الباحث القرآني

(p-١٢٣)﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾ ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ ﴿إنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ﴾ ﴿إنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجَحِيمِ﴾ ﴿طَلْعُها كَأنَّهُ رُءُوسُ الشَّياطِينِ﴾ ﴿فَإنَّهم لَآكِلُونَ مِنها فَمالِئُونَ مِنها البُطُونَ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّ لَهم عَلَيْها لَشَوْبًا مِن حَمِيمٍ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهم لَإلى الجَحِيمِ﴾ ﴿إنَّهم ألْفَوْا آباءَهم ضالِّينَ﴾ ﴿فَهم عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهم أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾ ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ بَعْدَ ذِكْرِ أهْلِ الجَنَّةِ ووَصْفِها ﴿لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ العامِلُونَ﴾ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ فَأمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يُورِدَ ذَلِكَ عَلى كُفّارِ قَوْمِهِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زاجِرًا لَهم عَنِ الكُفْرِ، وكَما وصَفَ مِن قَبْلُ مَآكِلَ أهْلِ الجَنَّةِ ومَشارِبَهم، وصَفَ أيْضًا في هَذِهِ الآيَةِ مَآكِلَ أهْلِ النّارِ ومَشارِبَهم. أمّا قَوْلُهُ: ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ فالمَعْنى أنَّ الرِّزْقَ المَعْلُومَ المَذْكُورَ لِأهْلِ الجَنَّةِ ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا﴾ أيْ خَيْرٌ حاصِلًا ﴿أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ وأصْلُ النُّزُلِ الفَضْلُ الواسِعُ في الطَّعامِ يُقالُ: طَعامٌ كَثِيرُ النُّزُلِ، فاسْتُعِيرَ لِلْحاصِلِ مِنَ الشَّيْءِ، ويُقالُ: أرْسَلَ الأمِيرُ إلى فُلانٍ نُزُلًا وهو الشَّيْءُ الَّذِي يَصْلُحُ حالُ مَن يَنْزِلُ بِسَبَبِهِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: حاصِلُ الرِّزْقِ المَعْلُومِ لِأهْلِ الجَنَّةِ اللَّذَّةُ والسُّرُورُ، وحاصِلُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ الألَمُ والغَمُّ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا نِسْبَةَ لِأحَدِهِما إلى الآخَرِ في الخَيْرِيَّةِ إلّا أنَّهُ جاءَ هَذا الكَلامُ إمّا عَلى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ أوْ لِأجْلِ أنَّ المُؤْمِنِينَ لَمّا اخْتارُوا ما أوْصَلَهم إلى الرِّزْقِ الكَرِيمِ، والكافِرِينَ اخْتارُوا ما أوْصَلَهم إلى العَذابِ الألِيمِ فَقِيلَ لَهم ذَلِكَ تَوْبِيخًا لَهم عَلى سُوءِ اخْتِيارِهِمْ، وأمّا ﴿الزَّقُّومِ﴾ فَقالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَذْكُرِ المُفَسِّرُونَ لِلزَّقُّومِ تَفْسِيرًا إلّا الكَلْبِيَّ فَإنَّهُ رَوى أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ ابْنُ الزِّبَعْرى: أكْثَرَ اللَّهُ في بُيُوتِكُمُ الزَّقُّومَ، فَإنَّ أهْلَ اليَمَنِ يُسَمُّونَ التَّمْرَ والزُّبْدَ بِالزَّقُّومِ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ لِجارِيَتِهِ زَقِّمِينا فَأتَتْهُ بِزُبْدٍ وتَمْرٍ، وقالَ: تَزَقَّمُوا. ثُمَّ قالَ الواحِدِيُّ: ومَعْلُومٌ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُرِدْ بِالزَّقُّومِ هَهُنا الزُّبْدَ والتَّمْرَ، قالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمْ يَكُنْ لِلزَّقُّومِ اشْتِقاقٌ مِنَ التَّزَقُّمِ وهو الإفْراطُ مِن أكْلِ الشَّيْءِ حَتّى يُكْرَهَ ذَلِكَ، يُقالُ: باتَ فُلانٌ يَتَزَقَّمُ، وظاهِرُ لَفْظِ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى أنَّها شَجَرَةٌ كَرِيهَةُ الطَّعامِ مُنْتِنَةُ الرّائِحَةِ شَدِيدَةُ الخُشُونَةِ، مَوْصُوفَةٌ بِصِفاتٍ كُلُّ مَن تَناوَلَها عَظُمَ مِن تَناوُلِها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُكْرِهُ أهْلَ النّارِ عَلى تَناوُلِ بَعْضِ أجْزائِها. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ﴾ فَفِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّها إنَّما صارَتْ فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ، مِن حَيْثُ إنَّ الكُفّارَ لَمّا سَمِعُوا هَذِهِ الآيَةَ، قالُوا: كَيْفَ يُعْقَلُ أنْ تَنْبُتَ الشَّجَرَةُ في جَهَنَّمَ، مَعَ أنَّ النّارَ تُحْرِقُ الشَّجَرَةَ ؟ . والجَوابُ عَنْهُ أنَّ خالِقَ النّارِ قادِرٌ عَلى أنْ يَمْنَعَ النّارَ مِن إحْراقِ الشَّجَرِ، ولِأنَّهُ إذا جازَ أنْ يَكُونَ في النّارِ زَبانِيَةٌ واللَّهُ تَعالى يَمْنَعُ النّارَ عَنْ إحْراقِهِمْ فَلِمَ لا يَجُوزُ مِثْلُهُ في هَذِهِ الشَّجَرَةِ ؟ إذا عَرَفْتَ هَذا السُّؤالَ، والجَوابُ بِمَعْنى كَوْنِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ هو أنَّهم لَمّا سَمِعُوا هَذِهِ الآيَةَ وقَعَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ في قُلُوبِهِمْ، وصارَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ سَبَبًا لِتَمادِيهِمْ في الكُفْرِ، فَهَذا هو المُرادُ مِن كَوْنِها فِتْنَةً لَهم. والوَجْهُ الثّانِي: في التَّفْسِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ صَيْرُورَةَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِتْنَةً لَهم في النّارِ؛ لِأنَّهم إذا كُلِّفُوا تَناوُلَها وشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً في حَقِّهِمْ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الفِتْنَةِ الِامْتِحانَ والِاخْتِبارَ، فَإنَّ هَذا شَيْءٌ بَعِيدٌ عَنِ العُرْفِ (p-١٢٤)والعادَةِ مُخالِفٌ لِلْمَأْلُوفِ والمَعْرُوفِ، فَإذا ورَدَ عَلى سَمْعِ المُؤْمِنِ فَوَّضَ عِلْمَهُ إلى اللَّهِ وإذا ورَدَ عَلى الزِّنْدِيقِ تَوَسَّلَ بِهِ إلى الطَّعْنِ في القُرْآنِ والنُّبُوَّةِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وصَفَها بِصِفاتٍ: الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ إنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجَحِيمِ، قِيلَ: مَنبَتُها في قَعْرِ جَهَنَّمَ وأغْصانُها تَرْتَفِعُ إلى دَرَكاتِها. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿طَلْعُها كَأنَّهُ رُءُوسُ الشَّياطِينِ﴾ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الطَّلْعُ لِلنَّخْلَةِ فاسْتُعِيرَ لِما طَلَعَ مِن شَجَرَةِ الزَّقُّومِ مِن حَمْلِها، إمّا اسْتِعارَةً لَفْظِيَّةً أوْ مَعْنَوِيَّةً، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ ”طَلْعًا“ لِطُلُوعِهِ كُلَّ سَنَةٍ، ولِذَلِكَ قِيلَ: طَلْعُ النَّخْلِ لِأوَّلِ ما يَخْرُجُ مِن ثَمَرِهِ، وأمّا تَشْبِيهُ هَذا الطَّلْعِ بِرُءُوسِ الشَّياطِينِ فَفِيهِ سُؤالٌ؛ لِأنَّهُ قِيلَ: إنّا ما رَأيْنا رَءُوسَ الشَّياطِينِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِها ؟ وأجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ وهو الصَّحِيحُ: أنَّ النّاسَ لَمّا اعْتَقَدُوا في المَلائِكَةِ كَمالَ الفَضْلِ في الصُّورَةِ والسِّيرَةِ، اعْتَقَدُوا في الشَّياطِينِ نِهايَةَ القُبْحِ والتَّشْوِيهِ في الصُّورَةِ والسِّيرَةِ، فَكَما حَسُنَ التَّشْبِيهُ بِالمَلَكِ عِنْدَ إرادَةِ تَقْرِيرِ الكَمالِ والفَضِيلَةِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ هَذا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١] فَكَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَحْسُنَ التَّشْبِيهُ بِرُءُوسِ الشَّياطِينِ في القُبْحِ وتَشْوِيهِ الخِلْقَةِ، والحاصِلُ أنَّ هَذا مِن بابِ التَّشْبِيهِ لا بِالمَحْسُوسِ بَلْ بِالمُتَخَيَّلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ أقْبَحَ الأشْياءِ في الوَهْمِ والخِيارِ هو رُءُوسُ الشَّياطِينِ، فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ تُشْبِهُها في قُبْحِ النَّظَرِ وتَشْوِيهِ الصُّورَةِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا أنَّ العُقَلاءَ إذا رَأوْا شَيْئًا شَدِيدَ الِاضْطِرابِ مُنْكَرَ الصُّورَةِ قَبِيحَ الخِلْقَةِ، قالُوا: إنَّهُ شَيْطانٌ، وإذا رَأوْا شَيْئًا حَسَنَ الصُّورَةِ والسِّيرَةِ، قالُوا: إنَّهُ مَلَكٌ، وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎أتَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعِي ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأنْيابِ أغْوالِ والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الشَّياطِينَ حَيّاتٌ لَها رُءُوسٌ وأعْرافٌ، وهي مِن أقْبَحِ الحَيّاتِ، وبِها يُضْرَبُ المَثَلُ في القُبْحِ، والعَرَبُ إذا رَأتْ مَنظَرًا قَبِيحًا قالَتْ: كَأنَّهُ شَيْطانُ الحَماطَةِ، والحَماطَةُ شَجَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ رُءُوسَ الشَّياطِينِ، نَبْتٌ مَعْرُوفٌ قَبِيحُ الرَّأْسِ، والوَجْهُ الأوَّلُ هو الجَوابُ الحَقُّ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وذَكَرَ صِفَتَها بَيَّنَ أنَّ الكُفّارَ ﴿لَآكِلُونَ مِنها فَمالِئُونَ مِنها البُطُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّ إقْدامَهم عَلى ذَلِكَ الأكْلِ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهم أكَلُوا مِنها لِشِدَّةِ الجُوعِ، فَإنْ قِيلَ: وكَيْفَ يَأْكُلُونَها مَعَ نِهايَةِ خُشُونَتِها ونَتْنِها ومَرارَةِ طَعْمِها ؟ قُلْنا: إنَّ الوِقاعَ في الضَّرَرِ العَظِيمِ رُبَّما اسْتُرْوِحَ مِنهُ إلى ما يُقارِبُهُ في الضَّرَرِ، فَإذا جَوَّعَهُمُ اللَّهُ الجُوعَ الشَّدِيدَ فَزِعُوا في إزالَةِ ذَلِكَ الجُوعِ إلى تَناوُلِ هَذا الشَّيْءِ، وإنْ كانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ يُقالَ الزَّبانِيَةُ يُكْرِهُونَهم عَلى الأكْلِ مِن تِلْكَ الشَّجَرَةِ تَكْمِيلًا لِعَذابِهِمْ. واعْلَمْ أنَّهم إذا شَبِعُوا فَحِينَئِذٍ يَشْتَدُّ عَطَشُهم ويَحْتاجُونَ إلى الشَّرابِ، فَعِنْدَ هَذا وصَفَ اللَّهُ شَرابَهم، فَقالَ: ﴿ثُمَّ إنَّ لَهم عَلَيْها لَشَوْبًا مِن حَمِيمٍ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: الشَّوْبُ اسْمٌ عامٌّ في كُلِّ ما خُلِطَ بِغَيْرِهِ، والحَمِيمُ الماءُ الحارُّ المُتَناهِي في الحَرارَةِ، والمَعْنى أنَّهُ إذا غَلَبَهم ذَلِكَ العَطَشُ الشَّدِيدُ سُقُوا مِن ذَلِكَ الحَمِيمِ، فَحِينَئِذٍ يَشُوبُ الزَّقُّومُ بِالحَمِيمِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُما. واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ وصَفَ شَرابَهم في القُرْآنِ بِأشْياءَ مِنها كَوْنُهُ غَسّاقًا، ومِنها قَوْلُهُ: ﴿وسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] ومِنها ما ذَكَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنْ قِيلَ ما الفائِدَةُ في كَلِمَةِ ”ثُمَّ“ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إنَّ لَهم عَلَيْها لَشَوْبًا مِن حَمِيمٍ﴾ ؟ قُلْنا: فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهم يَمْلَئُونَ بُطُونَهم مِن شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وهو حارٌّ يَحْرُقُ (p-١٢٥)بُطُونَهم فَيَعْظُمُ عَطَشُهم، ثُمَّ إنَّهم لا يُسْقَوْنَ إلّا بَعْدَ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ والغَرَضُ تَكْمِيلُ التَّعْذِيبِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الطَّعامَ بِتِلْكَ البَشاعَةِ والكَراهَةِ، ثُمَّ وصَفَ الشَّرابَ بِما هو أبْشَعُ مِنهُ، فَكانَ المَقْصُودُ مِن كَلِمَةِ ثُمَّ بَيانَ أنَّ حالَ المَشْرُوبِ في البَشاعَةِ أعْظَمُ مِن حالِ المَأْكُولِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهم لَإلى الجَحِيمِ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: أيْ بَعْدِ أكْلِ الزَّقُّومِ وشُرْبِ الحَمِيمِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم عِنْدَ شُرْبِ الحَمِيمِ لَمْ يَكُونُوا في الجَحِيمِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ الحَمِيمُ مِن مَوْضِعٍ خارِجٍ عَنِ الجَحِيمِ، فَهم يُورَدُونَ الحَمِيمَ لِأجْلِ الشُّرْبِ كَما تُورَدُ الإبِلُ إلى الماءِ، ثُمَّ يُورَدُونَ إلى الجَحِيمِ، فَهَذا قَوْلُ مُقاتِلٍ، واحْتَجَّ عَلى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمُونَ﴾ ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَها وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْناهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ عَذابَهم في أكْلِهِمْ وشُرْبِهِمْ قالَ: ﴿إنَّهم ألْفَوْا آباءَهم ضالِّينَ﴾ ﴿فَهم عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: الإهْراعُ الإسْراعُ يُقالُ: هَرَعَ وأهْرَعَ إذا اسْتُحِثَّ، والمَعْنى أنَّهم يَتَّبِعُونَ آباءَهُمُ اتِّباعًا في سُرْعَةٍ كَأنَّهم يُزْعَجُونَ إلى اتِّباعِ آبائِهِمْ، والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى عَلَّلَ اسْتِحْقاقَهم لِلْوُقُوعِ في تِلْكَ الشَّدائِدِ كُلِّها، بِتَقْلِيدِ الآباءِ في الدِّينِ وتَرْكِ اتِّباعِ الدَّلِيلِ، ولَوْ لَمْ يُوجَدْ في القُرْآنِ آيَةٌ غَيْرُ هَذِهِ الآيَةِ في ذَمِّ التَّقْلِيدِ لَكَفى. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ لِرَسُولِهِ ما يُوجِبُ التَّسْلِيَةَ لَهُ في كُفْرِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهم أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ إرْسالَهُ لِلرُّسُلِ قَدْ تَقَدَّمَ والتَّكْذِيبَ لَهم قَدْ سَلَفَ، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ لَهُ ﷺ أُسْوَةٌ بِهِمْ حَتّى يَصْبِرَ كَما صَبَرُوا، ويَسْتَمِرَّ عَلى الدُّعاءِ إلى اللَّهِ وإنْ تَمَرَّدُوا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلّا البَلاغُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾ وهَذا وإنْ كانَ في الظّاهِرِ خِطابًا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ إلّا أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ خِطابُ الكُفّارِ؛ لِأنَّهم سَمِعُوا بِالأخْبارِ جَمِيعَ ما جَرى مِن أنْواعِ العَذابِ عَلى قَوْمِ نُوحٍ وعَلى عادٍ وثَمُودَ وغَيْرِهِمْ، فَإنْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَلا أقَلَّ مِن ظَنٍّ وخَوْفٍ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ زاجِرًا لَهم عَنْ كُفْرِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهم أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾ . والثّانِي: أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾ فَإنَّها كانَتْ أقْبَحَ العَواقِبِ وأفْظَعَها إلّا عاقِبَةَ عِبادِ اللَّهِ المُخْلَصِينَ، فَإنَّها كانَتْ مَقْرُونَةً بِالخَيْرِ والرّاحَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب