الباحث القرآني
قِصَّةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ﴾ ﴿فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُلِيمٌ﴾ ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ ﴿لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿فَنَبَذْناهُ بِالعَراءِ وهو سَقِيمٌ﴾ ﴿وأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ﴾ ﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾
واعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ السّادِسَةُ وهو آخِرُ القِصَصِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ، وإنَّما صارَتْ هَذِهِ القِصَّةُ خاتِمَةً لِلْقِصَصِ، لِأجْلِ أنَّهُ لَمّا لَمْ يَصْبِرْ عَلى أذى قَوْمِهِ وأبَقَ إلى الفُلْكِ وقَعَ في تِلْكَ الشَّدائِدِ فَيَصِيرُ هَذا سَبَبًا لِتَصَبُّرِ النَّبِيِّ ﷺ عَلى أذى قَوْمِهِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ قُرِئَ ”يُونُسَ“ بِضَمِّ النُّونِ وكَسْرِها.
(p-١٤٣)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ هَذِهِ الواقِعَةَ إنَّما وقَعَتْ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ أنْ صارَ رَسُولًا، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ كانَ مِنَ المُرْسَلِينَ حِينَما أبَقَ إلى الفُلْكِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ جاءَ في كَثِيرٍ مِنَ الرِّواياتِ أنَّهُ أرْسَلَهُ مَلِكُ زَمانِهِ إلى أُولَئِكَ القَوْمِ لِيَدْعُوَهم إلى اللَّهِ، ثُمَّ أبَقَ والتَقَمَهُ الحُوتُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أرْسَلَهُ اللَّهُ تَعالى، والحاصِلُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ مُرْسَلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَكَرَ هَذا الوَصْفَ في مَعْرِضِ تَعْظِيمِهِ، ولَنْ يُفِيدَ هَذِهِ الفائِدَةَ إلّا إذا كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ أنَّهُ مِنَ المُرْسَلِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أبَقَ مِن إباقِ العَبْدِ وهو هَرَبُهُ مِن سَيِّدِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فَقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ أبَقَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهَذا بَعِيدٌ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُقالُ إلّا فِيمَن يَتَعَمَّدُ مُخالَفَةَ رَبِّهِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ عَلى الأنْبِياءِ، واخْتَلَفُوا فِيما لِأجْلِهِ صارَ مُخْطِئًا، فَقِيلَ: لِأنَّهُ أُمِرَ بِالخُرُوجِ إلى بَنِي إسْرائِيلَ فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ وخَرَجَ مُغاضِبًا لِرَبِّهِ، وهَذا بَعِيدٌ سَواءٌ أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ بِوَحْيٍ أوْ بِلِسانِ نَبِيٍّ آخَرَ، وقِيلَ: إنَّ ذَنْبَهُ أنَّهُ تَرَكَ دُعاءَ قَوْمِهِ، ولَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِمْ. وهَذا أيْضًا بَعِيدٌ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أمَرَهُ بِهَذا العَمَلِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَتْرُكَهُ، والأقْرَبُ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ ذَنْبَهُ كانَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وعَدَهُ إنْزالَ الإهْلاكِ بِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَظَنَّ أنَّهُ نازِلٌ لا مَحالَةَ، فَلِأجْلِ هَذا الظَّنِّ لَمْ يَصْبِرْ عَلى دُعائِهِمْ، فَكانَ الواجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَمِرَّ عَلى الدُّعاءِ لِجَوازِ أنْ لا يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ بِالعَذابِ وإنْ أنْزَلَهُ، وهَذا هو الأقْرَبُ لِأنَّهُ إقْدامٌ عَلى أمْرٍ ظَهَرَتْ أماراتُهُ فَلا يَكُونُ تَعَمُّدًا لِلْمَعْصِيَةِ، وإنْ كانَ الأوْلى في مِثْلِ هَذا البابِ أنْ لا يُعْمَلَ فِيهِ بِالظَّنِّ، ثُمَّ انْكَشَفَ لِيُونُسَ مِن بَعْدُ أنَّهُ أخْطَأ في ذَلِكَ الظَّنِّ، لِأجْلِ أنَّهُ ظَهَرَ الإيمانُ مِنهم، فَمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ﴾ ما ذَكَرْناهُ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ يُونُسَ كانَ وعَدَ قَوْمَهُ بِالعَذابِ، فَلَمّا تَأخَّرَ عَنْهُمُ العَذابُ خَرَجَ كالمَسْتُورِ عَنْهم فَقَصَدَ البَحْرَ ورَكِبَ السَّفِينَةَ، فَذَلِكَ هو قَوْلُهُ: ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ﴾ وتَمامُ الكَلامِ في مُشْكِلاتِ هَذِهِ الآيَةِ ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وذا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنْبِياءِ: ٨٧) وقَوْلُهُ: ﴿إلى الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ مُفَسَّرٌ في سُورَةِ يُونُسَ، والسَّفِينَةُ إذا كانَ فِيها الحِمْلُ الكَثِيرُ والنّاسُ يُقالُ إنَّها مَشْحُونَةٌ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَساهَمَ﴾ المُساهَمَةُ هي المُقارَعَةُ، يُقالُ: أسْهَمَ القَوْمُ إذا اقْتَرَعُوا، قالَ المُبَرَّدُ: وإنَّما أُخِذَ مِنَ السِّهامِ الَّتِي تُجالُ لِلْقُرْعَةِ ﴿فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ﴾ أيِ: المَغْلُوبِينَ يُقالُ: أدْحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُ فَدُحِضَتْ أيْ: أزالَها فَزالَتْ، وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ الدَّحْضِ الَّذِي هو الزَّلَقُ، يُقالُ: دَحَضَتْ رِجْلُ البَعِيرِ إذا زَلَقَتْ، وذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ في قِصَّةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ يَسْكُنُ مَعَ قَوْمِهِ فِلَسْطِينَ فَغَزاهم مَلِكٌ وسَبى مِنهم تِسْعَةَ أسْباطٍ ونِصْفًا، وبَقِيَ سِبْطانِ ونِصْفٌ، وكانَ اللَّهُ تَعالى أوْحى إلى بَنِي إسْرائِيلَ إذا أسَرَكم عَدُوُّكم أوْ أصابَتْكم مُصِيبَةٌ فادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكم، فَلَمّا نَسُوا ذَلِكَ وأُسِرُوا أوْحى اللَّهُ تَعالى بَعْدَ حِينٍ إلى نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِمْ أنِ اذْهَبْ إلى مَلِكِ هَؤُلاءِ الأقْوامِ وقُلْ لَهُ حَتّى يَبْعَثَ إلى بَنِي إسْرائِيلَ نَبِيًّا، فاخْتارَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِقُوَّتِهِ وأمانَتِهِ، قالَ يُونُسُ: آللَّهُ أمَرَكَ بِهَذا ؟ قالَ: لا ولَكِنْ أُمِرْتُ أنْ أبْعَثَ قَوِيًّا أمِينًا وأنْتَ كَذَلِكَ، فَقالَ يُونُسُ: وفي بَنِي إسْرائِيلَ مَن هو أقْوى مِنِّي فَلِمَ لا تَبْعَثُهُ، فَألَحَّ المَلِكُ عَلَيْهِ فَغَضِبَ يُونُسُ مِنهُ، وخَرَجَ حَتّى أتى بَحْرَ الرُّومِ ووَجَدَ سَفِينَةً مَشْحُونَةً فَحَمَلُوهُ فِيها، فَلَمّا دَخَلَتْ لُجَّةَ البَحْرِ أشْرَفَتْ عَلى الغَرَقِ، فَقالَ المَلّاحُونَ: إنَّ فِيكم عاصِيًا وإلّا لَمْ يَحْصُلْ في السَّفِينَةِ ما نَراهُ مِن غَيْرِ رِيحٍ ولا سَبَبٍ ظاهِرٍ، وقالَ التُّجّارُ: قَدْ جَرَّبْنا مِثْلَ هَذا فَإذا رَأيْناهُ نَقْتَرِعُ، فَمَن خَرَجَ سَهْمُهُ نُغْرِقُهُ، فَلَأنْ يَغْرَقَ واحِدٌ خَيْرٌ مِن غَرَقِ الكُلِّ، فَخَرَجَ سَهْمُ يُونُسَ، فَقالَ التُّجّارُ: نَحْنُ (p-١٤٤)أوْلى بِالمَعْصِيَةِ مِن نَبِيِّ اللَّهِ، ثُمَّ عادُوا ثانِيًا وثالِثًا يَقْتَرِعُونَ فَيَخْرُجُ سَهْمُ يُونُسَ، فَقالَ: يا هَؤُلاءِ أنا العاصِي وتَلَفَّفَ في كِساءٍ ورَمى بِنَفْسِهِ فابْتَلَعَتْهُ السَّمَكَةُ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلى الحُوتِ: ”لا تَكْسِرْ مِنهُ عَظْمًا ولا تَقْطَعْ لَهُ وصْلًا“ ثُمَّ إنَّ السَّمَكَةَ أخْرَجَتْهُ إلى نِيلِ مِصْرَ ثُمَّ إلى بَحْرِ فارِسَ ثُمَّ إلى بَحْرِ البَطائِحِ ثُمَّ دِجْلَةَ فَصَعِدَتْ بِهِ ورَمَتْهُ بِأرْضِ نَصِيبِينَ بِالعَراءِ، وهو كالفَرْخِ المَنتُوفِ لا شَعَرَ ولا لَحْمَ، فَأنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ، فَكانَ يَسْتَظِلُّ بِها ويَأْكُلُ مِن ثَمَرِها حَتّى تَشَدَّدَ، ثُمَّ إنَّ الأرْضَ أكَلَتْها فَخَرَّتْ مِن أصْلِها، فَحَزِنَ يُونُسُ لِذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا، فَقالَ: يا رَبِّ كُنْتُ أسْتَظِلُّ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ مِنَ الشَّمْسِ والرِّيحِ وأمُصُّ مِن ثَمَرِها وقَدْ سَقَطَتْ، فَقِيلَ لَهُ يا يُونُسُ تَحْزَنُ عَلى شَجَرَةٍ أُنْبِتَتْ في ساعَةٍ واقْتُلِعَتْ في ساعَةٍ ولا تَحْزَنُ عَلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ تَرَكْتَهم ! انْطَلِقْ إلَيْهِمْ. واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الواقِعَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُلِيمٌ﴾ يُقالُ: التَقَمَهُ والتَهَمَهُ والكُلُّ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ مُلِيمٌ﴾ يُقالُ: ألامَ إذا أتى بِما يُلامُ عَلَيْهِ، فالمُلِيمُ المُسْتَحِقُّ لِلَّوْمِ الآتِي بِما يُلامُ عَلَيْهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ ﴿لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ وفي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ مِنَ المُسَبِّحِينَ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في آيَةٍ أُخْرى أنَّهُ كانَ يَقُولُ في تِلْكَ الظُّلُماتِ ﴿لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ .
الثّانِي: أنَّهُ لَوْلا أنَّهُ كانَ قَبْلَ أنِ التَقَمَهُ الحُوتُ مِنَ المُسَبِّحِينَ يَعْنِي المُصَلِّينَ، وكانَ في أكْثَرِ الأوْقاتِ مُواظِبًا عَلى ذِكْرِ اللَّهِ وطاعَتِهِ لَلَبِثَ في بَطْنِ ذَلِكَ الحُوتِ، وكانَ بَطْنُهُ قَبْرًا لَهُ إلى يَوْمِ البَعْثِ، قالَ بَعْضُهُمُ: اذْكُرُوا اللَّهَ في الرَّخاءِ يَذْكُرُكم في الشِّدَّةِ، فَإنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عَبْدًا صالِحًا ذاكِرًا لِلَّهِ تَعالى، فَلَمّا وقَعَ في بَطْنِ الحُوتِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ ﴿لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ وإنَّ فِرْعَوْنَ كانَ عَبْدًا طاغِيًا ناسِيًا، فَلَمّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ ﴿آمَنتُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ﴾ [يُونُسَ: ٩٠] قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ [يُونُسَ: ٩١]، واخْتَلَفُوا في أنَّهُ كَمْ لَبِثَ في بَطْنِ الحُوتِ، ولَفْظُ القُرْآنِ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قالَ الحَسَنُ: لَمْ يَلْبَثْ إلّا قَلِيلًا، وأُخْرِجَ مِن بَطْنِهِ بَعْدَ الوَقْتِ الَّذِي التَقَمَهُ، وعَنْ مُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وعَنْ عَطاءٍ سَبْعَةَ أيّامٍ، وعَنِ الضَّحّاكِ عِشْرِينَ يَوْمًا، وقِيلَ شَهْرًا، ولا أدْرِي بِأيِّ دَلِيلٍ عَيَّنُوا هَذِهِ المَقادِيرَ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«سَبَّحَ يُونُسُ في بَطْنِ الحُوتِ فَسَمِعَتِ المَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ فَقالُوا: رَبَّنا إنّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأرْضٍ غَرِيبَةٍ، فَقالَ: ذاكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصانِي فَحَبَسْتُهُ في بَطْنِ الحُوتِ في البَحْرِ، فَقالُوا: العَبْدُ الصّالِحُ الَّذِي كانَ يَصْعَدُ إلَيْكَ مِنهُ في كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ عَمَلٌ صالِحٌ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَشَفَعُوا لَهُ، فَأمَرَ الحُوتَ فَقَذَفَهُ في السّاحِلِ» “ فَذاكَ هو قَوْلُهُ: ﴿فَنَبَذْناهُ بِالعَراءِ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ:
الأوَّلُ: العَراءُ المَكانُ الخالِي، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّما قِيلَ لَهُ العَراءُ لِأنَّهُ لا شَجَرَ فِيهِ ولا شَيْءَ يُغَطِّيهِ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَنَبَذْناهُ بِالعَراءِ﴾ فَأضافَ ذَلِكَ النَّبْذَ إلى نَفْسِهِ، والنَّبْذُ إنَّما حَصَلَ بِفِعْلِ الحُوتِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعالى.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ سَقِيمٌ﴾ قِيلَ: المُرادُ أنَّهُ بَلِيَ لَحْمُهُ وصارَ ضَعِيفًا كالطِّفْلِ المَوْلُودِ كالفَرْخِ المُمَعَّطِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، وقالَ مُجاهِدٌ: سَقِيمٌ: أيْ سَلِيبٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ﴾ ظاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُوتَ لَمّا نَبَذَهُ في العَراءِ فاللَّهُ تَعالى أنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ وذَلِكَ المُعْجِزُ لَهُ، قالَ: المُبَرَّدُ والزَّجّاجُ: كُلُّ شَجَرٍ لا يَقُومُ عَلى ساقٍ وإنَّما (p-١٤٥)يَمْتَدُّ عَلى وجْهِ الأرْضِ فَهو يَقْطِينٌ، نَحْوُ الدُّبّاءِ والحَنْظَلِ والبِطِّيخِ، قالَ الزَّجّاجُ: أحْسَبُ اشْتِقاقَها مِن قَطَنَ بِالمَكانِ إذا أقامَ بِهِ، وهَذا الشَّجَرُ ورَقُهُ كُلُّهُ عَلى وجْهِ الأرْضِ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ اليَقْطِينُ، ورَوى الفَرّاءُ أنَّهُ قِيلَ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ هو ورَقُ القَرْعِ، فَقالَ: ومَن جَعَلَ القَرْعَ مِن بَيْنِ الشَّجَرِ يَقْطِينًا، كُلُّ ورَقَةٍ اتَّسَعَتْ وسَتَرَتْ فَهي يَقْطِينٌ، قالَ الواحِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والآيَةُ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُما المُفَسِّرُونَ:
أحَدُهُما: أنَّ هَذا اليَقْطِينَ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ فَأنْبَتَهُ اللَّهُ لِأجْلِهِ.
والآخَرُ: أنَّ اليَقْطِينَ كانَ مَعْرُوشًا لِيَحْصُلَ لَهُ ظِلٌّ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُنْبَسِطًا عَلى الأرْضِ لَمْ يُمْكِنْ أنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ:
الأوَّلُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ وأرْسَلْناهُ قَبْلَ أنْ يَلْتَقِمَهُ الحُوتُ، وعَلى هَذا الإرْسالِ وإنْ ذُكِرَ بَعْدَ الِالتِقامِ، فالمُرادُ بِهِ التَّقْدِيمُ والواوُ مَعْناها الجَمْعُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ الإرْسالَ بَعْدَ الِالتِقامِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: كانَتْ رِسالَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ ما نَبَذَهُ الحُوتُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُرْسِلَ إلى قَوْمٍ آخَرِينَ سِوى القَوْمِ الأُوَلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُرْسِلَ إلى الأوَّلِينَ ثانِيًا بِشَرِيعَةٍ فَآمَنُوا بِها.
البَحْثُ الثّانِي: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ يَزِيدُونَ﴾ يُوجِبُ الشَّكَّ، وذَلِكَ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عُذْرًا أوْ نُذْرًا﴾ [المُرْسَلاتِ: ٦] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ [طه: ٤٤] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّهم يَتَّقُونَ أوْ يُحْدِثُ لَهم ذِكْرًا﴾ [طه: ١١٣] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أمْرُ السّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ البَصَرِ أوْ هو أقْرَبُ﴾ [النَّحْلِ: ٧٧] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى﴾ [النَّجْمِ: ٩] وأجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، والأصَحُّ مِنها وجْهٌ واحِدٌ وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى أوْ يَزِيدُونَ في تَقْدِيرِكم بِمَعْنى أنَّهم إذا رَآهُمُ الرّائِي قالَ: هَؤُلاءِ مِائَةُ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ عَلى المِائَةِ، وهَذا هو الجَوابُ عَنْ كُلِّ ما يُشْبِهُ هَذا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ والمَعْنى: أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ لَمّا آمَنُوا أزالَ اللَّهُ الخَوْفَ عَنْهم وآمَنَهم مِنَ العَذابِ ومَتَّعَهُمُ اللَّهُ إلى حِينٍ، أيْ: إلى الوَقْتِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أجَلًا لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم.
{"ayahs_start":139,"ayahs":["وَإِنَّ یُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ","فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِینَ","فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِیمࣱ","فَلَوۡلَاۤ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِینَ","لَلَبِثَ فِی بَطۡنِهِۦۤ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ","۞ فَنَبَذۡنَـٰهُ بِٱلۡعَرَاۤءِ وَهُوَ سَقِیمࣱ","وَأَنۢبَتۡنَا عَلَیۡهِ شَجَرَةࣰ مِّن یَقۡطِینࣲ","وَأَرۡسَلۡنَـٰهُ إِلَىٰ مِا۟ئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ یَزِیدُونَ","فَـَٔامَنُوا۟ فَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ"],"ayah":"فَـَٔامَنُوا۟ فَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق