الباحث القرآني

(p-١١٥)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهم وما كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ ﴿وقِفُوهم إنَّهم مَسْئُولُونَ﴾ ﴿ما لَكم لا تَناصَرُونَ﴾ ﴿بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ . وفِي الآيَةِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّهُ لا نِزاعَ في أنَّ هَذا مِن كَلامِ المَلائِكَةِ فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى: ﴿احْشُرُوا﴾ مَعَ أنَّهم قَدْ حُشِرُوا مِن قَبْلُ، وحَضَرُوا في مَحْفِلِ القِيامَةِ وقالُوا: ﴿هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ وقالَتِ المَلائِكَةُ لَهم بَلْ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ﴾ أجابَ القاضِي عَنْهُ، فَقالَ: المُرادُ احْشُرُوهم إلى دارِ الجَزاءِ وهي النّارُ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ أيْ خُذُوهم إلى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، ودُلُّوهم عَلَيْهِ، ثُمَّ سَألَ نَفْسَهُ فَقالَ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وقَدْ قالَ بَعْدَهُ ﴿وقِفُوهم إنَّهم مَسْئُولُونَ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ حَشْرَهم إلى الجَحِيمِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ المَسْألَةِ ؟ وأجابَ أنَّهُ لَيْسَ في العَطْفِ بِحَرْفِ الواوِ تَرْتِيبٌ فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يُقالَ: احْشُرُوهم وقِفُوهم، مَعَ أنّا بِعُقُولِنا نَعْلَمُ أنَّ الوُقُوفَ كانَ قَبْلَ الحَشْرِ إلى النّارِ، هَذا ما قالَهُ القاضِي، وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يُقالَ: إنَّهم إذا قامُوا مِن قُبُورِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ أنْ يَقِفُوا هُناكَ بِحَيْرَةٍ تَلْحَقُهم بِسَبَبِ مُعايَنَةِ أهْوالِ القِيامَةِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا واهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ، أيْ: سُوقُوهم إلى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وقِفُوهم هُناكَ، وتَحْصُلُ المَسْألَةُ هُناكَ ثُمَّ مِن هُناكَ يُساقُونَ إلى النّارِ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَظاهِرُ النَّظْمِ مُوافِقٌ لِما عَلَيْهِ الوَجْهُ. البَحْثُ الثّانِي: الآمِرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هو اللَّهُ فَهو تَعالى أمَرَ المَلائِكَةَ أنْ يَحْشُرُوا الكُفّارَ إلى مَوْقِفِ السُّؤالِ، والمُرادُ مِنَ الحَشْرِ أنَّ المَلائِكَةَ يَسُوقُونَهم إلى ذَلِكَ المَوْقِفِ. البَحْثُ الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ أمَرَ المَلائِكَةَ بِحَشْرِ ثَلاثَةِ أشْياءَ: الظّالِمِينَ، وأزْواجِهِمْ، والأشْياءِ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها. وفِيهِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ثُمَّ ذَكَرَ مِن صِفاتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا كَوْنَهم عابِدِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الظّالِمَ المُطْلَقَ هو الكافِرُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ وعِيدٍ ورَدَ في حَقِّ الظّالِمِ فَهو مَصْرُوفٌ إلى الكُفّارِ ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] . الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِأزْواجِهِمْ وفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: الأوَّلُ: المُرادُ بِأزْواجِهِمْ أشْباهُهم أيْ: أحْزابُهم ونُظَراؤُهم مِنَ الكُفْرِ فاليَهُودِيُّ مَعَ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيُّ مَعَ النَّصْرانِيِّ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى جَوازِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأزْواجِ، الأشْباهُ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ [الواقعة: ٧] أيْ أشْكالًا وأشْباهًا. الثّانِي: أنَّكَ تَقُولُ: عِنْدِي مِن هَذا أزْواجٌ أيْ أمْثالٌ وتَقُولُ: زَوْجانِ مِنَ الخُفِّ لِكَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما نَظِيرَ الآخَرِ، وكَذَلِكَ الرَّجُلُ والمَرْأةُ سُمِّيا زَوْجَيْنِ لِكَوْنِهِما مُتَشابِهَيْنِ في أكْثَرِ أحْكامِ النِّكاحِ، وكَذَلِكَ العَدَدُ الزَّوْجُ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ لِكَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِن سَمِيِّهِ مِثالًا لِلْقِسْمِ الثّانِي في العَدَدِ الصَّحِيحِ، قالَ الواحِدِيُّ: فَعَلى هَذا القَوْلِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا الرُّؤَساءَ؛ لِأنَّكَ لَوْ جَعَلْتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عامًّا في كُلِّ مَن أشْرَكَ لَمْ يَكُنْ لِلْأزْواجِ مَعْنًى. القَوْلُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ الأزْواجِ أنَّ المُرادَ قُرَناؤُهم مِنَ الشَّياطِينِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإخْوانُهم يَمُدُّونَهم في الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٢] . والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ نِساؤُهُمُ اللَّواتِي عَلى دِينِهِمْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وما كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِنَ الأوْثانِ والطَّواغِيتِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿فاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] قِيلَ: المُرادُ بِالنّاسِ عُبّادُ (p-١١٦)الأوْثانِ والمُرادُ بِالحِجارَةِ الأصْنامُ الَّتِي هي أحْجارٌ مَنحُوتَةٌ، فَإنْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ الأحْجارَ جَماداتٌ فَما الفائِدَةُ في حَشْرِها إلى جَهَنَّمَ ؟ أجابَ القاضِي: ورَدَ الخَبَرُ بِأنَّها تُعادُ وتَحْيا لِتَحْصُلَ المُبالَغَةُ في تَوْبِيخِ الكُفّارِ الَّذِينَ كانُوا يَعْبُدُونَها، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَبْ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْيِي تِلْكَ الأصْنامَ إلّا أنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْها ذَنْبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَعْذِيبُها ؟ والأقْرَبُ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُحْيِي تِلْكَ الأصْنامَ بَلْ يَتْرُكُها عَلى الجَمادِيَّةِ، ثُمَّ يُلْقِيها في جَهَنَّمَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَزِيدُ في تَخْجِيلِ الكُفّارِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الشَّياطِينُ الَّذِينَ دَعَوْهم إلى عِبادَةِ ما عَبَدُوا، فَلَمّا قَبِلُوا مِنهم ذَلِكَ الدِّينَ صارُوا كالعابِدِينَ لِأُولَئِكَ الشَّياطِينِ، وتَأكَّدَ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يابَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ [يس: ٦٠] والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ الشَّياطِينَ عُقَلاءُ، وكَلِمَةُ ما لا تَلِيقُ بِالعُقَلاءِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: دُلُّوُهم، يُقالُ: هَدَيْتُ الرَّجُلَ إذا دَلَلْتَهُ وإنَّما اسْتُعْمِلَتِ الهِدايَةُ هَهُنا؛ لِأنَّهُ جُعِلَ بَدَلَ الهِدايَةِ إلى الجَنَّةِ، كَما قالَ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] فَوَقَعَتِ البِشارَةُ بِالعَذابِ لِهَؤُلاءِ بَدَلَ البِشارَةِ بِالنَّعِيمِ لِأُولَئِكَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿فاهْدُوهُمْ﴾ سُوقُوهم، وقالَ الأصَمُّ يُقالُ: قَدِّمُوهم، قالَ الواحِدِيُّ: وهَذا وهْمٌ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: هَدى إذا تَقَدَّمَ ومِنهُ الهِدايَةُ والهَوادِي والهادِياتُ الوَحْشُ، قالَ: ولا يُقالُ: هَدى بِمَعْنى قَدَّمَ، ثُمَّ قالَ: وقِفُوهم، يُقالُ: وقَفْتُ الدّابَّةَ أقِفُها وقْفًا فَوَقَفَتْ هي وُقُوفًا، والمَعْنى احْبِسُوهم، وفي الآيَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والمَعْنى قِفُوهم واهْدُوهم، والأصْوَبُ أنَّهُ لا حاجَةَ إلَيْهِ، بَلْ كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ فَإذا انْتَهَوْا إلى الصِّراطِ قِيلَ: ﴿وقِفُوهُمْ﴾ فَإنَّ السُّؤالَ يَقَعُ هُناكَ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهم مَسْئُولُونَ﴾ قِيلَ: عَنْ أعْمالِهِمْ في الدُّنْيا وأقْوالِهِمْ، وقِيلَ: المُرادُ سَألَتْهُمُ الخَزَنَةُ ﴿ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكم يَتْلُونَ عَلَيْكم آياتِ رَبِّكم ويُنْذِرُونَكم لِقاءَ يَوْمِكم هَذا قالُوا بَلى ولَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذابِ عَلى الكافِرِينَ﴾ [الزمر: ٧١] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا السُّؤالُ ما ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما لَكم لا تَناصَرُونَ﴾ أيْ: أنَّهم يَسْألُونَ تَوْبِيخًا لَهم، فَيُقالُ: ﴿ما لَكم لا تَناصَرُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لا يَنْصُرُ بَعْضُكم بَعْضًا كَما كُنْتُمْ في الدُّنْيا، وذَلِكَ أنَّ أبا جَهْلٍ قالَ يَوْمَ بَدْرٍ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَقِيلَ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ: ما لَكم غَيْرَ مُتَناصِرِينَ، وقِيلَ: يُقالُ لِلْكُفّارِ ما لِشُرَكائِكم لا يَمْنَعُونَكم مِنَ العَذابِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ يُقالُ اسْتَسْلَمَ لِلشَّيْءِ إذا انْقادَ لَهُ وخَضَعَ، ومَعْناهُ في الأصْلِ طَلَبُ السَّلامَةِ بِتَرْكِ المُنازَعَةِ، والمَقْصُودُ أنَّهم صارُوا مُنْقادِينَ لا حِيلَةَ لَهم في دَفْعِ تِلْكَ المَضارِّ لا العابِدُ ولا المَعْبُودُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ قِيلَ: هم والشَّياطِينُ، وقِيلَ: الرُّؤَساءُ والأتْباعُ. ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ أيْ يَسْألُ بَعْضُهم بَعْضًا، وهَذا التَّساؤُلُ عِبارَةٌ عَنِ التَّخاصُمِ وهو سُؤالُ التَّبْكِيتِ، يَقُولُونَ: غَرَرْتُمُونا، ويَقُولُ أُولَئِكَ: لِمَ قَبِلْتُمْ مِنّا، وبِالجُمْلَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَساؤُلَ المُسْتَفْهِمِينَ، بَلْ هو تَساؤُلُ التَّوْبِيخِ واللَّوْمِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب