الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإذا هم يَنْظُرُونَ﴾ ﴿وقالُوا ياوَيْلَنا هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ ما يَدُلُّ عَلى إمْكانِ البَعْثِ والقِيامَةِ، ثُمَّ أرْدَفَهُ بِما يَدُلُّ عَلى وُقُوعِ القِيامَةِ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآياتِ بَعْضَ تَفاصِيلِ أحْوالِ القِيامَةِ، وأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنْواعًا مِن تِلْكَ الأحْوالِ: فالحالَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإذا هم يَنْظُرُونَ﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿فَإنَّما﴾ جَوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، والتَّقْدِيرُ إذا كانَ كَذَلِكَ فَما هي إلّا زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. البَحْثُ الثّانِي: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّما هِيَ﴾ ضَمِيرٌ عَلى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، والتَّقْدِيرُ فَإنَّما البَعْثُ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. البَحْثُ الثّالِثُ: الزَّجْرَةُ في اللُّغَةِ الصَّيْحَةُ الَّتِي يُزْجَرُ بِها كالزَّجْرَةِ بِالنَّعَمِ والإبِلِ عِنْدَ البَحْثِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمالُها حَتّى صارَتْ بِمَعْنى الصَّيْحَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيها مَعْنى الزَّجْرِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وأقُولُ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ إنَّما سُمِّيَتْ زَجْرَةً؛ لِأنَّها تَزْجُرُ المَوْتى عَنِ الرُّقُودِ في القُبُورِ وتَحُثُّهم عَلى القِيامِ مِنَ القُبُورِ، والحُضُورِ في مَوْقِفِ القِيامَةِ، فَإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المُرادُ مِن هَذِهِ الزَّجْرَةِ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإذا هم قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] فَبِالنَّفْخَةِ الأُولى يَمُوتُونَ، وبِالنَّفْخَةِ الثّانِيَةِ يَحْيَوْنَ ويَقُومُونَ، وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ما الفائِدَةُ في هَذِهِ الصَّيْحَةِ فَإنَّ القَوْمَ في تِلْكَ السّاعَةِ أمْواتٌ؛ لِأنَّ النَّفْخَةَ جارِيَةٌ مَجْرى السَّبَبِ لِحَياتِهِمْ فَتَكُونُ مُقَدِّمَةً عَلى حُصُولِ حَياتِهِمْ فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الصَّيْحَةَ إنَّما حَصَلَتْ حالَ كَوْنِ الخَلْقِ أمْواتًا، فَتَكُونُ تِلْكَ الصَّيْحَةُ عَدِيمَةَ الفائِدَةِ فَهي عَبَثٌ والعَبَثُ لا يَجُوزُ في فِعْلِ اللَّهِ. والجَوابُ: أمّا أصْحابُنا فَيَقُولُونَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ، وأمّا المُعْتَزِلَةُ: فَقالَ القاضِي: فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ تَعْتَبِرَ بِها المَلائِكَةُ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ الفائِدَةُ التَّخْوِيفَ والإرْهابَ. السُّؤالُ الثّانِي: هَلْ لِتِلْكَ الصَّيْحَةِ تَأْثِيرٌ في إعادَةِ الحَياةِ ؟ . الجَوابُ: لا، بِدَلِيلِ أنَّ الصَّيْحَةَ الأُولى اسْتَعْقَبَتِ المَوْتَ، والثّانِيَةَ الحَياةَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّيْحَةَ لا أثَرَ لَها في المَوْتِ ولا في الحَياةِ، بَلْ خالِقُ المَوْتِ والحَياةِ هو اللَّهُ تَعالى كَما قالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [الملك: ٢] . السُّؤالُ الثّالِثُ: تِلْكَ الصَّيْحَةُ صَوْتُ المَلائِكَةِ أوِ اللَّهُ تَعالى يَخْلُقُها ابْتِداءً ؟ . الجَوابُ: الكُلُّ جائِزٌ إلّا أنَّهُ رُوِيَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَأْمُرُ إسْرافِيلَ حَتّى يُنادِيَ: أيَّتُها العِظامُ النَّخِرَةُ والجُلُودُ البالِيَةُ والأجْزاءُ المُتَفَرِّقَةُ اجْتَمِعُوا (p-١١٤)بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى. اللَّفْظُ الرّابِعُ: مِنَ الألْفاظِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا هم يَنْظُرُونَ﴾ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ يَنْظُرُونَ ما يَحْدُثُ بِهِمْ ويُحْتَمَلُ يَنْظُرُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ وأنْ يَكُونَ المُرادُ: يَنْظُرُونَ إلى البَعْثِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ. الحالَةُ الثّانِيَةُ: مِن وقائِعِ القِيامَةِ ما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم أنَّهم بَعْدَ القِيامِ مِنَ القُبُورِ قالُوا: ﴿وقالُوا ياوَيْلَنا هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: الوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُها القائِلُ وقْتَ الهَلَكَةِ والمَقْصُودُ أنَّهم لَمّا شاهَدُوا القِيامَةَ قالُوا: ﴿هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أيْ يَوْمُ الجَزاءِ هَذا، والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ، أنّا نَرى في الدُّنْيا مُحْسِنًا ومُسِيئًا وعاصِيًا وصِدِّيقًا وزِنْدِيقًا، ورَأيْنا أنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ في الدُّنْيا ما يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الجَزاءِ فَوَجَبَ القَوْلُ بِإثْباتِ القِيامَةِ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ [النجم: ٣١] وبِالجُمْلَةِ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الجَزاءَ إنَّما يَحْصُلُ بَعْدَ المَوْتِ، والكُفّارُ وإنْ سَمِعُوا هَذا الدَّلِيلَ القَوِيَّ لَكِنَّهم أنْكَرُوا وتَمَرَّدُوا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى إذا أحْياهم يَوْمَ القِيامَةِ فَإذا شاهَدُوا القِيامَةَ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ اليَوْمَ ويَقُولُونَ: ﴿هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أيْ يَوْمُ الجَزاءِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ الدَّلائِلَ الكَثِيرَةَ عَلَيْهِ في القُرْآنِ فَكَفَرْنا بِها، ونَظِيرُهُ أنَّ مَن خُوِّفَ بِشَيْءٍ ولَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، ثُمَّ عايَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ يَقُولُ هَذا يَوْمُ الواقِعَةِ الفُلانِيَّةِ فَكَذا هَهُنا، وفِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ وهو أنَّهُ تَعالى قالَ في سُورَةِ الفاتِحَةِ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] فَبَيَّنَ أنَّهُ لا مالِكَ في ذَلِكَ اليَوْمِ إلّا اللَّهُ، فَقَوْلُهم هَذا يَوْمُ الدِّينِ، إشارَةٌ إلى أنَّ هَذا هو اليَوْمُ الَّذِي لا حُكْمَ فِيهِ لِأحَدٍ إلّا لِلَّهِ، وإنَّما ذَكَرُوهُ لِما حَصَلَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الخَوْفِ الشَّدِيدِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: الأوَّلُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا هَلْ هو مِن بَقِيَّةِ كَلامِ الكُفّارِ، أوْ يُقالُ: تَمَّ كَلامُهم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ . وأمّا قَوْلُهُ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ﴾ فَهو كَلامُ غَيْرِهِمْ، فَبَعْضُهم قالَ بِالأوَّلِ وزَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ﴾ الآيَةَ. مِن كَلامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، والأكْثَرُونَ عَلى القَوْلِ الثّانِي، واحْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ مِن كَلامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ خِطابٌ مَعَ جَمِيعِ الكُفّارِ، فَقائِلُ هَذا القَوْلِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ غَيْرَ الكُفّارِ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢] مَسُوقٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ فَلَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ كَلامَ غَيْرِ الكُفّارِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ يَجِبُ أنْ يَكُونَ كَلامَ غَيْرِ الكُفّارِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: ﴿هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ مِن كَلامِ الكُفّارِ، وقَوْلُهُ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ﴾ مِن كَلامِ المَلائِكَةِ جَوابًا لَهم، والوَجْهُ في كَوْنِهِ جَوابًا لَهم أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ إنَّما اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِمْ كَوْنَهم مُحِقِّينَ في إنْكارِ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وكَوْنَهم مُحِقِّينَ في تِلْكَ الأدْيانِ الفاسِدَةِ فَقالُوا: ﴿هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أيْ هَذا اليَوْمُ الَّذِي يَصِلُ فِيهِ إلَيْنا جَزاءُ طاعَتِنا وخَيْراتِنا، فالمَلائِكَةُ يَقُولُونَ لَهم: إنَّهُ لا اعْتِبارَ بِظَواهِرِ الأُمُورِ في هَذا اليَوْمِ، فَإنَّ هَذا اليَوْمَ يُفْصَلُ فِيهِ الجَزاءُ الحَقِيقِيُّ عَنِ الجَزاءِ الظّاهِرِيِّ، وتُمَيَّزُ فِيهِ الطّاعاتُ الحَقِيقِيَّةُ عَنِ الطّاعاتِ المَقْرُونَةِ بِالرِّياءِ والسُّمْعَةِ فَبِهَذا الطَّرِيقِ صارَ هَذا الكَلامُ مِنَ المَلائِكَةِ جَوابًا لِما ذَكَرَهُ الكُفّارُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب