الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يابُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذا تَرى قالَ ياأبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ ﴿ونادَيْناهُ أنْ ياإبْراهِيمُ﴾ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ (p-١٣٣)﴿سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿وبارَكْنا عَلَيْهِ وعَلى إسْحاقَ ومِن ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا قالَ: ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ أتْبَعُهُ بِما يَدُلُّ عَلى حُصُولِ ما بُشِّرَ بِهِ وبُلُوغِهِ، فَقالَ: ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ ومَعْناهُ فَلَمّا أدْرَكَ وبَلَغَ الحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلى السَّعْيِ، وقَوْلُهُ: ﴿مَعَهُ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ والتَّقْدِيرُ كائِنًا مَعَهُ، والفائِدَةُ في اعْتِبارِ هَذا المَعْنى أنَّ الأبَ أرْفَقُ النّاسِ بِالوَلَدِ، وغَيْرُهُ رُبَّما عَنَّفَ بِهِ في الِاسْتِسْعاءِ فَلا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأنَّهُ لَمْ تَسْتَحْكِمْ قُوَّتُهُ، قالَ بَعْضُهم: كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ ابْنَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا وعَدَهُ في الآيَةِ الأُولى بِكَوْنِ ذَلِكِ الغُلامِ حَلِيمًا، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى كَمالِ حِلْمِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ بِهِ مِن كَمالِ الحِلْمِ وفُسْحَةِ الصَّدْرِ ما قَوّاهُ عَلى احْتِمالِ تِلْكَ البَلِيَّةِ العَظِيمَةِ، والإتْيانِ بِذَلِكَ الجَوابِ الحَسَنِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وجْهانِ: الأوَّلُ: قالَ السُّدِّيُّ: كانَ إبْراهِيمُ حِينَ بُشِّرَ بِإسْحاقَ قَبْلَ أنْ يُولَدَ لَهُ قالَ: هو إذَنْ لِلَّهِ ذَبِيحٌ فَقِيلَ لِإبْراهِيمَ: قَدْ نَذَرْتَ نَذْرًا فَفِ بِنَذْرِكَ فَلَمّا أصْبَحَ ﴿قالَ يابُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ . ورُوِيَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ أنَّهُ رَأى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ في مَنامِهِ، كَأنَّ قائِلًا يَقُولُ لَهُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذا، فَلَمّا أصْبَحَ تَرَوّى في ذَلِكَ مِنَ الصَّباحِ إلى الرَّواحِ، أمِنَ اللَّهِ هَذا الحُلْمُ أمْ مِنَ الشَّيْطانِ ؟ فَمِن ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمّا أمْسى رَأى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ رَأى مِثْلَهُ في اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ، وهَذا هو قَوْلُ أهْلِ التَّفْسِيرِ. وهُوَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ رَأى في المَنامِ ما يُوجِبُ أنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ في اليَقَظَةِ، وعَلى هَذا فَتَقْدِيرُ اللَّفْظِ: إنِّي أرى في المَنامِ ما يُوجِبُ أنْ أذْبَحَكَ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّهُ رَأى في المَنامِ أنَّهُ يَذْبَحُهُ ورُؤْيا الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن بابِ الوَحْيِ، وعَلى هَذا القَوْلِ فالمَرْئِيُّ في المَنامِ لَيْسَ إلّا أنَّهُ يَذْبَحُ، فَإنْ قِيلَ: إمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ عِنْدَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أنَّ كُلَّ ما رَآهُ في المَنامِ فَهو حَقٌّ حُجَّةٌ، أوْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عِنْدَهم، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَلِمَ راجَعَ الوَلَدَ في هَذِهِ الواقِعَةِ، بَلْ كانَ مِنَ الواجِبِ عَلَيْهِ أنْ يَشْتَغِلَ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ المَأْمُورِ، وأنْ لا يُراجِعَ الوَلَدَ فِيهِ، وأنْ لا يَقُولَ لَهُ: ﴿فانْظُرْ ماذا تَرى﴾ وأنْ لا يُوقِفَ العَمَلَ عَلى أنْ يَقُولَ لَهُ الوَلَدُ ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ ؟ وأيْضًا فَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ بَقِيَ في اليَوْمِ الأوَّلِ مُتَفَكِّرًا، ولَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالدَّلِيلِ أنَّ كُلَّ ما رَآهُ في النَّوْمِ فَهو حَقٌّ لَمْ يَكُنْ إلى هَذا التَّرَوِّي والتَّفَكُّرِ حاجَةٌ، وإنْ كانَ الثّانِي، وهو أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ عِنْدَهم أنَّ ما يَرَوْنَهُ في المَنامِ حَقٌّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أنْ يُقْدِمَ عَلى ذَبْحِ ذَلِكَ الطِّفْلِ بِمُجَرَّدِ رُؤْيا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلى كَوْنِها حُجَّةً ؟ والجَوابُ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ عِنْدَ الرُّؤْيا مُتَرَدِّدًا فِيهِ ثُمَّ تَأكَّدَتِ الرُّؤْيا بِالوَحْيِ الصَّرِيحِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا الذَّبِيحَ مَن هو ؟ فَقِيلَ: إنَّهُ إسْحاقُ. وهَذا قَوْلُ عُمَرَ وعَلِيٍّ والعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وابْنِ مَسْعُودٍ وكَعْبِ الأحْبارِ وقَتادَةَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومَسْرُوقٍ وعِكْرِمَةَ والزُّهْرِيِّ والسُّدِّيِّ ومُقاتِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وقِيلَ: إنَّهُ إسْماعِيلُ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ (p-١٣٤)ومُجاهِدٍ والكَلْبِيِّ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّهُ إسْماعِيلُ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: أنا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» «وقالَ لَهُ أعْرابِيٌّ: ”يا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ“ فَتَبَسَّمَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: إنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ لَمّا حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَ نَذَرَ لِلَّهِ لَئِنْ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ أمْرَها لَيَذْبَحَنَّ أحَدَ ولَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلى عَبْدِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ أخْوالُهُ، وقالُوا لَهُ افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الإبِلِ، فَفَداهُ بِمِائَةٍ مِنَ الإبِلِ، والذَّبِيحُ الثّانِي إسْماعِيلُ» . الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ الأصْمَعِيِّ أنَّهُ قالَ: سَألْتُ أبا عَمْرِو بْنَ العَلاءِ عَنِ الذَّبِيحِ، فَقالَ: يا أصْمَعِيُّ أيْنَ عَقْلُكَ، ومَتى كانَ إسْحاقُ بِمَكَّةَ، وإنَّما كانَ إسْماعِيلُ بِمَكَّةَ، وهو الَّذِي بَنى البَيْتَ مَعَ أبِيهِ والمَنحَرَ بِمَكَّةَ ؟ . الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ إسْماعِيلَ بِالصَّبْرِ دُونَ إسْحاقَ في قَوْلِهِ: ﴿وإسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥] وهو صَبْرُهُ عَلى الذَّبْحِ، ووَصَفَهُ أيْضًا بِصِدْقِ الوَعْدِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤]؛ لِأنَّهُ وعَدَ أباهُ مِن نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلى الذَّبْحِ فَوَفّى بِهِ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١] فَنَقُولُ: لَوْ كانَ الذَّبِيحُ إسْحاقَ لَكانَ الأمْرُ بِذَبْحِهِ إمّا أنْ يَقَعَ قَبْلَ ظُهُورِ يَعْقُوبَ مِنهُ أوْ بَعْدَ ذَلِكَ، فالأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَشَّرَها بِإسْحاقَ، وبَشَّرَها مَعَهُ بِأنَّهُ يَحْصُلُ مِنهُ يَعْقُوبُ فَقَبْلَ ظُهُورِ يَعْقُوبَ مِنهُ لَمْ يَجُزِ الأمْرُ بِذَبْحِهِ، وإلّا حَصَلَ الخُلْفُ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن وراءِ إسْحاقَ﴾ والثّانِي باطِلٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يابُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الِابْنَ لَمّا قَدَرَ عَلى السَّعْيِ ووَصَلَ إلى حَدِّ القُدْرَةِ عَلى الفِعْلِ أمَرَ اللَّهُ تَعالى إبْراهِيمَ بِذَبْحِهِ، وذَلِكَ يُنافِي وُقُوعَ هَذِهِ القِصَّةِ في زَمانٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الذَّبِيحُ هو إسْحاقَ. الحُجَّةُ الخامِسَةُ: حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى ولَدًا يَسْتَأْنِسُ بِهِ في غُرْبَتِهِ فَقالَ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ وهَذا السُّؤالُ إنَّما يَحْسُنُ قَبْلَ أنْ يَحْصُلَ لَهُ الوَلَدُ؛ لِأنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُ ولَدٌ واحِدٌ لَما طَلَبَ الوَلَدَ الواحِدَ؛ لَأنَّ طَلَبَ الحاصِلِ مُحالٌ. وقَوْلُهُ: ﴿هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ لا يُفِيدُ إلّا طَلَبَ الوَلَدِ الواحِدِ، وكَلِمَةُ مَن لِلتَّبْعِيضِ وأقَلُّ دَرَجاتِ البَعْضِيَّةِ الواحِدُ فَكَأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنَ الصّالِحِينَ﴾ لا يُفِيدُ إلّا طَلَبَ الوَلَدِ الواحِدِ فَثَبَتَ أنَّ هَذا السُّؤالَ لا يَحْسُنُ إلّا عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ الأوْلادِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا السُّؤالَ وقَعَ حالَ طَلَبِ الوَلَدِ الأوَّلِ، وأجْمَعَ النّاسُ عَلى أنَّ إسْماعِيلَ مُتَقَدِّمٌ في الوُجُودِ عَلى إسْحاقَ، فَثَبَتَ أنَّ المَطْلُوبَ بِهَذا الدُّعاءِ هو إسْماعِيلُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ عَقِيبَهُ قِصَّةَ الذَّبِيحِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الذَّبِيحُ هو إسْماعِيلُ. الحُجَّةُ السّادِسَةُ: الأخْبارُ الكَثِيرَةُ في تَعْلِيقِ قَرْنِ الكَبْشِ بِالكَعْبَةِ، فَكانَ الذَّبِيحُ بِمَكَّةَ. ولَوْ كانَ الذَّبِيحُ إسْحاقَ كانَ الذَّبْحُ بِالشّامِ، واحْتَجَّ مَن قالَ: إنَّ ذَلِكَ الذَّبِيحَ هو إسْحاقُ بِوَجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ أوَّلَ الآيَةِ وآخِرَها يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، أمّا أوَّلُها فَإنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ قالَ: ﴿إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ مُهاجَرَتُهُ إلى الشّامِ ثُمَّ قالَ: ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا الغُلامُ لَيْسَ إلّا إسْحاقَ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذا الغُلامِ الَّذِي بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ هو ذَلِكَ الغُلامُ الَّذِي حَصَلَ في الشّامِ، فَثَبَتَ أنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ الآيَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ الذَّبِيحَ هو إسْحاقُ، وأمّا آخِرُ الآيَةِ فَهو أيْضًا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا تَمَّمَ قِصَّةَ الذَّبِيحِ قالَ بَعْدَهُ: (p-١٣٥)﴿وبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ومَعْناهُ أنَّهُ بَشَّرَهُ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ، وذَكَرَ هَذِهِ البِشارَةَ عَقِيبَ حِكايَةِ تِلْكَ القِصَّةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما بَشَّرَهُ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِأجْلِ أنَّهُ تَحَمَّلَ هَذِهِ الشَّدائِدَ في قِصَّةِ الذَّبِيحِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ أوَّلَ الآيَةِ وآخِرَها يَدُلُّ عَلى أنَّ الذَّبِيحَ هو إسْحاقُ عَلَيْهِ السَّلامُ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ ما اشْتَهَرَ مِن كِتابِ يَعْقُوبَ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”مِن يَعْقُوبَ إسْرائِيلَ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ إسْحاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ بْنِ إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ“ فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في هَذا البابِ، وكانَ الزَّجّاجُ يَقُولُ: اللَّهُ أعْلَمُ أيُّهُما الذَّبِيحُ. واللَّهُ أعْلَمُ. واعْلَمْ أنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلى ما ذَكَرْنا اخْتِلافُهم في مَوْضِعِ الذَّبْحِ فالَّذِينَ قالُوا: الذَّبِيحُ هو إسْماعِيلُ. قالُوا: كانَ الذَّبْحُ بِمِنًى، والَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ إسْحاقُ قالُوا: هو بِالشّامِ، وقِيلَ: بِبَيْتِ المَقْدِسِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَأْمُورًا بِهَذا بِما رَأى، وهَذا الِاخْتِلافُ مُفَرَّعٌ عَلى مَسْألَةٍ مِن مَسائِلِ أُصُولِ الفِقْهِ، وهي أنَّهُ هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ الحُكْمِ قَبْلَ حُضُورِ مُدَّةِ الِامْتِثالِ فَقالَ أكْثَرُ أصْحابِنا: إنَّهُ يَجُوزُ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ وكَثِيرٌ مِن فُقَهاءِ الشّافِعِيَّةِ والحَنَفِيَّةِ: إنَّهُ لا يَجُوزُ، فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أمَرَهُ بِالذَّبْحِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَسَخَ هَذا التَّكْلِيفَ قَبْلَ حُضُورِ وقْتِهِ، وعَلى القَوْلِ الثّانِي أنَّهُ تَعالى ما أمَرَهُ بِالذَّبْحِ، وإنَّما أمَرَهُ بِمُقَدِّماتِ الذَّبْحِ وهَذِهِ مَسْألَةٌ شَرِيفَةٌ مِن مَسائِلِ بابِ النَّسْخِ، واحْتَجَّ أصْحابُنا عَلى أنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الأمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ مُدَّةِ الِامْتِثالِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَبْحِ ولَدِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَسَخَهُ عَنْهُ قَبْلَ إقْدامِهِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ يُفِيدُ المَطْلُوبَ، إنَّما قُلْنا: إنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِذَبْحِ الوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لِوَلَدِهِ: إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ. فَقالَ الوَلَدُ: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَأْمُورًا بِمُقِدِّماتِ الذَّبْحِ لا بِنَفْسِ الذَّبْحِ، ثُمَّ إنَّهُ أتى بِمُقَدِّماتِ الذَّبْحِ وأدْخَلَها في الوُجُودِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ أُمِرَ بِشَيْءٍ وقَدْ أتى بِهِ، وفي هَذا المَوْضِعِ لا يَحْتاجُ إلى الفِداءِ، لَكِنَّهُ احْتاجَ إلى الفِداءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧] فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ أتى بِالمَأْمُورِ بِهِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ أتى بِكُلِّ مُقَدِّماتِ الذَّبْحِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى كانَ قَدْ أمَرَهُ بِنَفْسِ الذَّبْحِ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ إنَّهُ تَعالى نَسَخَ ذَلِكَ الحُكْمَ قَبْلَ إثْباتِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى المَقْصُودِ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ اللَّهَ أمَرَهُ بِذَبْحِ الوَلَدِ بَلْ نَقُولُ إنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِمُقَدِّماتِ الذَّبْحِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ ما أتى بِالذَّبْحِ وإنَّما أتى بِمُقَدِّماتِ الذَّبْحِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ أتى بِما أُمِرَ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونادَيْناهُ أنْ ياإبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَهُ في المَنامِ بِمُقُدِّماتِ الذَّبْحِ لا بِنَفْسِ الذَّبْحِ وتِلْكَ المُقَدِّماتُ عِبارَةٌ عَنْ إضْجاعِهِ ووَضْعِ السِّكِّينِ عَلى حَلْقِهِ، والعَزْمِ الصَّحِيحِ عَلى الإتْيانِ بِذَلِكَ الفِعْلِ إنْ ورَدَ الأمْرُ. الثّانِي: الذَّبْحُ عِبارَةٌ عَنْ قَطْعِ الحُلْقُومِ فَلَعَلَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَطَعَ الحُلْقُومَ إلّا أنَّهُ كُلَّما قَطَعَ جُزْءًا أعادَ اللَّهُ التَّأْلِيفَ إلَيْهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ لَمْ يَحْصُلِ المَوْتُ. والوَجْهُ الثّالِثُ: وهو الَّذِي عَلَيْهِ تَعْوِيلُ القَوْمِ: أنَّهُ تَعالى لَوْ أمَرَ شَخْصًا مُعَيَّنًا بِإيقاعِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ إيقاعَ ذَلِكَ الفِعْلِ في ذَلِكَ الوَقْتِ حَسَنٌ، فَإذا أنْهاهُ عَنْهُ فَذَلِكَ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلى أنَّ إيقاعَ ذَلِكَ الفِعْلِ في ذَلِكَ الوَقْتِ قَبِيحٌ، فَلَوْ حَصَلَ هَذا النَّهْيُ عَقِيبَ ذَلِكَ الأمْرِ لَزِمَ أحَدُ أمْرَيْنِ؛ لِأنَّهُ تَعالى إنْ كانَ عالِمًا بِحالِ ذَلِكَ الفِعْلِ لَزِمَ أنْ يُقالَ إنَّهُ أمْرٌ بِالقَبِيحِ أوْ نَهْيٌ عَنِ الحَسَنِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِهِ لَزِمَ جَهْلُ اللَّهِ تَعالى وإنَّهُ مُحالٌ، فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في هَذا البابِ، والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَهُ بِالذَّبْحِ. (p-١٣٦)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ اعْتَرَفَ بِكَوْنِ تِلْكَ الرُّؤْيا واجِبًا العَمَلُ بِها، ولا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أتى بِكُلِّ ما رَآهُ في ذَلِكَ المَنامِ. وأمّا قَوْلُهُ ثانِيًا: كُلَّما قَطَعَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ جُزْءًا أعادَ اللَّهُ تَعالى التَّأْلِيفَ إلَيْهِ، فَنَقُولُ: هَذا باطِلٌ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَوْ أتى بِكُلِّ ما أُمِرَ بِهِ لَما احْتاجَ إلى الفِداءِ وحَيْثُ احْتاجَ إلَيْهِ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِما أُمِرَ بِهِ. وأمّا قَوْلُهُ ثالِثًا: إنَّهُ يَلْزَمُ إمّا الأمْرُ بِالقَبِيحِ وإمّا الجَهْلُ، فَنَقُولُ: هَذا بِناءٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَأْمُرُ إلّا بِما يَكُونُ حَسَنًا في ذاتِهِ ولا يَنْهى إلّا عَمّا يَكُونُ قَبِيحًا في ذاتِهِ، وذَلِكَ بِناءٌ عَلى تَحْسِينِ العَقْلِ وتَقْبِيحِهِ وهو باطِلٌ، وأيْضًا فَهَبْ أنّا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إلّا أنّا نَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ الأمْرَ بِالشَّيْءِ تارَةً يَحْسُنُ لِكَوْنِ المَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا وتارَةً لِأجْلِ أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ يُفِيدُ صِحَّةَ مَصْلَحَةٍ مِنَ المَصالِحِ وإنْ لَمْ يَكُنِ المَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا ألا تَرى أنَّ السَّيِّدَ إذا أرادَ أنْ يُرَوِّضَ عَبْدَهُ، فَإنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إذا جاءَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فافْعَلِ الفِعْلَ الفُلانِيَّ، ويَكُونُ ذَلِكَ الفِعْلُ مِنَ الأفْعالِ الشّاقَّةِ، ويَكُونُ مَقْصُودُ السَّيِّدِ مِن ذَلِكَ الأمْرِ لَيْسَ أنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ العَبْدُ بِذَلِكَ الفِعْلِ، بَلْ أنْ يُوَطِّنَ العَبْدُ نَفْسَهُ عَلى الِانْقِيادِ والطّاعَةِ، ثُمَّ إنَّ السَّيِّدَ إذا عَلِمَ مِنهُ أنَّهُ وطَّنَ نَفْسَهُ عَلى الطّاعَةِ فَقَدْ يُزِيلُ الألَمَ عَنْهُ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ، فَكَذا هَهُنا، فَما لَمْ تُقِيمُوا الدَّلالَةَ عَلى فَسادِ هَذا الِاحْتِمالِ لَمْ يَتِمَّ كَلامُكم. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يَأْمُرُ بِما لا يُرِيدُ وُقُوعَهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ أمَرَ بِالذَّبْحِ وما أرادَ وُقُوعَهُ، أمّا أنَّهُ أمَرَ بِالذَّبْحِ فَلَمّا تَقَدَّمَ في المَسْألَةِ الأُولى. وأمّا أنَّهُ ما أرادَ وُقُوعَهُ فَلِأنَّ عِنْدَنا أنَّ كُلَّ ما أرادَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَإنَّهُ يَقَعُ، وحَيْثُ لَمْ يَقَعْ هَذا الذَّبْحُ عَلِمْنا أنَّهُ تَعالى ما أرادَ وُقُوعَهُ، وأمّا عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ فَلِأنَّ اللَّهَ تَعالى نَهى عَنْ ذَلِكَ الذَّبْحِ، والنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلى أنَّ النّاهِيَ لا يُرِيدُ وُقُوعَهُ فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالذَّبْحِ، وثَبَتَ أنَّهُ تَعالى ما أرادَهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الإرادَةِ، وتَمامُ الكَلامِ في أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِالذَّبْحِ ما تَقَدَّمَ في المَسْألَةِ المُتَقَدِّمَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في بَيانِ الحِكْمَةِ في وُرُودِ هَذا التَّكْلِيفِ في النَّوْمِ لا في اليَقَظَةِ وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ كانَ في نِهايَةِ المَشَقَّةِ عَلى الذّابِحِ والمَذْبُوحِ، فَوَرَدَ أوَّلًا في النَّوْمِ حَتّى يَصِيرَ ذَلِكَ كالمُنَبِّهِ لِوُرُودِ هَذا التَّكْلِيفِ الشّاقِّ، ثُمَّ يَتَأكَّدُ حالُ النَّوْمِ بِأحْوالِ اليَقَظَةِ، فَحِينَئِذٍ لا يَهْجُمُ هَذا التَّكْلِيفُ دُفْعَةً واحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا. الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ رُؤْيا الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ حَقًّا، قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ [الفتح: ٢٧] وقالَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] وقالَ في حَقِّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ تَقْوِيَةُ الدَّلالَةِ عَلى كَوْنِهِمْ صادِقِينَ؛ لِأنَّ الحالَ إمّا حالُ يَقَظَةٍ وإمّا حالُ مَنامٍ، فَإذا تَظاهَرَتِ الحالَتانِ عَلى الصِّدْقِ، كانَ ذَلِكَ هو النِّهايَةَ في بَيانِ كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ صادِقِينَ في كُلِّ الأحْوالِ، واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ نَقُولُ: مَقاماتُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: مِنها ما يَقَعُ عَلى وفْقِ الرُّؤْيَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى في حَقِّ رَسُولِنا ﷺ: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ [الفتح: ٢٧] ثُمَّ وقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ. ومِنها ما يَقَعُ عَلى الضِّدِّ كَما في حَقِّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّهُ رَأى الذَّبْحَ وكانَ الحاصِلُ هو الفِداءَ والنَّجاةَ. ومِنها ما يَقَعُ عَلى ضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ والمُناسَبَةِ كَما في رُؤْيا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلِهَذا السَّبَبِ أطْبَقَ أهْلُ التَّعْبِيرِ عَلى أنَّ (p-١٣٧)المَناماتِ واقِعَةٌ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ”تُرِي“ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الرّاءِ، ما تُرِي مِن نَفْسِكَ مِنَ الصَّبْرِ والتَّسْلِيمِ. وقِيلَ ما تُشِيرُ، والباقُونَ بِفَتْحِ التّاءِ، ثُمَّ مِنهم مَن يَمِيلُ ومِنهم مَن لا يَمِيلُ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: الحِكْمَةُ في مُشاوَرَةِ الِابْنِ في هَذا البابِ أنْ يُطْلِعَ ابْنَهُ عَلى هَذِهِ الواقِعَةِ لِيَظْهَرَ لَهُ صَبْرُهُ في طاعَةِ اللَّهِ، فَتَكُونَ فِيهِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِإبْراهِيمَ حَيْثُ يَراهُ قَدْ بَلَغَ في الحِلْمِ إلى هَذا الحَدِّ العَظِيمِ، وفي الصَّبْرِ عَلى أشَدِّ المَكارِهِ إلى هَذِهِ الدَّرَجَةِ العالِيَةِ ويَحْصُلَ لِلِابْنِ الثَّوابُ العَظِيمُ في الآخِرَةِ والثَّناءُ الحَسَنُ في الدُّنْيا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى مِن ولَدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ ومَعْناهُ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الجارُّ كَما حُذِفَ مِن قَوْلِهِ: ؎أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ [بِهِ] * * * ثُمَّ قالَ: ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ وإنَّما عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ والتَّيَمُّنِ، وأنَّهُ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب