الباحث القرآني

وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ . يَكُونُ مُتَمِّمًا لِمَعْنى جَعْلِ اللَّهِ إيّاهم مَغْلُولِينَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهم لا يَنْتَهِجُونَ سَبِيلَ الرَّشادِ، فَكَأنَّهُ قالَ: لا يُبْصِرُونَ الحَقَّ فَيَنْقادُونَ لَهُ لِمَكانِ السَّدِّ، ولا يَنْقادُونَ لَكَ فَيُبْصِرُونَ الحَقَّ فَيَنْقادُونَ لَهُ لِمَكانِ الغُلِّ والإيمانِ المُوَرِّثِ لِلْإيقانِ. إمّا بِاتِّباعِ الرَّسُولِ أوَّلًا فَتَلُوحُ لَهُ الحَقائِقُ ثانِيًا، وإمّا بِظُهُورِ الأُمُورِ أوَّلًا واتِّباعِ الرَّسُولِ ثانِيًا، ولا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ أوَّلًا؛ لِأنَّهم مَغْلُولُونَ فَلا يَظْهَرُ لَهُمُ الحَقُّ مِنَ الرَّسُولِ ثانِيًا، ولا يَظْهَرُ لَهُمُ الحَقُّ أوَّلًا لِأنَّهم واقِعُونَ في السَّدِّ فَلا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ثانِيًا. وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ: وهو أنْ يُقالَ: المانِعُ إمّا أنْ يَكُونَ في النَّفْسِ، وإمّا أنْ يَكُونَ خارِجًا عَنْها، ولَهُمُ المانِعانِ جَمِيعًا مِنَ الإيمانِ، أمّا في النَّفْسِ فالغُلُّ، وأمّا مِنَ الخارِجِ فالسَّدُّ، ولا يَقَعُ نَظَرُهم عَلى أنْفُسِهِمْ فَيَرَوْنَ الآياتِ الَّتِي في أنْفُسِهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ (فُصِّلَتْ: ٥٣) وذَلِكَ لِأنَّ المُقْمَحَ لا يَرى نَفْسَهُ ولا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلى يَدَيْهِ، ولا يَقَعُ نَظَرُهم عَلى الآفاقِ؛ لِأنَّ مَن بَيْنَ السَّدَّيْنِ لا يُبْصِرُونَ الآفاقَ، فَلا تَبِينُ لَهُمُ الآياتُ الَّتِي في الآفاقِ، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ﴾ ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى عَدَمِ هِدايَتِهِمْ لِآياتِ اللَّهِ في الأنْفُسِ والآفاقِ، وفي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ مَسائِلُ: (p-٤١)المَسْألَةُ الأُولى: السَّدُّ مِن بَيْنِ الأيْدِي ذِكْرُهُ ظاهِرُ الفائِدَةِ، فَإنَّهم في الدُّنْيا سالِكُونَ ويَنْبَغِي أنْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَةَ المُسْتَقِيمَةَ و﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ فَلا يَقْدِرُونَ عَلى السُّلُوكِ، وأمّا السَّدُّ مِن خَلْفِهِمْ فَما الفائِدَةُ فِيهِ ؟ فَنَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: هو أنَّ الإنْسانَ لَهُ هِدايَةٌ فِطْرِيَّةٌ والكافِرُ قَدْ يَتْرُكُها، وهِدايَةٌ نَظَرِيَّةٌ والكافِرُ ما أدْرَكَها، فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ فَلا يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ الِاهْتِداءِ الَّتِي هي نَظَرِيَّةٌ ”وجَعَلْنا مِن خَلْفِهِمْ سَدًّا“ فَلا يَرْجِعُونَ إلى الهِدايَةِ الجِبِلِّيَّةِ الَّتِي هي الفِطْرِيَّةُ. الثّانِي: هو أنَّ الإنْسانَ مَبْدَؤُهُ مِنَ اللَّهِ ومَصِيرُهُ إلَيْهِ، فَعَمى الكافِرِ لا يُبْصِرُ ما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَصِيرِ إلى اللَّهِ ولا ما خَلْفَهُ مِنَ الدُّخُولِ في الوُجُودِ بِخَلْقِ اللَّهِ. الثّالِثُ: هو أنَّ السّالِكَ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِن سُلُوكِ طَرِيقٍ، فَإنِ انْسَدَّ الطَّرِيقُ الَّذِي قُدّامَهُ يَفُوتُهُ المَقْصِدُ ولَكِنَّهُ يَرْجِعُ، وإذا انْسَدَّ الطَّرِيقُ مِن خَلْفِهِ ومِن قُدّامِهِ فالمَوْضِعُ الَّذِي هو فِيهِ لا يَكُونُ مَوْضِعَ إقامَةٍ لِأنَّهُ مُهْلِكٌ فَقَوْلُهُ: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى إهْلاكِهِمْ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأغْشَيْناهُمْ﴾ بِحَرْفِ الفاءِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ لِلْإغْشاءِ بِالسَّدِّ تَعَلُّقٌ ويَكُونُ الإغْشاءُ مُرَتَّبًا عَلى جَعْلِ السَّدِّ، فَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ فَنَقُولُ: ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيانًا لِأُمُورٍ مُتَرَتِّبَةٍ يَكُونُ بَعْضُها سَبَبًا لِلْبَعْضِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ فَلا يُبْصِرُونَ أنْفُسَهم لِإقْماحِهِمْ ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ فَلا يُبْصِرُونَ ما في الآفاقِ، وحِينَئِذٍ يُمْكِنُ أنْ يَرَوُا السَّماءَ وما عَلى يَمِينِهِمْ وشِمالِهِمْ، فَقالَ بَعْدَ هَذا كُلِّهِ: ﴿وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ (البَقَرَةِ: ٧) فَلا يُبْصِرُونَ شَيْئًا أصْلًا. وثانِيهِما: هو أنَّ ذَلِكَ بَيانٌ لِكَوْنِ السَّدِّ قَرِيبًا مِنهم بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ كالغِشاوَةِ عَلى أبْصارِهِمْ، فَإنَّ مَن جُعِلَ مِن خَلْفِهِ ومِن قُدّامِهِ سَدَّيْنِ مُلْتَزِقَيْنِ بِهِ بِحَيْثُ يَبْقى بَيْنَهُما مُلْتَزِقًا بِهِما تَبْقى عَيْنُهُ عَلى سَطْحِ السَّدِّ فَلا يُبْصِرُ شَيْئًا أمّا غَيْرُ السَّدِّ فَلِلْحِجابِ، وأمّا عَيْنُ السَّدِّ فَلِكَوْنِ شَرْطِ المَرْئِيِّ أنْ لا يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ العَيْنِ جِدًّا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرَ السَّدَّيْنِ مِن بَيْنِ الأيْدِي ومِن خَلْفٍ ولَمْ يَذْكُرْ مِنَ اليَمِينِ والشِّمالِ، ما الحِكْمَةُ فِيهِ ؟ فَنَقُولُ: أمّا عَلى قَوْلِنا: إنَّهُ إشارَةٌ إلى الهِدايَةِ الفِطْرِيَّةِ والنَّظَرِيَّةِ فَظاهِرٌ، وأمّا عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَنَقُولُ بِما ذَكَرَ حَصَلَ العُمُومُ والمَنعُ مِنِ انْتِهاجِ المَناهِجِ المُسْتَقِيمَةِ، لِأنَّهم إنْ قَصَدُوا السُّلُوكَ إلى جانِبِ اليَمِينِ أوْ جانِبِ الشِّمالِ صارُوا مُتَوَجِّهِينَ إلى شَيْءٍ ومُوَلِّينَ عَنْ شَيْءٍ فَصارَ ما إلَيْهِ تَوَجُّهُهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُ اللَّهُ السَّدَّ هُناكَ فَيَمْنَعُهُ مِنَ السُّلُوكِ، فَكَيْفَما يَتَوَجَّهِ الكافِرُ يَجْعَلِ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَدًّا. ووَجْهٌ آخَرُ: أحْسَنُ مِمّا ذَكَرْنا وهو أنّا لَمّا بَيَّنّا أنَّ جَعْلَ السَّدِّ صارَ سَبَبًا لِلْإغْشاءِ كانَ السَّدُّ مُلْتَزِقًا بِهِ وهو مُلْتَزِقٌ بِالسَّدَّيْنِ، فَلا قُدْرَةَ لَهُ عَلى الحَرَكَةِ يُمْنَةً ولا يُسْرَةً، فَلا حاجَةَ إلى السَّدِّ عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ يَحْتَمِلُ ما ذَكَرْنا أنَّهم لا يُبْصِرُونَ شَيْئًا، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ هو أنَّ الكافِرَ مَصْدُودٌ، وسَبِيلُ الحَقِّ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ، وهو لا يُبْصِرُ السَّدَّ ولا يَعْلَمُ الصَّدَّ، فَيَظُنُّ أنَّهُ عَلى الطَّرِيقَةِ المُسْتَقِيمَةِ وغَيْرُ ضالٍّ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ الإنْذارَ لا يَنْفَعُهم مَعَ ما فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الغُلِّ والسَّدِّ والإغْشاءِ والإغْماءِ، بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وسَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيِ الإنْذارُ وعَدَمُهُ سِيّانِ بِالنِّسْبَةِ إلى الإيمانِ مِنهم إذْ لا وُجُودَ لَهُ مِنهم عَلى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءً فَلِماذا الإنْذارُ ؟ نَقُولُ: قَدْ أجَبْنا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ وما قالَ: سَواءٌ عَلَيْكَ فالإنْذارُ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّبِيِّ ﷺ كَعَدَمِ الإنْذارِ؛ لِأنَّ أحَدَهُما مُخْرِجٌ لَهُ عَنِ العُهْدَةِ، وسَبَبٌ في زِيادَةِ سِيادَتِهِ عاجِلًا وسَعادَتِهِ آجِلًا، وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ (p-٤٢)عَلى السَّواءِ، فَإنْذارُ النَّبِيِّ ﷺ لِيَخْرُجَ عَمّا عَلَيْهِ ويَنالَ ثَوابَ الإنْذارِ وإنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ لِما كُتِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَوارِ في دارِ القَرارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب