَكى مِنَ الشَّيْطانِ، فَكَأنَّهُ سَألَ رَبَّهُ أنْ يُزِيلَ عَنْهُ تِلْكَ البَلِيَّةَ فَأجابَهُ اللَّهُ إلَيْهِ بِأنْ قالَ لَهُ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ والرَّكْضُ هو الدَّفْعُ القَوِيُّ بِالرِّجْلِ، ومِنهُ رَكْضُكَ الفَرَسَ، والتَّقْدِيرُ: قُلْنا لَهُ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، قِيلَ إنَّهُ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ تِلْكَ الأرْضَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَقِيلَ: ﴿هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ أيْ هَذا ماءٌ تَغْتَسِلُ بِهِ فَيَبْرَأُ باطِنُكَ، وظاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ نَبَعَتْ لَهُ عَيْنٌ واحِدَةٌ مِنَ الماءِ اغْتَسَلَ فِيهِ وشَرِبَ مِنهُ.
والمُفَسِّرُونَ قالُوا نَبَعَتْ لَهُ عَيْنانِ فاغْتَسَلَ مِن إحْداهُما وشَرِبَ مِنَ الأُخْرى، فَذَهَبَ الدّاءُ مِن ظاهِرِهِ ومِن باطِنِهِ بِإذْنِ اللَّهِ، وقِيلَ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ اليُمْنى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ حارَّةٌ فاغْتَسَلَ مِنها ثُمَّ بِاليُسْرى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ بارِدَةٌ فَشَرِبَ مِنها.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ووَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ﴾ فَقَدْ قِيلَ هم عَيْنُ أهْلِهِ وزِيادَةُ مَثَلِهِمْ، وقِيلَ غَيْرُهم مِثْلُهم، والأوَّلُ أوْلى لِأنَّهُ هو الظّاهِرُ فَلا يَجُوزُ العُدُولُ عَنْهُ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: مَعْناهُ أزَلْنا عَنْهُمُ السَّقَمَ فَعادُوا أصِحّاءَ، وقالَ بَعْضُهم: بَلْ حَضَرُوا عِنْدَهُ بَعْدَ أنْ غابُوا عَنْهُ واجْتَمَعُوا بَعْدَ أنْ تَفَرَّقُوا. وقالَ بَعْضُهم: بَلْ تَمَكَّنَ مِنهم وتَمَكَّنُوا مِنهُ فِيما يَتَّصِلُ بِالعِشْرَةِ وبِالخِدْمَةِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿ومِثْلَهم مَعَهُمْ﴾ فالأقْرَبُ أنَّهُ تَعالى مَتَّعَهُ بِصِحَّتِهِ وبِمالِهِ وقَوّاهُ حَتّى كَثُرَ نَسْلُهُ وصارَ أهْلُهُ ضِعْفَ ما كانَ وأضْعافَ ذَلِكَ، وقالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: المُرادُ بِهِبَةِ الأهْلِ أنَّهُ تَعالى أحْياهم بَعْدَ أنْ هَلَكُوا.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿رَحْمَةً مِنّا﴾ أيْ إنَّما فَعَلْنا كُلَّ هَذِهِ الأفْعالِ عَلى سَبِيلِ الفَضْلِ والرَّحْمَةِ، لا عَلى سَبِيلِ اللُّزُومِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ﴾ يَعْنِي سَلَّطْنا البَلاءَ عَلَيْهِ أوَّلًا فَصَبَرَ ثُمَّ أزَلْنا عَنْهُ البَلاءَ وأوْصَلْناهُ إلى (p-١٨٨)الآلاءِ والنَّعْماءِ، تَنْبِيهًا لِأُولِي الألْبابِ عَلى أنَّ مَن صَبَرَ ظَفَرَ، والمَقْصُودُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى ما وقَعَ ابْتِداءُ الكَلامِ بِهِ وهو قَوْلُهُ لِمُحَمَّدٍ: ﴿اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَحْمَةً مِنّا وذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ﴾ يَعْنِي إنَّما فَعَلْناها لِهَذِهِ الأغْراضِ والمَقاصِدِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أفْعالَ اللَّهِ وأحْكامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالأغْراضِ والمَصالِحِ والكَلامُ في هَذا البابِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى ”ارْكُضْ“، والضِّغْثُ الحُزْمَةُ الصَّغِيرَةُ مِن حَشِيشٍ أوْ رَيْحانٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ عَلى تَقَدُّمِ يَمِينٍ مِنهُ، وفي الخَبَرِ أنَّهُ حَلَفَ عَلى أهْلِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في السَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ حَلَفَ عَلَيْها، ويَبْعُدُ ما قِيلَ إنَّها رَغَّبَتْهُ في طاعَةِ الشَّيْطانِ، ويَبْعُدُ أيْضًا ما رُوِيَ أنَّها قَطَعَتِ الذَّوائِبَ عَنْ رَأْسِها لِأنَّ المُضْطَرَّ إلى الطَّعامِ يُباحُ لَهُ ذَلِكَ، بَلِ الأقْرَبُ أنَّها خالَفَتْهُ في بَعْضِ المُهِمّاتِ، وذَلِكَ أنَّها ذَهَبَتْ في بَعْضِ المُهِمّاتِ فَأبْطَأتْ فَحَلَفَ في مَرَضِهِ لِيَضْرِبَنَّها مِائَةً إذا بَرِئَ، ولَمّا كانَتِ حَسَنَةَ الخِدْمَةِ لَهُ لا جَرَمَ حَلَّلَ اللَّهُ يَمِينَهُ بِأهْوَنِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وعَلَيْها، وهَذِهِ الرُّخْصَةُ باقِيَةٌ، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ أُتِيَ بِمُجَذَّمٍ خَبَثَ بِأمَةٍ فَقالَ: ”«خُذُوا عِثْكالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْراخٍ فاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً» “ .
ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿إنّا وجَدْناهُ صابِرًا﴾ فَإنْ قِيلَ كَيْفَ وجَدَهُ صابِرًا وقَدْ شَكى إلَيْهِ، والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ اشْتَكى مِنَ الشَّيْطانِ إلَيْهِ وما شَكى مِنهُ إلى أحَدٍ.
الثّانِي: أنَّ الألَمَ حِينَ كانَ عَلى الجَسَدِ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا، فَلَمّا عَظُمَتِ الوَساوِسُ خافَ عَلى القَلْبِ والدِّينِ فَتَضَرَّعَ.
الثّالِثُ: أنَّ الشَّيْطانَ عَدُوٌّ، والشِّكايَةُ مِنَ العَدُوِّ إلى الحَبِيبِ لا تَقْدَحُ في الصَّبْرِ، ثُمَّ قالَ: ﴿نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَشْرِيفَ ”نِعْمَ العَبْدُ“ إنَّما حَصَلَ لِكَوْنِهِ أوّابًا، وسَمِعْتُ بَعْضَهم قالَ: لَما نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نِعْمَ العَبْدُ﴾ في حَقِّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ تارَةً، وفي حَقِّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ أُخْرى عَظُمَ الغَمُّ في قُلُوبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقالُوا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿نِعْمَ العَبْدُ﴾ في حَقِّ سُلَيْمانَ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَإنِ احْتَجْنا إلى اتِّفاقِ مَمْلَكَةٍ مِثْلِ مَمْلَكَةِ سُلَيْمانَ حَتّى نَجِدَ هَذا التَّشْرِيفَ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وإنِ احْتَجْنا إلى تَحَمُّلِ بَلاءٍ مِثْلِ أيُّوبَ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلى تَحْصِيلِهِ. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الأنْفالِ: ٤٠] والمُرادُ أنَّكَ إنْ لَمْ تَكُنْ ﴿نِعْمَ العَبْدُ﴾ فَأنا ﴿نِعْمَ المَوْلى﴾ [الأنْفالِ: ٤٠] وإنْ كانَ مِنكَ الفُضُولُ، فَمِنِّي الفَضْلُ، وإنْ كانَ مِنكَ التَّقْصِيرُ، فَمِنِّي الرَّحْمَةُ والتَّيْسِيرُ.
{"ayahs_start":42,"ayahs":["ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَـٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدࣱ وَشَرَابࣱ","وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةࣰ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ","وَخُذۡ بِیَدِكَ ضِغۡثࣰا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَـٰهُ صَابِرࣰاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابࣱ"],"ayah":"وَخُذۡ بِیَدِكَ ضِغۡثࣰا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَـٰهُ صَابِرࣰاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق