الباحث القرآني
(p-١٠٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَفْتِهِمْ أهم أشَدُّ خَلْقًا أمْ مَن خَلَقْنا إنّا خَلَقْناهم مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في بَيانِ النَّظْمِ اعْلَمْ أنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّ المَقْصِدَ الأقْصى مِن هَذا الكِتابِ الكَرِيمِ إثْباتُ الأُصُولِ الأرْبَعَةِ وهي الإلَهِيّاتُ والمَعادُ والنُّبُوَّةُ وإثْباتُ القَضاءِ والقَدَرِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ، بِإثْباتِ ما يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ ويَدُلُّ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وهو خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما وخَلْقُ المَشارِقِ والمَغارِبِ، فَلَمّا أحْكَمَ الكَلامَ في هَذا البابِ فَرَّعَ عَلَيْها إثْباتَ القَوْلِ بِالحَشْرِ والنَّشْرِ والقِيامَةِ.
واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ:
أوَّلُهُما: إثْباتُ الجَوازِ العَقْلِيِّ.
وثانِيهِما: إثْباتُ الوُقُوعِ.
أمّا الكَلامُ في المَطْلُوبِ الأوَّلِ: فاعْلَمْ أنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى الشَّيْءِ يَقَعُ عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يُقالَ إنَّهُ قَدَرَ عَلى ما هو أصْعَبُ وأشَدُّ وأشَقُّ مِنهُ، فَوَجَبَ أيْضًا أنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ.
والثّانِي: أنْ يُقالَ: إنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهِ في إحْدى الحالَتَيْنِ والفاعِلُ والقابِلُ باقِيَيْنِ كَما كانا، فَوَجَبَ أنْ تَبْقى القُدْرَةُ عَلَيْهِ في الحالَةِ الثّانِيَةِ، واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ في بَيانِ أنَّ القَوْلَ بِالبَعْثِ والقِيامَةِ أمْرٌ جائِزٌ مُمْكِنٌ.
أمّا الطَّرِيقُ الأوَّلُ: فَهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَفْتِهِمْ أهم أشَدُّ خَلْقًا﴾ [الصافات: ١١] والتَّقْدِيرُ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: اسْتَفْتِ يا مُحَمَّدُ هَؤُلاءِ المُنْكِرِينَ أهم أشَدُّ خَلْقًا مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما وخَلْقِ المَشارِقِ والمَغارِبِ وخَلْقِ الشَّياطِينِ الَّذِينَ يَصْعَدُونَ الفَلَكَ، ولا شَكَّ أنَّهم يَعْتَرِفُونَ بِأنَّ خَلْقَ هَذا القِسْمِ أشَقُّ وأشَدُّ في العُرْفِ مِن خَلْقِ القِسْمِ الأوَّلِ، فَلَمّا ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في إثْباتِ التَّوْحِيدِ كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا عَلى هَذا القِسْمِ الَّذِي هو أشَدُّ وأصْعَبُ، فَبِأنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى إعادَةِ الحَياةِ في هَذِهِ الأجْسادِ كانَ أوْلى، ونَظِيرُ هَذِهِ الدَّلالَةِ قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ يس ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافر: ٥٧] .
أمّا الطَّرِيقُ الثّانِي: فَهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنّا خَلَقْناهم مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ والمَعْنى أنَّ هَذِهِ الأجْسامَ قابِلَةٌ لِلْحَياةِ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ قابِلَةً لِلْحَياةِ لَما صارَتْ حَيَّةً في المَرَّةِ الأُولى، والإلَهُ قادِرٌ عَلى خَلْقِ هَذِهِ الحَياةِ في هَذِهِ الأجْسامِ، ولَوْلا كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا عَلى هَذا المَعْنى لَما حَصَلَتِ الحَياةُ في المَرَّةِ الأُولى، ولا شَكَّ أنَّ قابِلِيَّةَ تِلْكَ الأجْسامِ باقِيَةٌ وأنَّ قادِرِيَّةَ اللَّهِ تَعالى باقِيَةٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ القابِلِيَّةَ وهَذِهِ القادِرِيَّةَ مِنَ الصِّفاتِ الذّاتِيَّةِ فامْتَنَعَ زَوالُها فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ أنَّ القَوْلَ بِالبَعْثِ والقِيامَةِ أمْرٌ مُمْكِنٌ، ولَمّا بَيَّنَ تَعالى إمْكانَ هَذا المَعْنى بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بَيَّنَ وُقُوعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ نَعَمْ وأنْتُمْ داخِرُونَ﴾ [الصافات: ١٨] وذَلِكَ لِأنَّهُ ثَبَتَ صِدْقُ الرَّسُولِ ﷺ لِأجْلِ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ عَلَيْهِ، والصّادِقُ إذا أخْبَرَ عَنْ أمْرٍ مُمْكِنِ الوُقُوعِ وجَبَ الِاعْتِرافُ بِوُقُوعِهِ فَهَذا تَقْرِيرُ نَظْمِ هَذِهِ الآيَةِ وهو في غايَةِ الحُسْنِ واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاسْتَفْتِهِمْ﴾ يَعْنِي أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ القاطِعَةِ كَوْنُهُ تَعالى خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فاسْتَفْتِ هَؤُلاءِ المُنْكِرِينَ، وقُلْ لَهم: ﴿أهم أشَدُّ خَلْقًا﴾ أمْ هَذِهِ الأشْياءُ الَّتِي بَيَّنّا كَوْنَهُ تَعالى خالِقًا لَها ولَمْ يَحْكِ عَنْهم أنَّهم أقَرُّوا أنَّ خَلْقَ هَذِهِ الأشْياءِ أصْعَبُ لِأجْلِ أنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ كالمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ فَلا حاجَةَ أنْ يُحْكى عَنْهم صِحَّةُ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا خَلَقْناهم مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ يَعْنِي أنّا لَمّا قَدَرْنا عَلى خَلْقِ الحَياةِ في ذَواتِهِمْ أوَّلًا وجَبَ أنْ نَبْقى قادِرِينَ عَلى خَلْقِ الحَياةِ فِيهِمْ ثانِيًا؛ لِما بَيَّنّا أنَّ حالَ القابِلِ وحالَ الفاعِلِ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ.
وفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرى وهي أنَّ القَوْمَ قالُوا: كَيْفَ يُعْقَلُ تَوَلُّدُ الإنْسانِ لا مِنَ النُّطْفَةِ ولا مِنَ الأبَوَيْنِ ؟ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهم: إنَّكم لَمّا (p-١١٠)أقْرَرْتُمْ بِحُدُوثِ العالَمِ واعْتَرَفْتُمْ بِأنَّ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إنَّما حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى وتَكْوِينِهِ فَلا بُدَّ وأنْ تَعْتَرِفُوا بِأنَّ الإنْسانَ الأوَّلَ إنَّما حَدَثَ لا مِنَ الأبَوَيْنِ ؟ فَإذا عَقَلْتُمْ ذَلِكَ واعْتَرَفْتُمْ بِهِ فَقَدْ سَقَطَ قَوْلُكُمُ: الإنْسانُ كَيْفَ يَحْدُثُ مِن غَيْرِ النُّطْفَةِ ومِن غَيْرِ الأبَوَيْنِ ؟ وأيْضًا قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الجُمْهُورِ أنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ اللّازِبِ ومَن قَدَرَ عَلى خَلْقِ الحَياةِ في الطِّينِ اللّازِبِ فَكَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إعادَةِ الحَياةِ إلى هَذِهِ الذَّواتِ.
وأمّا كَيْفِيَّةُ خَلْقِ الإنْسانِ مِنَ الطِّينِ اللّازِبِ فَهي مَذْكُورَةٌ في السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الوَجْهَ أنَما يَحْسُنُ إذا قُلْنا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا خَلَقْناهم مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ هو أنّا خَلَقْنا أباهم آدَمَ مِن طِينٍ لازِبٍ، وفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ أنّا خَلَقْنا كُلَّ إنْسانٍ مِن طِينٍ لازِبٍ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ الحَيَوانَ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ المَنِيِّ ودَمِ الطَّمْثِ والمَنِيَّ يَتَوَلَّدُ مِنَ الدَّمِ، فالحَيَوانُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الدَّمِ والدَّمُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الغِذاءِ، والغِذاءُ إمّا حَيَوانِيٌّ وإمّا نَباتِيٌّ، أمّا تَوَلُّدُ الحَيَوانِ الَّذِي صارَ غِذاءً فالكَلامُ في كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِهِ كالكَلامِ في تَوَلُّدِ الإنْسانِ، فَثَبَتَ أنَّ الأصْلَ في الأغْذِيَةِ هو النَّباتُ، والنَّباتُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنِ امْتِزاجِ الأرْضِ بِالماءِ وهو الطِّينُ اللّازِبُ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ أنَّ كُلَّ الخَلْقِ مُتَوَلِّدُونَ مِنَ الطِّينِ اللّازِبِ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الأجْزاءَ الَّتِي مِنها تَرَكَّبَ هَذا الطِّينُ اللّازِبُ قابِلَةٌ لِلْحَياةِ واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلَيْها، وهَذِهِ القابِلِيَّةُ والقادِرِيَّةُ واجِبَةُ البَقاءِ، فَوَجَبَ بَقاءُ هَذِهِ الصِّحَّةِ في كُلِّ الأوْقاتِ وهَذِهِ بَياناتٌ ظاهِرَةٌ واضِحَةٌ، وأمّا اللّازِبُ فَقِيلَ اللّاصِقُ، وقِيلَ اللَّزِجُ، وقِيلَ: الحَتِدُ، وأكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ عَلى أنَّ الباءَ في لازِبٍ بَدَلٌ مِنَ المِيمِ يُقالُ: لازِبٌ ولازِمٌ.
{"ayah":"فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَاۤۚ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّن طِینࣲ لَّازِبِۭ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق