الباحث القرآني

الخامِسَةُ: أنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اسْتَثْنى الَّذِينَ آمَنُوا عَنِ البَغْيِ، فَلَوْ قُلْنا إنَّهُ كانَ مَوْصُوفًا بِالبَغْيِ لَزِمَ أنْ يُقالَ إنَّهُ حَكَمَ بِعَدَمِ الإيمانِ عَلى نَفْسِهِ وذَلِكَ باطِلٌ. السّادِسَةُ: حَضَرْتُ في بَعْضِ المَجالِسِ وحَضَرَ فِيهِ بَعْضُ أكابِرِ المُلُوكِ وكانَ يُرِيدُ أنْ يَتَعَصَّبَ لِتَقْرِيرِ ذَلِكَ القَوْلِ الفاسِدِ والقِصَّةِ الخَبِيثَةِ لِسَبَبٍ اقْتَضى ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: لا شَكَّ أنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، ولَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] ومَن مَدَحَهُ اللَّهُ تَعالى بِمِثْلِ هَذا المَدْحِ العَظِيمِ لَمْ يَجُزْ لَنا أنْ نُبالِغَ الطَّعْنَ فِيهِ، وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنَّهُ ما كانَ نَبِيًّا فَلا شَكَّ أنَّهُ كانَ مُسْلِمًا، ولَقَدْ قالَ ﷺ: «لا تَذْكُرُوا مَوْتاكم إلّا بِخَيْرٍ» ثُمَّ عَلى تَقْدِيرِ أنّا لا نَلْتَفِتُ إلى شَيْءٍ مِن هَذِهِ الدَّلائِلِ، إلّا أنّا نَقُولُ إنَّ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ القِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها حَقِيقِيَّةً صَحِيحَةً فَإنَّ رِوايَتَها وذِكْرَها لا يُوجِبُ شَيْئًا مِنَ الثَّوابِ، لِأنَّ إشاعَةَ الفاحِشَةِ إنْ لَمْ تُوجِبِ العِقابَ فَلا أقَلَّ مِن أنْ لا تُوجِبَ الثَّوابَ، وأمّا بِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ هَذِهِ القِصَّةُ الباطِلَةُ فاسِدَةً، فَإنَّ ذاكِرَها يَسْتَحِقُّ أعْظَمَ العِقابِ، والواقِعَةُ الَّتِي هَذا شَأْنُها وصِفَتُها، فَإنَّ صَرِيحَ العَقْلِ يُوجِبُ السُّكُوتَ عَنْها، فَثَبَتَ أنَّ الحَقَّ ما ذَهَبْنا إلَيْهِ، وأنَّ شَرْحَ تِلْكَ القِصَّةِ مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ المَلِكُ هَذا الكَلامَ سَكَتَ ولَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا. السّابِعَةُ: أنَّ ذِكْرَ هَذِهِ القِصَّةِ، وذِكْرَ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقْتَضِي إشاعَةَ الفاحِشَةِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النُّورِ: ١٩] . الثّامِنَةُ: لَوْ سَعى داوُدُ في قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: «مَن سَعى في دَمِ مُسْلِمٍ ولَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ» وأيْضًا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكانَ ظالِمًا، فَكانَ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ [هُودٍ: ١٨] . التّاسِعَةُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”مَن حَدَّثَكم بِحَدِيثِ داوُدَ عَلى ما يَرْوِيهِ القَصّاصُ جَلَدْتُهُ مِائَةً وسِتِّينَ“ وهو حَدُّ الفِرْيَةِ عَلى الأنْبِياءِ، ومِمّا يُقَوِّي هَذا أنَّهم لَمّا قالُوا إنَّ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنى وشَهِدَ ثَلاثَةٌ مِن عُدُولِ الصَّحابَةِ بِذَلِكَ، وأمّا الرّابِعُ فَإنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأنِّي رَأيْتُ ذَلِكَ العَمَلَ. يَعْنِي فَإنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ كَذَّبَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةَ وجَلَدَ كُلَّ واحِدٍ مِنهم ثَمانِينَ جَلْدَةً لِأجْلِ أنَّهم قَذَفُوا، وإذا كانَ الحالُ في واحِدٍ مِن آحادِ الصَّحابَةِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ الحالُ مَعَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ أنَّهُ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. العاشِرُ: رُوِيَ أنَّ بَعْضَهم ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ عَلى ما في كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَقالَ لا يَنْبَغِي أنْ يُزادَ عَلَيْها وإنْ كانَتِ الواقِعَةُ عَلى ما ذُكِرَتْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمْ يَذْكُرْها لِأجْلِ أنْ يَسْتُرَ تِلْكَ الواقِعَةَ عَلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلا يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يَسْعى في هَتْكِ ذَلِكَ السِّتْرِ بَعْدَ ألْفِ سَنَةٍ أوْ أقَلَّ أوْ أكْثَرَ فَقالَ (p-١٦٨)عُمَرُ: ”سَماعِي هَذا الكَلامَ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ“ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْناها أنَّ القِصَّةَ الَّتِي ذَكَرُوها فاسِدَةٌ باطِلَةٌ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّ كَثِيرًا مِن أكابِرِ المُحَدِّثِينَ والمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ القِصَّةَ، فَكَيْفَ الحالُ فِيها ؟ فالجَوابُ الحَقِيقِيُّ أنَّهُ لَمّا وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ الدَّلائِلِ القاطِعَةِ وبَيْنَ خَبَرٍ واحِدٍ مِن أخْبارِ الآحادِ كانَ الرُّجُوعُ إلى الدَّلائِلِ القاطِعَةِ أوْلى، وأيْضًا فالأصْلُ بَراءَةُ الذِّمَّةِ، وأيْضًا فَلَمّا تَعارَضَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ كانَ جانِبُ التَّحْرِيمِ أوْلى، وأيْضًا طَرِيقَةُ الِاحْتِياطِ تُوجِبُ تَرْجِيحَ قَوْلِنا، وأيْضًا فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ هَذِهِ الواقِعَةِ لا يَقُولُ اللَّهُ لَنا يَوْمَ القِيامَةِ لِمَ لَمْ تَسْعَوْا في تَشْهِيرِ هَذِهِ الواقِعَةِ ؟ وأمّا بِتَقْدِيرِ كَوْنِها باطِلَةً فَإنَّ عَلَيْنا في ذِكْرِها أعْظَمَ العِقابِ، وأيْضًا فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ ”«إذا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ» “ وهَهُنا لَمْ يَحْصُلِ العِلْمُ ولا الظَّنُّ في صِحَّةِ هَذِهِ الحِكايَةِ، بَلِ الدَّلائِلُ القاهِرَةُ الَّتِي ذَكَرْناها قائِمَةٌ فَوَجَبَ أنْ لا تَجُوزَ الشَّهادَةُ بِها، وأيْضًا كُلُّ المُفَسِّرِينَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلى هَذا القَوْلِ بَلِ الأكْثَرُونَ المُحِقُّونَ والمُحَقِّقُونَ مِنهم يَرُدُّونَهُ ويَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالكَذِبِ والفَسادِ، وأيْضًا إذا تَعارَضَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ والمُحَدِّثِينَ فِيهِ تَساقَطَتْ وبَقِيَ الرُّجُوعُ إلى الدَّلائِلِ الَّتِي ذَكَرْناها، فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ القِصَّةِ. أمّا الِاحْتِمالُ الثّانِي: وهو أنْ تُحْمَلَ هَذِهِ القِصَّةُ عَلى وجْهٍ يُوجِبُ حُصُولَ الصَّغِيرَةِ ولا يُوجِبُ حُصُولَ الكَبِيرَةِ، فَنَقُولُ في كَيْفِيَّةِ هَذِهِ القِصَّةِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ المَرْأةَ خَطَبَها أُورِيا فَأجابُوهُ ثُمَّ خَطَبَها داوُدُ فَآثَرَهُ أهْلُها، فَكانَ ذَنْبُهُ أنْ خَطَبَ عَلى خِطْبَةِ أخِيهِ المُؤْمِنِ مَعَ كَثْرَةِ نِسائِهِ. الثّانِي: قالُوا إنَّهُ وقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْها فَمالَ قَلْبُهُ إلَيْها ولَيْسَ لَهُ في هَذا ذَنْبٌ البَتَّةَ، أمّا وقْعُ بَصَرِهِ عَلَيْها مِن غَيْرِ قَصْدٍ فَذَلِكَ لَيْسَ بِذَنْبٍ، وأمّا حُصُولُ المَيْلِ عَقِيبَ النَّظَرِ فَلَيْسَ أيْضًا ذَنْبًا لِأنَّ هَذا المَيْلَ لَيْسَ في وُسْعِهِ، فَلا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ بَلْ لَمّا اتَّفَقَ أنْ قُتِلَ زَوْجُها لَمْ يَتَأذَّ تَأذِّيًا عَظِيمًا بِسَبَبِ قَتْلِهِ لِأجْلِ أنَّهُ طَمِعَ أنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ المَرْأةِ فَحَصَلَتِ الزَّلَّةُ بِسَبَبِ هَذا المَعْنى وهو أنَّهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ قَتْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ. والثّالِثُ: أنَّهُ كانَ أهْلُ زَمانِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَسْألُ بَعْضُهم بَعْضًا أنْ يُطَلِّقَ امْرَأتَهُ حَتّى يَتَزَوَّجَها، وكانَتْ عادَتُهم في هَذا المَعْنى مَأْلُوفَةً مَعْرُوفَةً أوْ أنَّ الأنْصارَ كانُوا يُساوُونَ المُهاجِرِينَ بِهَذا المَعْنى فاتَّفَقَ أنَّ عَيْنَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ وقَعَتْ عَلى تِلْكَ المَرْأةِ فَأحَبَّها فَسَألَهُ النُّزُولَ عَنْها فاسْتَحْيا أنَّ يَرُدَّهُ فَفَعَلَ وهي أُمُّ سُلَيْمانَ فَقِيلَ لَهُ هَذا وإنْ كانَ جائِزًا في ظاهِرِ الشَّرِيعَةِ، إلّا أنَّهُ لا يَلِيقُ بِكَ، فَإنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ ثَلاثَةٌ لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ القِصَّةَ عَلى واحِدٍ مِنها لَمْ يَلْزَمْ في حَقِّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا تَرْكُ الأفْضَلِ والأوْلى. * * * وأمّا الِاحْتِمالُ الثّالِثُ: وهو أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ عَلى وجْهٍ لا يَلْزَمُ إلْحاقُ الكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ بِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، بَلْ يُوجِبُ إلْحاقَ أعْظَمِ أنْواعِ المَدْحِ والثَّناءِ بِهِ وهو أنْ نَقُولَ رُوِيَ أنَّ جَماعَةً مِنَ الأعْداءِ طَمِعُوا في أنْ يَقْتُلُوا نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَ لَهُ يَوْمٌ يَخْلُو فِيهِ بِنَفْسِهِ ويَشْتَغِلُ بِطاعَةِ رَبِّهِ، فانْتَهَزُوا الفُرْصَةَ في ذَلِكَ اليَوْمِ وتَسَوَّرُوا المِحْرابَ، فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وجَدُوا عِنْدَهُ أقْوامًا يَمْنَعُونَهُ مِنهم فَخافُوا فَوَضَعُوا كَذِبًا، فَقالُوا خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ إلى آخِرِ القِصَّةِ، ولَيْسَ في لَفْظِ القُرْآنِ ما يُمْكِنُ أنْ يُحْتَجَّ بِهِ في إلْحاقِ الذَّنْبِ (p-١٦٩)بِداوُدَ إلّا ألْفاظٌ أرْبَعَةٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿وظَنَّ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ﴾ . وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ . وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وأنابَ﴾ . ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ﴾ ثُمَّ نَقُولُ: وهَذِهِ الألْفاظُ لا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنها عَلى ما ذَكَرُوهُ، وتَقْرِيرُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهم لَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِطَلَبِ قَتْلِهِ بِهَذا الطَّرِيقِ، وعَلِمَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ دَعاهُ الغَضَبُ إلى أنْ يَشْتَغِلَ بِالِانْتِقامِ مِنهم، إلّا أنَّهُ مالَ إلى الصَّفْحِ والتَّجاوُزِ عَنْهم طَلَبًا لِمَرْضاةِ اللَّهِ، قالَ: وكانَتْ هَذِهِ الواقِعَةُ هي الفِتْنَةُ لِأنَّها جارِيَةٌ مَجْرى الِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِمّا هم بِهِ مِنَ الِانْتِقامِ مِنهم وتابَ عَنْ ذَلِكَ الهَمِّ وأنابَ، فَغَفَرَ لَهُ ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ الهَمِّ والعَزْمِ. والثّانِي: أنَّهُ وإنْ غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّهم دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، إلّا أنَّهُ نَدِمَ عَلى ذَلِكَ الظَّنِّ، وقالَ: لَمّا لَمْ تَقُمْ دَلالَةٌ ولا أمارَةٌ عَلى أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، فَبِئْسَما عَلِمْتَ بِهِمْ حَيْثُ ظَنَنْتَ بِهِمْ هَذا الظَّنَّ الرَّدِيءَ، فَكانَ هَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وظَنَّ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ مِنهُ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ. الثّالِثُ: أنَّ دُخُولَهم عَلَيْهِ كانَ فِتْنَةً لِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلّا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَغْفَرَ لِذَلِكَ الدّاخِلِ العازِمِ عَلى قَتْلِهِ، كَما قالَ في حَقِّ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [محمد: ١٩] فَداوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَغْفَرَ لَهم وأنابَ، أيْ رَجَعَ إلى اللَّهِ تَعالى في طَلَبِ مَغْفِرَةِ ذَلِكَ الدّاخِلِ القاصِدِ لِلْقَتْلِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ﴾ أيْ: غَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ لِأجْلِ احْتِرامِ داوُدَ ولِتَعْظِيمِهِ، كَما قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ﴾ [الفتح: ٢] أنَّ مَعْناهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَغْفِرُ لَكَ ولِأجْلِكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِ أُمَّتِكَ. الرّابِعُ: هَبْ أنَّهُ تابَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ زَلَّةٍ صَدَرَتْ مِنهُ، لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ وقَعَتْ بِسَبَبِ المَرْأةِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ إنَّما حَصَلَتْ، لِأنَّهُ قَضى لِأحَدِ الخَصْمَيْنِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ كَلامَ الخَصْمِ الثّانِي، فَإنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ﴾ فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ ظالِمًا بِمُجَرَّدِ دَعْوى الخَصْمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، لِكَوْنِ هَذا الحُكْمِ مُخالِفًا لِلصَّوابِ، فَعِنْدَ هَذا اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفارِ والتَّوْبَةِ، إلّا أنَّ هَذا مِن بابِ تَرْكِ الأفْضَلِ والأوْلى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ البَياناتِ أنّا إذا حَمَلْنا هَذِهِ الآياتِ عَلى هَذا الوَجْهِ فَإنَّهُ لا يَلْزَمُ إسْنادُ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، بَلْ ذَلِكَ يُوجِبُ إسْنادَ أعْظَمِ الطّاعاتِ إلَيْهِ، ثُمَّ نَقُولُ: وحَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ أوْلى لِوُجُوهٍ. الأوَّلُ: أنَّ الأصْلَ في حالِ المُسْلِمِ البُعْدُ عَنِ المَناهِي، لا سِيَّما وهو رَجُلٌ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ. والثّانِي: أنَّهُ أحْوَطُ. والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في أوَّلِ الآيَةِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ فَإنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أظْهَرُوا السَّفاهَةَ حَيْثُ قالُوا: ﴿هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ واسْتَهْزَءُوا بِهِ حَيْثُ قالُوا: ﴿رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ﴾ فَقالَ تَعالى في أوَّلِ الآيَةِ: اصْبِرْ يا مُحَمَّدُ عَلى سَفاهَتِهِمْ وتَحَمَّلْ وتَحَلَّمْ ولا تُظْهِرِ الغَضَبَ واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، فَهَذا الذِّكْرُ إنَّما يَحْسُنُ إذا كانَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ صَبَرَ عَلى إيذائِهِمْ وتَحَمَّلَ سَفاهَتَهم وحَلِمَ ولَمْ يُظْهِرِ الطَّيْشَ والغَضَبَ، وهَذا المَعْنى إنَّما يَحْصُلُ إذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى ما ذَكَرْناهُ، أمّا إذا حَمَلْناها عَلى ما ذَكَرُوهُ صارَ الكَلامُ مُتَناقِضًا فاسِدًا. والرّابِعُ: أنَّ تِلْكَ الرِّوايَةَ إنَّما تَتَمَشّى إذا قُلْنا: الخَصْمانِ كانا مَلَكَيْنِ، ولَمّا كانا مِنَ المَلائِكَةِ وما كانَ (p-١٧٠)بَيْنَهُما مُخاصَمَةٌ وما بَغى أحَدُهُما عَلى الآخَرِ، كانَ قَوْلُهُما خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ كَذِبًا، فَهَذِهِ الرِّوايَةُ لا تَتِمُّ إلّا بِشَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: إسْنادُ الكَذِبِ إلى المَلائِكَةِ. والثّانِي: أنْ يُتَوَسَّلَ بِإسْنادِ الكَذِبِ إلى المَلائِكَةِ إلى إسْنادِ أفْحَشِ القَبائِحِ إلى رَجُلٍ كَبِيرٍ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ، فَأمّا إذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى ما ذَكَرْنا اسْتَغْنَيْنا عَنْ إسْنادِ الكَذِبِ إلى المَلائِكَةِ، وعَنْ إسْنادِ القَبِيحِ إلى الأنْبِياءِ، فَكانَ قَوْلُنا أوْلى، فَهَذا ما عِنْدَنا في هَذا البابِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ. ونَرْجِعُ الآنَ إلى تَفْسِيرِ الآياتِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: الخَصْمُ مَصْدَرُ خَصَمْتُهُ أخْصِمُهُ خَصْمًا، ثُمَّ يُسَمّى بِهِ الِاثْنانِ والجَمْعُ ولا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ، يُقالُ هُما خَصْمٌ وهم خَصْمٌ، كَما يُقالُ هُما عَدْلٌ وهم عَدْلٌ، والمَعْنى ذَوا خَصْمٍ وذَوُو خَصْمٍ، وأُرِيدَ بِالخَصْمِ هَهُنا الشَّخْصانِ اللَّذانِ دَخَلا عَلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ يُقالُ تَسَوَّرَتُ السُّورَ تَسَوُّرًا إذا عَلَوْتَهُ، ومَعْنى: ﴿تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ أيْ أتَوْهُ مِن سُورِهِ وهو أعْلاهُ، يُقالُ تَسَوَّرَ فُلانٌ الدّارَ إذا أتاها مِن قِبَلِ سُورِها. وأمّا المِحْرابُ فالمُرادُ مِنهُ البَيْتُ الَّذِي كانَ داوُدُ يَدْخُلُ فِيهِ ويَشْتَغِلُ بِطاعَةِ رَبِّهِ، وسُمِّيَ ذَلِكَ البَيْتُ المِحْرابَ لِاشْتِمالِهِ عَلى المِحْرابِ، كَما يُسَمّى الشَّيْءُ بِأشْرَفِ أجْزائِهِ، وهَهُنا مَسْألَةٌ مِن عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ، وهي أنَّ أقَلَّ الجَمْعِ اثْنانِ عِنْدَ بَعْضِ النّاسِ، وهَؤُلاءِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ صِيغَةَ الجَمْعِ في هَذِهِ الآياتِ في أرْبَعَةِ مَواضِعَ: أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ . وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿إذْ دَخَلُوا﴾ . وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿مِنهُمْ﴾ . ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿قالُوا لا تَخَفْ﴾ فَهَذِهِ الألْفاظُ الأرْبَعَةُ كُلُّها صِيَغُ الجَمْعِ، وهم كانُوا اثْنَيْنِ بِدَلِيلِ أنَّهم قالُوا خَصْمانِ، قالُوا: فَهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ أقَلَّ الجَمْعِ اثْنانِ. والجَوابُ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الخَصْمَيْنِ جَمْعًا كَثِيرِينَ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ الخَصْمَ إذا جُعِلَ اسْمًا فَإنَّهُ لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ﴾ والفائِدَةُ فِيهِ أنَّهم رُبَّما تَسَوَّرُوا المِحْرابَ وما دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمّا قالَ: ﴿إذْ دَخَلُوا عَلى﴾ دَلَّ عَلى أنَّهم بَعْدَ التَّسَوُّرِ دَخَلُوا عَلَيْهِ، قالَ الفَرّاءُ: وقَدْ يُجاءُ بِـ ”إذْ“ مَرَّتَيْنِ ويَكُونُ مَعْناهُما كالواحِدِ، كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُكَ إذْ دَخَلْتَ عَلَيَّ إذِ اجْتَرَأْتَ، مَعَ أنَّهُ يَكُونُ وقْتُ الدُّخُولِ ووَقْتُ الِاجْتِراءِ واحِدًا، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَفَزِعَ مِنهُمْ﴾ والسَّبَبُ أنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَآهُما قَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ لا مِنَ الطَّرِيقِ المُعْتادِ، عَلِمَ أنَّهم إنَّما دَخَلُوا عَلَيْهِ لِلشَّرِّ، فَلا جَرَمَ فَزَعَ مِنهم، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: خَصْمانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ نَحْنُ خَصْمانِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَهُنا قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُما كانا مَلَكَيْنِ نَزَلا مِنَ السَّماءِ وأرادَ تَنْبِيهَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى قُبْحِ العَمَلِ الَّذِي أقْدَمَ عَلَيْهِ. والثّانِي: أنَّهُما كانا إنْسانَيْنِ دَخَلا عَلَيْهِ لِلشَّرِّ والقَتْلِ، فَظَنّا أنَّهُما يَجِدانِهِ خالِيًا، فَلَمّا رَأيا عِنْدَهُ جَماعَةً مِنَ الخَدَمِ اخْتَلَقا ذَلِكَ الكَذِبِ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وأمّا المُنْكِرُونَ لِكَوْنِهِما مَلَكَيْنِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأنَّهُما لَوْ كانا مَلَكَيْنِ لَكانا كاذِبَيْنِ في قَوْلِهِما ﴿خَصْمانِ﴾ فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ المَلائِكَةِ خُصُومَةٌ، ولَكانا كاذِبَيْنِ في قَوْلِهِما: ﴿بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ ولَكانا كاذِبَيْنِ في قَوْلِهِما: ﴿إنَّ هَذا أخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ فَثَبَتَ أنَّهُما لَوْ كانا مَلَكَيْنِ كاذِبَيْنِ، والكَذِبُ عَلى المَلَكِ غَيْرُ جائِزٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٧] ولِقَوْلِهِ: ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٦] أجابَ الذّاهِبُونَ إلى القَوْلِ الأوَّلِ عَنْ هَذا الكَلامِ بِأنْ قالُوا: إنَّ المَلَكَيْنِ إنَّما ذَكَرا هَذا الكَلامَ عَلى سَبِيلِ ضَرْبِ المَثَلِ لا عَلى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ فَلَمْ يَلْزَمِ الكَذِبُ، وأُجِيبُ (p-١٧١)عَنْ هَذا الجَوابِ بِأنَّ ما ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي العُدُولَ عَنْ ظاهِرِ اللَّفْظِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ عَلى خِلافِ الأصْلِ. أمّا إذا حَمَلْنا الكَلامَ عَلى أنَّ الخَصْمَيْنِ كانا رَجُلَيْنِ دَخَلا عَلَيْهِ لِغَرَضِ الشَّرِّ ثُمَّ وضَعا هَذا الحَدِيثَ الباطِلَ، فَحِينَئِذٍ لَزِمَ إسْنادُ الكَذِبِ إلى شَخْصَيْنِ فاسِقَيْنِ فَكانَ هَذا أوْلى مِنَ القَوْلِ الأوَّلِ، واللَّهُ أعْلَمُ. وأمّا القائِلُونَ بِكَوْنِهِما مَلَكَيْنِ فَقَدِ احْتَجّا بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: اتِّفاقُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ. والثّانِي: أنَّهُ أرْفَعُ مَنزِلَةً مِن أنْ يَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ آحادُ الرَّعِيَّةِ في حالِ تَعَبُّدِهِ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ المَلائِكَةِ. الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قالُوا لا تَخَفْ﴾ كالدَّلالَةِ عَلى كَوْنِهِما مَلَكَيْنِ لِأنَّ مَن هو مِن رَعِيَّتِهِ لا يَكادُ يَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ رِفْعَةِ مَنزِلَتِهِ. الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُما: ﴿ولا تُشْطِطْ﴾ كالدَّلالَةِ عَلى كَوْنِهِما مَلَكَيْنِ لِأنَّ أحَدًا مِن رَعِيَّتِهِ لا يَتَجاسَرُ أنْ يَقُولَ لَهُ لا تَظْلِمْ ولا تَتَجاوَزْ عَنِ الحَقِّ، واعْلَمْ أنَّ ضَعْفَ هَذِهِ الدَّلائِلِ ظاهِرٌ، ولا حاجَةَ إلى الجَوابِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ أيْ تَعَدّى وخَرَجَ عَنِ الحَدِّ، يُقالُ بَغى الجُرْحُ إذا أفْرَطَ وجَعُهُ وانْتَهى إلى الغايَةِ، ويُقالُ: بَغَتِ المَرْأةُ إذا زَنَتْ، لِأنَّ الزِّنا كَبِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ، قالَ تَعالى: ﴿ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكم عَلى البِغاءِ﴾ [النُّورِ: ٣٣] ثُمَّ قالَ: ﴿فاحْكم بَيْنَنا بِالحَقِّ﴾ مَعْنى الحُكْمِ إحْكامُ الأمْرِ في إمْضاءِ تَكْلِيفِ اللَّهِ عَلَيْهِما في الواقِعَةِ، ومِنهُ حِكْمَةُ الدّابَّةِ لِأنَّها تُمْنَعُ مِنَ الجِماحِ، ومِنهُ بِناءٌ مُحْكَمٌ إذا كانَ قَوِيًّا، وقَوْلُهُ: ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ بِالحُكْمِ الحَقِّ وهو الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ ﴿ولا تُشْطِطْ﴾ يُقالُ شَطَّ الرَّجُلُ إذا بَعُدَ، ومِنهُ قَوْلُهُ: شَطَّتِ الدّارُ إذا بَعُدَتْ، قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ [الكَهْفِ: ١٤] أيْ قَوْلًا بَعِيدًا عَنِ الحَقِّ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تُشْطِطْ﴾ أيْ لا تَبْعُدُ في هَذا الحُكْمِ عَنِ الحَقِّ، ثُمَّ قالَ: ﴿واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ وسَواءُ الصِّراطِ هو وسَطُهُ، قالَ تَعالى: ﴿فاطَّلَعَ فَرَآهُ في سَواءِ الجَحِيمِ﴾ [الصّافّاتِ: ٥٥] ووَسَطُ الشَّيْءِ أفْضَلُهُ وأعْدَلُهُ، قالَ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٣] وأقُولُ إنَّهم عَبَّرُوا عَنِ المَقْصُودِ الواحِدِ بِثَلاثِ عِباراتٍ: أوَّلُها: قَوْلُهم فاحْكم بِالحَقِّ. وثانِيها: قَوْلُهم: ﴿ولا تُشْطِطْ﴾ وهي نَهْيٌ عَنِ الباطِلِ. وثالِثُها: قَوْلُهم: ﴿واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ يَعْنِي يَجِبُ أنْ يَكُونَ سَعْيُكَ في إيجادِ هَذا الحَقِّ. وفي الِاحْتِرازِ عَنْ هَذا الباطِلِ أنْ تَرُدَّنا مِنَ الطَّرِيقِ الباطِلِ إلى الطَّرِيقِ الحَقِّ، وهَذا مُبالَغَةٌ تامَّةٌ في تَقْرِيرِ المَطْلُوبِ، واعْلَمْ أنَّهم لَمّا أخْبَرُوا عَنْ وُقُوعِ الخُصُومَةِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ أرْدَفُوهُ بِبَيانِ سَبَبِ تِلْكَ الخُصُومَةِ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، فَقالَ: ﴿إنَّ هَذا أخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ ﴿أخِي﴾ بَدَلٌ مِن هَذا أوْ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ﴾ والمُرادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ أوْ أُخُوَّةُ الصَّداقَةِ والأُلْفَةِ أوْ أُخُوَّةُ الشَّرِكَةِ والخُلْطَةِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطاءِ﴾ وكُلُّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ الأخَواتِ تُوجِبُ الِامْتِناعَ مِنَ الظُّلْمِ والِاعْتِداءِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ قُرِئَ ”تَسْعٌ وتَسْعُونَ“ بِفَتْحِ التّاءِ و”نِعْجَةً“ بِكَسْرِ النُّونِ، وهَذا مِنَ اخْتِلافِ اللُّغاتِ نَحْوُ نَطْعٍ ونِطْعٍ، ولَقْوَةٍ ولِقْوَةٍ وهي الأُنْثى مِنَ العُقْبانِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ اللَّيْثُ: النَّعْجَةُ الأُنْثى مِنَ الضَّأْنِ والبَقَرَةِ الوَحْشِيَّةِ والشّاةِ الجَبَلِيَّةِ، والجَمْعُ النَّعَجاتُ، والعَرَبُ جَرَتْ عادَتُهم بِجَعْلِ النَّعْجَةِ والظَّبْيَةِ كِنايَةً عَنِ المَرْأةِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثى“ وهَذا يَكُونُ لِأجْلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ [النحل: ٥١]، ثُمَّ قالَ: ﴿أكْفِلْنِيها وعَزَّنِي في الخِطابِ﴾ قالَ (p-١٧٢)صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿أكْفِلْنِيها﴾ حَقِيقَتُهُ اجْعَلْنِي أكْفُلُها كَما أكْفُلُ ما تَحْتَ يَدِي ﴿وعَزَّنِي﴾ غَلَبَنِي، يُقالُ عَزَّهُ يَعِزُّهُ، والمَعْنى جاءَنِي بِحِجاجٍ لَمْ أقْدِرْ أنْ أُورِدَ عَلَيْهِ ما أوْرَدَهُ بِهِ، وقُرِئَ وعازَنِي مِنَ المُعازَةِ، وهي المُغالَبَةُ، واعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ قالُوا إنَّ هَذَيْنِ الخَصْمَيْنِ كانا مِنَ المَلائِكَةِ زَعَمُوا أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ النِّعاجِ التَّمْثِيلُ، لِأنَّ داوُدَ كانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأةً ولَمْ يَكُنْ لَأُورِيا إلّا امْرَأةٌ واحِدَةٌ، فَذَكَرَتِ المَلائِكَةُ تِلْكَ الواقِعَةَ عَلى سَبِيلِ الرَّمْزِ والتَّمْثِيلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ﴾ أيْ: سُؤالِ إضافَةِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ، ورُوِيَ أنَّهُ قالَ لَهُ: إنْ رُمْتَ ذَلِكَ ضَرَبْنا مِنكَ هَذا وهَذا، وأشارَ إلى الأنْفِ والجَبْهَةِ، فَقالَ: يا داوُدُ أنْتَ أحَقُّ أنْ نَضْرِبَ مِنكَ هَذا وهَذا، وأنْتَ فَعَلَتْ كَيْتَ وكَيْتَ، ثُمَّ نَظَرَ داوُدُ فَلَمْ يَرَ أحَدًا فَعَرَفَ الحالَ، فَإنْ قِيلَ كَيْفَ جازَ لِداوُدَ أنْ يَحْكُمَ عَلى أحَدِ الخَصْمَيْنِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ خَصْمِهِ ؟ قُلْنا: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: لَمّا فَرَغَ الخَصْمُ الأوَّلُ مِن كَلامِهِ نَظَرَ داوُدُ إلى الخَصْمِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ، وقالَ لَئِنْ صَدَقَ لَقَدْ ظَلَمْتَهُ، والحاصِلُ أنَّ هَذا الحُكْمَ كانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ كَوْنِهِ صادِقًا في دَعْواهُ. والثّانِي: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: لَمّا ادَّعى أحَدُ الخَصْمَيْنِ اعْتَرَفَ الثّانِي فَحَكَمَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ الِاعْتِرافَ لِدَلالَةِ ظاهِرِ الكَلامِ عَلَيْهِ، كَما تَقُولُ: أمَرْتُكَ بِالتِّجارَةِ فَكَسَبْتَ تُرِيدُ اتَّجَرْتَ فَكَسَبْتَ، وقالَ تَعالى: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٦٣] أيْ فَضَرَبَ فانْفَلَقَ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أنَّ الخَصْمَ الَّذِي هَذا شَأْنُهُ يَكُونُ قَدْ ظَلَمَكَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ قالَ اللَّيْثُ: خَلِيطُ الرَّجُلِ مُخالِطُهُ، وقالَ الزَّجّاجُ: الخُلَطاءُ الشُّرَكاءُ، فَإنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ داوُدُ الخُلَطاءَ بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ مَعَ أنَّ غَيْرَ الخُلَطاءِ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؟ والجَوابُ: لا شَكَّ أنَّ المُخالَطَةَ تُوجِبُ كَثْرَةَ المُنازَعَةِ والمُخاصَمَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُما إذا اخْتَلَطا اطَّلَعَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى أحْوالِ الآخَرِ، فَكُلُّ ما يَمْلِكُهُ مِنَ الأشْياءِ النَّفِيسَةِ إذا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إلى زِيادَةِ المُخاصَمَةِ والمُنازَعَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ خَصَّ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ الخُلَطاءَ بِزِيادَةِ البَغْيِ والعُدْوانِ، ثُمَّ اسْتَثْنى عَنْ هَذا الحُكْمِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَلِمُوا الصّالِحاتِ لِأنَّ مُخالَطَةَ هَؤُلاءِ لا تَكُونُ إلّا لِأجْلِ الدِّينِ وطَلَبِ السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ، فَلا جَرَمَ مُخالَطَتُهم لا تُوجِبُ المُنازَعَةَ، وأمّا الَّذِينَ تَكُونُ مُخالَطَتُهم لِأجْلِ حُبِّ الدُّنْيا لا بُدَّ وأنَّ تَصِيرَ مُخالَتَطُهم سَبَبًا لِمَزِيدِ البَغْيِ والعُدْوانِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لا يَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، فَلَوْ كانَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ بَغى وتَعَدّى عَلى ذَلِكَ الرَّجُلِ لَزِمَ بِحُكْمِ فَتْوى داوُدَ أنْ لا يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ باطِلٌ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَ مَن يَقُولُ المُرادُ مِن واقِعَةِ النَّعْجَةِ قِصَّةُ داوُدَ قَوْلُهُ باطِلٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ الحُكْمَ بِقِلَّةِ أهْلِ الخَيْرِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، قالَ تَعالى: ﴿وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سَبَأٍ: ١٣] وقالَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا المَوْضِعِ ﴿وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ وحَكى تَعالى عَنْ إبْلِيسَ أنَّهُ قالَ: ﴿ولا تَجِدُ أكْثَرَهم شاكِرِينَ﴾ [الأعْرافِ: ١٧] وسَبَبُ القِلَّةِ أنَّ الدَّواعِيَ إلى الدُّنْيا كَثِيرَةٌ، وهي الحَواسُّ الباطِنَةُ والظّاهِرَةُ وهي عَشَرَةٌ، والشُّهُودُ والغَضَبُ، والقُوى الطَّبِيعِيَّةُ السَّبْعَةُ، فالمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ واقِفُونَ عَلى بابِ جَهَنَّمَ البَدِنِ، وكُلُّها تَدْعُو إلى الخَلْقِ والدُّنْيا واللَّذَّةِ الحِسِّيَّةِ، وأمّا الدّاعِي إلى الحَقِّ (p-١٧٣)والدِّينِ فَلَيْسَ إلّا العَقْلَ، واسْتِيلاءُ القُوَّةِ الحِسِّيَّةِ والطَّبِيعِيَّةِ عَلى الخَلْقِ أكْثَرُ مِنَ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ فِيهِمْ، فَلِهَذا السَّبَبِ وقَعَتِ القِلَّةُ في جانِبِ أهْلِ الخَيْرِ والكَثْرَةُ في جانِبِ أهْلِ الشَّرِّ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ وما في قَوْلِهِ: ﴿وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ لِلْإبْهامِ وفِيهِ تَعَجُّبٌ مِن قِلَّتِهِمْ، قالَ وإذا أرَدْتَ أنْ تَتَحَقَّقَ فائِدَتَها ومَوْقِعَها فاطْرَحْها مِن قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ؛ وحَدِيثٌ ما عَلى قِصَرِهِ - وانْظُرْ هَلْ بَقِيَ لَهُ مَعْنًى قَطُّ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وظَنَّ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ﴾ قالُوا مَعْناهُ وعَلِمَ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ أيِ امْتَحَنّاهُ، قالُوا: والسَّبَبُ الَّذِي أوْجَبَ حَمْلَ لَفْظِ الظَّنِّ عَلى العِلْمِ هَهُنا أنَّ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قَضى بَيْنَهُما نَظَرَ أحَدُهُما إلى صاحِبِهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ صَعِدَ إلى السَّماءِ قِبَلَ وجْهِهِ، فَعَلِمَ داوُدُ أنَّ اللَّهَ ابْتَلاهُ بِذَلِكَ فَثَبَتَ أنَّ داوُدُ عَلِمَ ذَلِكَ وإنَّما جازَ حَمْلُ لَفْظِ الظَّنِّ عَلى العِلْمِ لِأنَّ العِلْمَ الِاسْتِدْلالِيَّ يُشْبِهُ الظَّنَّ مُشابَهَةً عَظِيمَةً، والمُشابَهَةُ عِلَّةٌ لِجَوازِ المَجازِ، وأقُولُ: هَذا الكَلامُ إنَّما يَلْزَمُ إذا قُلْنا الخَصْمانِ كانا مَلَكَيْنِ أمّا إذا لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لا يَلْزَمُنا حَمْلُ الظَّنِّ عَلى العِلْمِ، بَلْ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ إنَّهُ لَمّا غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ حُصُولُ الِابْتِلاءِ مِنَ اللَّهِ تَعالى اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفارِ والإنابَةِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ أيْ سَألَ الغُفْرانَ مِن رَبِّهِ، ثُمَّ هَهُنا وجْهانِ: إنْ قُلْنا بِأنَّهُ قَدْ صَدَرَتْ زَلَّةٌ مِنهُ، حَمَلْنا هَذا الِاسْتِغْفارَ عَلَيْها، وإنْ لَمْ نَقُلْ بِهِ قُلْنا فِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: أنَّ القَوْمَ لَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قاصِدِينَ قَتْلَهُ، وإنَّهُ كانَ سُلْطانًا شَدِيدَ القَهْرِ عَظِيمَ القُوَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ إنَّهُ مَعَ القُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ عَلى الِانْتِقامِ ومَعَ حُصُولِ الفَزَعِ في قَلْبِهِ عَفا عَنْهم ولَمْ يَقُلْ لَهم شَيْئًا قُرْبَ الأمْرِ مِن أنْ يَدْخُلَ في قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ العُجْبِ، فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عَنْ تِلْكَ الحالَةِ وأنابَ إلى اللَّهِ، واعْتَرَفَ بِأنَّ إقْدامَهُ عَلى ذَلِكَ الخَيْرِ ما كانَ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وتَجاوَزَ عَنْهُ بِسَبَبِ طَرَيانِ ذَلِكَ الخاطِرِ. الثّانِي: لَعَلَّهُ هَمَّ بِإيذاءِ القَوْمِ، ثُمَّ قالَ: إنَّهُ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ قاطِعٌ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ قَصَدُوا الشَّرَّ فَعَفا عَنْهم ثُمَّ اسْتَغْفَرْ عَنْ ذَلِكَ الهَمِّ. الثّالِثُ: لَعَلَّ القَوْمَ تابُوا إلى اللَّهِ وطَلَبُوا مِنهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهم لِأجْلِ أنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهم فاسْتَغْفَرَ وتَضَرَّعَ إلى اللَّهِ، فَغَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهم بِسَبَبِ شَفاعَتِهِ ودُعائِهِ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ مُحْتَمَلَةٌ ظاهِرَةٌ، والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن أمْثالِ هَذِهِ الوُجُوهِ، وإذا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِما ذَكَرْناهُ ولَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ ولا ظَنِّيٌّ عَلى التِزامِ المُنْكَراتِ الَّتِي يَذْكُرُونَها، فَما الَّذِي يَحْمِلُنا عَلى التِزامِها والقَوْلِ بِها، والَّذِي يُؤَكِّدُ أنَّ الَّذِي ذَكَرْناهُ أقْرَبُ وأقْوى أنْ يُقالَ خَتَمَ اللَّهُ هَذِهِ القِصَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآبٍ﴾ ومِثْلُ هَذِهِ الخاتِمَةِ إنَّما تَحْسُنُ مِن حَقِّ مَن صَدَرَ مِنهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ في الخِدْمَةِ والطّاعَةِ، وتَحَمَّلَ أنْواعًا مِنَ الشَّدائِدِ في المُوافَقَةِ والِانْقِيادِ، أمّا إذا كانَ المَذْكُورُ السّابِقُ هو الإقْدامَ عَلى الجُرْمِ والذَّنْبِ فَإنَّ مِثْلَ هَذِهِ الخاتِمَةِ لا تَلِيقُ بِهِ، قالَ مالِكُ بْنُ دِينارٍ؛ إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أُتِيَ بِمِنبَرٍ رَفِيعٍ ويُوضَعُ في الجَنَّةِ، ويُقالُ يا داوُدُ مَجِّدْنِي بِذَلِكَ الصَّوْتِ الحَسَنِ الرَّخِيمِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ في الدُّنْيا واللَّهُ أعْلَمُ، بَقِيَ هَهُنا مَباحِثُ: الأوَّلُ: قُرِئَ فَتَناهُ وفَتَنّاهُ عَلى أنَّ الألِفَ ضَمِيرُ المَلَكَيْنِ. الثّانِي: المَشْهُورُ أنَّ الِاسْتِغْفارَ إنَّما كانَ بِسَبَبِ قِصَّةِ النَّعْجَةِ والنِّعاجِ، وقِيلَ أيْضًا إنَّما كانَ بِسَبَبِ أنَّهُ حَكَمَ لِأحَدِ الخَصْمَيْنِ قَبْلَ أنْ سَمِعَ كَلامَ الثّانِي وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ؛ ﴿وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الرُّكُوعِ، وأمّا السُّجُودُ فَقَدْ ثَبَتَ بِالأخْبارِ وكَذَلِكَ البُكاءُ الشَّدِيدُ في مُدَّةِ أرْبَعِينَ يَوْمًا ثَبَتَ بِالأخْبارِ. الرّابِعُ: أنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ هَذا المَوْضِعَ لَيْسَ فِيهِ سَجْدَةُ التِّلاوَةِ، قالَ: لِأنَّهُ تَوْبَةُ نَبِيٍّ فَلا تُوجِبُ سَجْدَةَ التِّلاوَةِ. الخامِسُ: اسْتَشْهَدَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الآيَةِ في سُجُودِ التِّلاوَةِ عَلى أنَّ الرُّكُوعَ يَقُومُ مَقامَ السُّجُودِ. (p-١٧٤)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب