الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إنَّهم لَهُمُ المَنصُورُونَ﴾ ﴿وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾ ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ﴾ ﴿وأبْصِرْهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ ﴿أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ ﴿فَإذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ﴾ ﴿وتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ﴾ ﴿وأبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ ﴿وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ﴾ ﴿والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ .
(p-١٥٠)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا هَدَّدَ الكُفّارَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: عاقِبَةَ كُفْرِهِمْ، أرْدَفَهُ بِما يُقَوِّي قَلْبَ الرَّسُولِ ﷺ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إنَّهم لَهُمُ المَنصُورُونَ﴾ ﴿وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ وعْدَهُ بِنُصْرَتِهِ قَدْ تَقَدَّمَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾، وأيْضًا أنَّ الخَيْرَ مَقْضِيٌّ بِالذّاتِ والشَّرَّ مَقْضِيٌّ بِالعَرَضِ، وما بِالذّاتِ أقْوى مِمّا بِالعَرَضِ، وأمّا النُّصْرَةُ والغَلَبَةُ فَقَدْ تَكُونُ بِقُوَّةِ الحُجَّةِ، وقَدْ تَكُونُ بِالدُّولَةِ والِاسْتِيلاءِ، وقَدْ تَكُونُ بِالدَّوامِ والثَّباتِ، فالمُؤْمِنُ وإنْ صارَ مَغْلُوبًا في بَعْضِ الأوْقاتِ بِسَبَبِ ضَعْفِ أحْوالِ الدُّنْيا فَهو الغالِبُ، ولا يَلْزَمُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ أنْ يُقالَ: فَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ الأنْبِياءِ وقَدْ هُزِمَ كَثِيرٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قالَ تَعالى لِرَسُولِهِ وقَدْ أخْبَرَهُ بِما تَقَدَّمَ ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ﴾ والمُرادُ تَرْكُ مُقاتَلَتِهِمْ والثِّقَةُ بِما وعَدْناهم إلى حِينِ يَتَمَتَّعُونَ، ثُمَّ تَحُلُّ بِهِمُ الحَسْرَةُ والنَّدامَةُ، واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فَقِيلَ: المُرادُ إلى يَوْمِ بَدْرٍ، وقِيلَ إلى فَتْحِ مَكَّةَ، وقِيلَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأبْصِرْهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ والمَعْنى فَأبْصِرْهم وما يُقْضى عَلَيْهِمْ مِنَ القَتْلِ والأسْرِ في الدُّنْيا والعَذابِ في الآخِرَةِ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَكَ مَعَ ما قُدِّرَ لَكَ مِنَ النُّصْرَةِ والتَّأْيِيدِ في الدُّنْيا والثَّوابِ العَظِيمِ في الآخِرَةِ، والمُرادُ مِنَ الأمْرِ المُشاهَدِ بِأبْصارِهِمْ عَلى الحالِ المُنْتَظَرَةِ المَوْعُودَةِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّها كائِنَةٌ واقِعَةٌ لا مَحالَةَ، وأنَّ كَيْنُونَتَها قَرِيبَةٌ كَأنَّها قُدّامُ ناظِرَيْكَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ لِلتَّهْدِيدِ والوَعِيدِ، ثُمَّ قالَ: ﴿أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ والمَعْنى أنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُهَدِّدُهم بِالعَذابِ، وما رَأوْا شَيْئًا فَكانُوا يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ ذَلِكَ العَذابِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجالَ جَهْلٌ، لِأنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِن أفْعالِ اللَّهِ تَعالى وقْتًا مُعَيَّنًا لا يَتَقَدَّمُ ولا يَتَأخَّرُ، فَكانَ طَلَبُ حُدُوثِهِ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الوَقْتِ جَهْلًا، ثُمَّ قالَ تَعالى: في صِفَةِ العَذابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ ﴿فَإذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ﴾ أيْ هَذا العَذابُ ﴿فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ﴾ وإنَّما وقَعَ هَذا التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ المَعانِي كَأنَّهم كانُوا يُقْدِمُونَ عَلى العادَةِ في وقْتِ الصَّباحِ، فَجُعِلَ ذِكْرُ ذَلِكَ الوَقْتِ كِنايَةً عَنْ ذَلِكَ العَمَلِ، ثُمَّ أعادَ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ﴾ ﴿وأبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ فَقِيلَ المُرادُ مِن هَذِهِ الكَلِمَةِ فِيما تَقَدَّمَ أحْوالُ الدُّنْيا، وفي هَذِهِ الكَلِمَةِ أحْوالُ القِيامَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالتَّكْرِيرُ زائِلٌ، وقِيلَ أنَّ المُرادَ مِنَ التَّكْرِيرِ المُبالَغَةُ في التَّهْدِيدِ والتَّهْوِيلِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ السُّورَةَ بِخاتِمَةٍ شَرِيفَةٍ جامِعَةٍ لِكُلِّ المَطالِبِ العالِيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ أهَمَّ المُهِمّاتِ لِلْعاقِلِ مَعْرِفَةُ أحْوالٍ ثَلاثَةٍ.
فَأوَّلُها: مَعْرِفَةُ إلَهِ العالَمِ بِقَدْرِ الطّاقَةِ البَشَرِيَّةِ، وأقْصى ما يُمْكِنُ عِرْفانُهُ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى ثَلاثَةُ أنْواعٍ:
أحَدُهُما: تَنْزِيهُهُ وتَقْدِيسُهُ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِصِفاتِ الإلَهِيَّةِ، وهو لَفْظَةُ سُبْحانَ.
وثانِيها: وصْفُهُ بِكُلِّ ما يَلِيقُ بِصِفاتِ الإلَهِيَّةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ العِزَّةِ﴾ فَإنَّ الرُّبُوبِيَّةَ إشارَةٌ إلى التَّرْبِيَةِ، وهي دالَّةٌ عَلى كَمالِ الحِكْمَةِ، والرَّحْمَةُ والعِزَّةُ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ.
وثالِثُها: كَوْنُهُ مُنَزَّهًا في الإلَهِيَّةِ عَنِ الشَّرِيكِ والنَّظِيرِ، وقَوْلُهُ ﴿رَبِّ العِزَّةِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ القادِرُ عَلى جَمِيعِ الحَوادِثِ، لِأنَّ الألِفَ واللّامَ في قَوْلِهِ ﴿العِزَّةِ﴾ تُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ، وإذا كانَ الكُلُّ مُلْكًا لَهُ ومِلْكًا لَهُ لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ كَلِمَةٌ مُحْتَوِيَةٌ عَلى أقْصى الدَّرَجاتِ وأكْمَلِ النِّهاياتِ في مَعْرِفَةِ إلَهِ العالَمِ.
والمُهِمُّ الثّانِي مِن مُهِمّاتِ العاقِلِ: أنْ يَعْرِفَ أنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي أنْ يُعامِلَ نَفْسَهُ ويُعامِلَ الخَلْقَ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
واعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ الخَلْقِ ناقِصُونِ ولا بُدَّ لَهم مِن مُكَمِّلٍ يُكَمِّلُهم، ومُرْشِدٍ يُرْشِدُهم، وهادٍ يَهْدِيهِمْ، وما ذَلِكَ إلّا الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبَدِيهَةُ الفِطْرَةِ شاهِدَةٌ بِأنَّهُ يَجِبُ عَلى النّاقِصِ الِاقْتِداءُ بِالكامِلِ، فَنَبَّهَ عَلى هَذا الحَرْفِ بِقَوْلِهِ: ﴿وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ﴾ لِأنَّ هَذا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم في الكَمالِ اللّائِقِ بِالبَشَرِ فاقُوا (p-١٥١)غَيْرَهم، ولا جَرَمَ يَجِبُ عَلى كُلِّ مَن سِواهُمُ الِاقْتِداءُ بِهِمْ.
والمُهِمُّ الثّالِثُ مِن مُهِمّاتِ العاقِلِ: أنْ يَعْرِفَ أنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حالُهُ بَعْدَ المَوْتِ.
واعْلَمْ أنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الحالَةِ قَبْلَ المَوْتِ صَعْبَةٌ، فالِاعْتِمادُ فِيها عَلى حَرْفٍ واحِدٍ، وهو أنَّهُ إلَهُ العالَمِ غَنِيٌّ رَحِيمٌ، والغَنِيُّ الرَّحِيمُ لا يُعَذِّبُ، فَنَبَّهَ عَلى هَذا الحَرْفِ بِقَوْلِهِ: ﴿والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ اسْتِحْقاقَ الحَمْدِ لا يَحْصُلُ إلّا بِالإنْعامِ العَظِيمِ، فَبَيَّنَ بِهَذا كَوْنَهُ مُنْعِمًا، وظاهِرُ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ العالَمِينَ، ومِن هَذا وصْفُهُ كانَ الغالِبُ مِنهُ هو الرَّحْمَةُ والفَضْلُ والكَرَمُ، فَكانَ هَذا الحَرْفُ مُنَبِّهًا عَلى سَلامَةِ الحالِ بَعْدَ المَوْتِ، فَظَهَرَ بِما ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ الخاتِمَةَ كالصَّدَفَةِ المُحْتَوِيَةِ عَلى دُرَرٍ أشْرَفَ مِن دَرارِي الكَواكِبِ، ونَسْألُ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى حُسْنَ الخاتِمَةِ والعافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
{"ayahs_start":173,"ayahs":["وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ","فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِینࣲ","وَأَبۡصِرۡهُمۡ فَسَوۡفَ یُبۡصِرُونَ","أَفَبِعَذَابِنَا یَسۡتَعۡجِلُونَ","فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمۡ فَسَاۤءَ صَبَاحُ ٱلۡمُنذَرِینَ","وَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِینࣲ","وَأَبۡصِرۡ فَسَوۡفَ یُبۡصِرُونَ","سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ","وَسَلَـٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِینَ","وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق