القِصَّةُ الثّانِيَةُ قِصَّةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ
﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإبْراهِيمَ﴾ ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿أئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ ﴿فَما ظَنُّكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ﴾ ﴿فَقالَ إنِّي سَقِيمٌ﴾ ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ ﴿فَراغَ إلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ ألا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿ما لَكم لا تَنْطِقُونَ﴾ ﴿فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِاليَمِينِ﴾ ﴿فَأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ مِن شِيعَتِهِ إلى ماذا يَعُودُ ؟ فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: وهو الأظْهَرُ أنَّهُ عائِدٌ إلى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، أيْ: مِن شِيعَةِ نُوحٍ، أيْ مِن أهْلِ بَيْتِهِ وعَلى دِينِهِ ومِنهاجِهِ لَإبْراهِيمَ، قالُوا: وما كانَ بَيْنَ نُوحٍ وإبْراهِيمَ إلّا نَبِيّانِ هُودٌ وصالِحٌ، ورَوى صاحِبُ الكَشّافِ: إنَّهُ كانَ بَيْنَ نُوحٍ وإبْراهِيمَ ألْفانِ وسِتُّمِائَةٍ وأرْبَعُونَ سَنَةً.
الثّانِي: قالَ الكَلْبِيُّ: المُرادُ مِن شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لَإبْراهِيمَ بِمَعْنى أنَّهُ كانَ عَلى دِينِهِ ومِنهاجِهِ فَهو مِن شِيعَتِهِ وإنْ كانَ سابِقًا لَهُ، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ النَّبِيِّ ﷺ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إلى نُوحٍ أوْلى.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: العامِلُ في ”إذْ“ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ﴾ مِن مَعْنى المُشايَعَةِ يَعْنِي وإنَّ مِمَّنْ شايَعَهُ عَلى دِينِهِ وتَقْواهُ حِينَ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَإبْراهِيمَ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: قالَ مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: يَعْنِي: خالِصٌ مِنَ الشَّرَكِ، والمَعْنى أنَّهُ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ فَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ.
والثّانِي: قالَ الأُصُولِيُّونَ: المُرادُ أنَّهُ عاشَ وماتَ عَلى طَهارَةِ القَلْبِ مِن كُلِّ دَنَسٍ مِنَ المَعاصِي، فَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُ سَلِيمًا عَنِ الشِّرْكِ وعَنِ الشَّكِّ وعَنِ الغِلِّ والغِشِّ والحِقْدِ والحَسَدِ.
عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ كانَ يُحِبُّ لِلنّاسِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وسَلِمَ جَمِيعُ النّاسِ مِن غِشِّهِ وظُلْمِهِ وأسْلَمَهُ اللَّهُ تَعالى فَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ أحَدًا، واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى القَوْلِ الأوَّلِ بِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الكَلِمَةِ إنْكارَهُ عَلى قَوْمِهِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ﴾ واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى القَوْلِ الثّانِي بِأنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَلا يُقَيَّدُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، ويَتَأكَّدُ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنّا بِهِ عالِمِينَ﴾ .
(p-١٢٨)[الأنبياء: ٥١] مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] وقالَ: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى المَجِيءِ بِقَلْبِهِ رَبَّهُ ؟ قُلْنا: مَعْناهُ أنَّهُ أخْلَصَ لِلَّهِ قَلْبَهُ، فَكَأنَّهُ أتْحَفَ حَضْرَةَ اللَّهِ بِذَلِكَ القَلْبِ، ورَأيْتُ في التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ قالَ لِمُوسى: أجِبْ إلَهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّ إبْراهِيمَ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ذَكَرَ أنَّ مِن جُمْلَةِ آثارِ تِلْكَ السَّلامَةِ أنْ دَعا أباهُ وقَوْمَهُ إلى التَّوْحِيدِ فَقالَ: ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ﴾ والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ تَهْجِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وتَقْبِيحُها.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿أئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: أئِفْكًا مَفْعُولٌ لَهُ تَقْدِيرُهُ أتُرِيدُونَ آلِهَةً مِن دُونِهِ إفْكًا، وإنَّما قَدَّمَ المَفْعُولَ عَلى الفِعْلِ لِلْعِنايَةِ وقَدَّمَ المَفْعُولَ لَهُ عَلى المَفْعُولِ بِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ الأهَمُّ عِنْدَهُ أنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهم بِأنَّهم عَلى إفْكٍ وباطِلٍ في شِرْكِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إفْكًا مَفْعُولًا بِهِ يَعْنِي أتُرِيدُونَ إفْكًا، ثُمَّ فَسَّرَ الإفْكَ بِقَوْلِهِ: ﴿آلِهَةً دُونَ اللَّهِ﴾ عَلى أنَّها إفْكٌ في أنْفُسِها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا بِمَعْنى تُرِيدُونَ آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ آفِكِينَ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿فَما ظَنُّكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أتَظُنُّونَ بِرَبِّ العالَمِينَ أنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الجَماداتِ مُشارِكَةً لَهُ في المَعْبُودِيَّةِ.
وثانِيها: أتَظُنُّونَ بِرَبِّ العالَمِينَ أنَّهُ مِن جِنْسِ هَذِهِ الأجْسامِ حَتّى جَعَلْتُمُوها مُساوِيَةً لَهُ في المَعْبُودِيَّةِ فَنَبَّهَهم بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ﴾ ﴿فَقالَ إنِّي سَقِيمٌ﴾ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهم كانُوا يَتَعاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ فَعامَلَهم عَلى مُقْتَضى عادَتِهِمْ، وذَلِكَ أنَّهُ أرادَ أنْ يُكايِدَهم في أصْنامِهِمْ لِيُلْزِمَهُمُ الحُجَّةَ في أنَّها غَيْرُ مَعْبُودَةٍ، وكانَ لَهم مِنَ الغَدِ يَوْمُ عِيدٍ يَخْرُجُونَ إلَيْهِ فَأرادَ أنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهم لِيَبْقى خالِيًا في بَيْتِ الأصْنامِ، فَيَقْدِرُ عَلى كَسْرِها. وهَهُنا سُؤالانِ:
الأوَّلُ: أنَّ النَّظَرَ في عِلْمِ النُّجُومِ غَيْرُ جائِزٍ فَكَيْفَ أقْدَمَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ ؟
والثّانِي: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ سَقِيمًا فَلَمّا قالَ إنِّي سَقِيمٌ كانَ ذَلِكَ كَذِبًا ؟ واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ ذَكَرُوا في الجَوابِ عَنْهُما وُجُوهًا كَثِيرَةً:
الأوَّلُ: أنَّهُ نَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ في أوْقاتِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وكانَتْ تَأْتِيهِ سَقامَةٌ كالحُمّى في بَعْضِ ساعاتِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، فَنَظَرَ لِيَعْرِفَ هَلْ هي في تِلْكَ السّاعَةِ وقالَ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ فَجَعَلَهُ عُذْرًا في تَخَلُّفِهِ عَنِ العِيدِ الَّذِي لَهم وكانَ صادِقًا فِيما قالَ؛ لِأنَّ السُّقْمَ كانَ يَأْتِيهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وإنَّما تَخَلَّفَ لِأجْلِ تَكْسِيرِ أصْنامِهِمْ.
الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّ قَوْمَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانُوا أصْحابَ النُّجُومِ يُعَظِّمُونَها ويَقْضُونَ بِها عَلى غائِبِ الأُمُورِ، فَلِذَلِكَ نَظَرَ إبْراهِيمُ في النُّجُومِ أيْ: في عُلُومِ النُّجُومِ وفي مَعانِيهِ لا أنَّهُ نَظَرَ بِعَيْنِهِ إلَيْها، وهو كَما يُقالُ: فُلانٌ نَظَرَ في الفِقْهِ وفي النَّحْوِ وإنَّما أرادَ أنْ يُوهِمَهم أنَّهُ يَعْلَمُ ما يَعْلَمُونَ ويَتَعَرَّفُ مِن حَيْثُ يَتَعَرَّفُونَ حَتّى إذا قالَ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ سَكَنُوا إلى قَوْلِهِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ فَمَعْناهُ سَأُسْقَمُ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ﴾ [الزمر: ٣٠] أيْ: سَتَمُوتُ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ﴾ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا﴾ [الأنعام: ٧٦] إلى آخِرِ الآياتِ وكانَ ذَلِكَ النَّظَرُ لِأجْلِ أنْ يَتَعَرَّفَ أحْوالَ هَذِهِ الكَواكِبِ هَلْ هي قَدِيمَةٌ أوْ مُحْدَثَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ يَعْنِي (p-١٢٩)سَقِيمَ القَلْبِ غَيْرَ عارِفٍ بِرَبِّي، وكانَ ذَلِكَ قَبْلَ البُلُوغِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: قالَ ابْنُ زَيْدٍ كانَ لَهُ نَجْمٌ مَخْصُوصٌ، وكُلَّما طَلَعَ عَلى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَرِضَ إبْراهِيمُ، ولِأجْلِ هَذا الِاسْتِقْراءِ لَمّا رَآهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ طالِعًا عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ المَخْصُوصَةِ قالَ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ أيْ هَذا السَّقَمُ واقِعٌ لا مَحالَةَ.
الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ أيْ: مَرِيضُ القَلْبِ بِسَبَبِ إطْباقِ ذَلِكَ الجَمْعِ العَظِيمِ عَلى الكُفْرِ والشِّرْكِ، قالَ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الشعراء: ٣] .
الوَجْهُ السّادِسُ: في الجَوابِ أنا لا نُسَلِّمُ أنَّ النَّظَرَ في عِلْمِ النُّجُومِ والِاسْتِدْلالِ بِمُقايَسَتِها حَرامٌ؛ لِأنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَصَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الكَواكِبِ بِقُوَّةٍ وبِخاصِّيَّةٍ لِأجْلِها يَظْهَرُ مِنهُ أثَرٌ مَخْصُوصٌ، فَهَذا العِلْمُ عَلى هَذا الوَجْهِ لَيْسَ بِباطِلٍ.
وأمّا الكَذِبُ فَغَيْرُ لازِمٍ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ، بِمَعْنى أنَّ الإنْسانَ لا يَنْفَكُّ في أكْثَرِ أحْوالِهِ عَنْ حُصُولِ حالَةٍ مَكْرُوهَةٍ، إمّا في بَدَنِهِ وإمّا في قَلْبِهِ وكُلُّ ذَلِكَ سَقَمٌ.
الوَجْهُ السّابِعُ: قالَ بَعْضُهم: ذَلِكَ القَوْلُ عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كِذْبَةٌ ورَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ما كَذَبَ إبْراهِيمُ إلّا ثَلاثَ كَذَباتٍ» قُلْتُ لِبَعْضِهِمْ: هَذا الحَدِيثُ لا يَنْبَغِي أنْ يُقْبَلَ؛ لِأنَّ نِسْبَةَ الكَذِبِ إلى إبْراهِيمَ لا تَجُوزُ، فَقالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِكَذِبِ الرُّواةِ العُدُولِ ؟ فَقُلْتُ: لَمّا وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ نِسْبَةِ الكَذِبِ إلى الرّاوِي وبَيْنَ نِسْبَتِهِ إلى الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ نِسْبَتَهُ إلى الرّاوِي أوْلى، ثُمَّ نَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِكَوْنِهِ كَذِبًا خَبَرًا شَبِيهًا بِالكَذِبِ ؟ .
والوَجْهُ الثّامِنُ: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ﴾ أيْ نَظَرَ في نُجُومِ كَلامِهِمْ ومُتَفَرِّقاتِ أقْوالِهِمْ، فَإنَّ الأشْياءَ الَّتِي تَحْدُثُ قِطْعَةً قِطْعَةً، يُقالُ: إنَّها مُنَجَّمَةٌ أيْ مُتَفَرِّقَةٌ ومِنهُ نُجُومُ الكِتابَةِ، والمَعْنى أنَّهُ لَمّا سَمِعَ كَلِماتِهِمُ المُتَفَرِّقَةَ نَظَرَ فِيها كَيْ يَسْتَخْرِجَ مِنها حِيلَةً يَقْدِرُ بِها عَلى إقامَةِ عُذْرٍ لِنَفْسِهِ في التَّخَلُّفِ عَنْهم فَلَمْ يَجِدْ عُذْرًا أحْسَنَ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ والمُرادُ أنَّهُ لا بُدَّ مِن أنْ أصِيرَ سَقِيمًا كَما تَقُولُ لِمَن رَأيْتَهُ عَلى أوْقاتِ السَّفَرِ: إنَّكَ مُسافِرٌ.
واعْلَمْ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قالَ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ تَوَلَّوْا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَتَرَكُوهُ وعَذَرُوهُ في أنْ لا يَخْرُجَ اليَوْمَ فَكانَ ذَلِكَ مُرادَهُ. ﴿فَراغَ إلى آلِهَتِهِمْ﴾ يُقالُ: راغَ إلَيْهِ إذا مالَ إلَيْهِ في السِّرِّ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ، ومِنهُ رَوَغانُ الثَّعْلَبِ. وقَوْلُهُ: ﴿ألا تَأْكُلُونَ﴾ يَعْنِي الطَّعامَ الَّذِي كانَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، وإنَّما قالَ ذَلِكَ اسْتِهْزاءً بِها، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿ما لَكم لا تَنْطِقُونَ﴾ ﴿فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا﴾ فَأقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُسْتَخْفِيًا كَأنَّهُ قالَ: فَضَرَبَهم ضَرْبًا؛ لِأنَّ: راغَ عَلَيْهِمْ في مَعْنى ضَرَبَهم أوْ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِمَعْنى ضارِبًا. وفي قَوْلِهِ: ﴿بِاليَمِينِ﴾ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: مَعْناهُ بِالقُوَّةِ والشِّدَّةِ؛ لِأنَّ اليَمِينَ أقْوى الجارِحَتَيْنِ.
والثّانِي: أنَّهُ أتى بِذَلِكَ الفِعْلِ بِسَبَبِ الحَلِفِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى عَنْهُ: ﴿تاللَّهِ لَأكِيدَنَّ أصْنامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] ثُمَّ قالَ: ﴿فَأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ قَرَأ حَمْزَةُ: ”يُزِفُّونَ“ بِضَمِّ الياءِ والباقُونَ بِفَتْحِها وهُما لُغَتانِ، قالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَن قَرَأ بِالنَّصْبِ فَهو مِن زَفَّ يَزِفُّ، ومَن قَرَأ بِالضَّمِّ فَهو مِن أزَفَّ يُزِفُّ، قالَ الزَّجّاجُ: يَزِفُّونَ يُسْرِعُونَ وأصْلُهُ مِن زَفِيفِ النَّعامَةِ وهو ابْتِداءُ عَدْوِها، وقَرَأ حَمْزَةُ: ”يُزِفُّونَ“ أيْ يَحْمِلُونَ غَيْرَهم عَلى الزَّفِيفِ، قالَ الأصْمَعِيُّ: يُقالُ: أزْفَفْتُ الإبِلَ إذا حَمَلْتَها عَلى أنْ تَزِفَّ، قالَ: وهو سُرْعَةُ الخُطْوَةِ ومُقارَبَةُ المَشْيِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ عَلى قِراءَتِهِ كَأنَّهم حَمَلُوا دَوابَّهم عَلى الإسْراعِ في المَشْيِ، فَإنْ قِيلَ: مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كَسَرَها عَدَوْا إلَيْهِ وأخَذُوهُ، وقالَ في سُورَةٍ أُخْرى في عَيْنِ هَذِهِ القِصَّةِ: ﴿قالُوا مَن فَعَلَ هَذا بِآلِهَتِنا إنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهم يُقالُ لَهُ إبْراهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٠] وهَذا يَقْتَضِي أنَّهم في أوَّلِ الأمْرِ ما عَرَفُوهُ فَبَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ تَناقُضٌ ؟ قُلْنا: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ جَماعَةً عَرَفُوهُ فَعَمَدُوا إلَيْهِ مُسْرِعِينَ والأكْثَرُونَ ما عَرَفُوهُ، فَتَعَرَّفُوا أنَّ ذَلِكَ الكاسِرَ مَن هو، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":85,"ayahs":["إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ","أَىِٕفۡكًا ءَالِهَةࣰ دُونَ ٱللَّهِ تُرِیدُونَ","فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","فَنَظَرَ نَظۡرَةࣰ فِی ٱلنُّجُومِ","فَقَالَ إِنِّی سَقِیمࣱ","فَتَوَلَّوۡا۟ عَنۡهُ مُدۡبِرِینَ","فَرَاغَ إِلَىٰۤ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ","مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ","فَرَاغَ عَلَیۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡیَمِینِ","فَأَقۡبَلُوۤا۟ إِلَیۡهِ یَزِفُّونَ","قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ","وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ","قَالُوا۟ ٱبۡنُوا۟ لَهُۥ بُنۡیَـٰنࣰا فَأَلۡقُوهُ فِی ٱلۡجَحِیمِ","فَأَرَادُوا۟ بِهِۦ كَیۡدࣰا فَجَعَلۡنَـٰهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِینَ"],"ayah":"قَالُوا۟ ٱبۡنُوا۟ لَهُۥ بُنۡیَـٰنࣰا فَأَلۡقُوهُ فِی ٱلۡجَحِیمِ"}