الباحث القرآني

وقَوْلُهُ: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ فِيهِ لَطِيفَةٌ غَرِيبَةٌ وهي أنَّهُ تَعالى قالَ: اخْتِلافُ صُوَرِ أعْضائِهِ مَعَ تَشابُهِ أجْزاءِ ما خُلِقَ مِنهُ آيَةٌ ظاهِرَةٌ ومَعَ هَذا فَهُنالِكَ ما هو أظْهَرُ وهو نُطْقُهُ وفَهْمُهُ، وذَلِكَ لِأنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ، فَهَبْ أنَّ جاهِلًا يَقُولُ إنَّهُ اسْتَحالَ وتَكُونُ جِسْمًا آخَرَ، لَكِنَّ القُوَّةَ النّاطِقَةَ والقُوَّةَ الفاهِمَةَ مِن أيْنَ تَقْتَضِيهِما النُّطْفَةُ ؟ فَإبْداعُ النُّطْقِ والفَهْمِ أعْجَبُ وأغْرَبُ مِن إبْداعِ الخَلْقِ والجِسْمِ، وهو إلى إدْراكِ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ مِنهُ أقْرَبُ، فَقَوْلُهُ: ﴿خَصِيمٌ﴾ أيْ ناطِقٌ وإنَّما ذَكَرَ الخَصِيمَ مَكانَ النُّطْقِ؛ لِأنَّهُ أعْلى أحْوالِ النّاطِقِ، فَإنَّ النّاطِقَ مَعَ نَفْسِهِ لا يُبَيِّنُ كَلامَهُ مِثْلَ ما يُبَيِّنُهُ وهو يَتَكَلَّمُ مَعَ غَيْرِهِ، والمُتَكَلِّمُ مَعَ غَيْرِهِ إذا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لا يُبَيِّنُ ولا يَجْتَهِدُ مِثْلَ ما يَجْتَهِدُ إذا كانَ كَلامُهُ مَعَ خَصْمِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿مُبِينٌ﴾ إشارَةٌ إلى قُوَّةِ عَقْلِهِ، واخْتارَ الإبانَةَ؛ لِأنَّ العاقِلَ عِنْدَ الإفْهامِ أعْلى دَرَجَةً مِنهُ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ لِأنَّ المُبِينَ بانَ عِنْدَهُ الشَّيْءُ ثُمَّ أبانَهُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن نُطْفَةٍ﴾ إشارَةٌ إلى أدْنى ما كانَ عَلَيْهِ وقَوْلُهُ: ﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ إشارَةٌ إلى أعْلى ما حَصَلَ عَلَيْهِ وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ [المؤمنون: ١٤] إلى أنْ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] فَما تَقَدَّمَ مِن خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، وخَلْقِ العَلَقَةِ مُضْغَةً، وخَلْقِ المُضْغَةِ عِظامًا إشارَةٌ إلى التَّغَيُّراتِ في الجِسْمِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] إشارَةٌ إلى ما أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ أيْ ناطِقٌ عاقِلٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ﴾ إشارَةٌ إلى بَيانِ الحَشْرِ وفي هَذِهِ الآياتِ إلى آخِرِ السُّورَةِ غَرائِبُ وعَجائِبُ نَذْكُرُها بِقَدْرِ الإمْكانِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَنَقُولُ: المُنْكِرُونَ لِلْحَشْرِ مِنهم مَن لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ دَلِيلًا ولا شُبْهَةً واكْتَفى بِالِاسْتِبْعادِ وادَّعى الضَّرُورَةَ وهُمُ الأكْثَرُونَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ بِلَفْظِ الِاسْتِبْعادِ كَما قالَ: ﴿وقالُوا أئِذا ضَلَلْنا في الأرْضِ أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: ١٠] ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الصافات: ١٦] ﴿أئِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ﴾ [الصافات: ٥٢]، ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا أئِنّا لَمَدِينُونَ﴾ [الصافات: ٥٣] إلى غَيْرِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَهُنا قالَ: ﴿قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِبْعادِ فَبَدَأ أوَّلًا بِإبْطالِ اسْتِبْعادِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ونَسِيَ خَلْقَهُ﴾ أيْ نَسِيَ أنّا خَلَقْناهُ مِن تُرابٍ (p-٩٦)ومِن نُطْفَةٍ مُتَشابِهَةِ الأجْزاءِ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهم مِنَ النَّواصِي إلى الأقْدامِ أعْضاءً مُخْتَلِفَةَ الصُّوَرِ والقَوامِ وما اكْتَفَيْنا بِذَلِكَ حَتّى أوْدَعْناهم ما لَيْسَ مِن قَبِيلِ هَذِهِ الأجْرامِ وهو النُّطْقُ والعَقْلُ اللَّذَيْنِ بِهِما اسْتَحَقُّوا الإكْرامَ، فَإنْ كانُوا يَقْنَعُونَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعادِ فَهَلّا يَسْتَبْعِدُونَ خَلْقَ النّاطِقِ العاقِلِ مِن نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ الحَياةِ أصْلًا، ويَسْتَبْعِدُونَ إعادَةَ النُّطْقِ والعَقْلِ إلى مَحَلٍّ كانا فِيهِ، ثُمَّ إنَّ اسْتِبْعادَهم كانَ مِن جِهَةِ ما في المَعادِ مِنَ التَّفَتُّتِ والتَّفَرُّقِ حَيْثُ قالُوا: ﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ اخْتارُوا العَظْمَ لِلذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أبْعَدُ عَنِ الحَياةِ لِعَدَمِ الإحْساسِ فِيهِ ووَصَفُوهُ بِما يُقَوِّي جانِبَ الِاسْتِبْعادِ مِنَ البِلى والتَّفَتُّتِ واللَّهُ تَعالى دَفَعَ اسْتِبْعادَهم مِن جِهَةِ ما في المُعِيدِ مِنَ القُدْرَةِ والعِلْمِ فَقالَ: ﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلًا﴾ أيْ جَعَلَ قُدْرَتَنا كَقُدْرَتِهِمْ ونَسِيَ خَلْقَهُ العَجِيبَ وبَدْأهُ الغَرِيبَ، ومِنهم مَن ذَكَرَ شُبْهَةً وإنْ كانَتْ في آخِرِها تَعُودُ إلى مُجَرَّدِ الِاسْتِبْعادِ وهي عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ بَعْدَ العَدَمِ لَمْ يَبْقَ شَيْئًا فَكَيْفَ يَصِحُّ عَلى العَدَمِ الحُكْمُ بِالوُجُودِ، وأجابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يَعْنِي كَما خَلَقَ الإنْسانَ ولَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، كَذَلِكَ يُعِيدُهُ وإنْ لَمْ يَبْقَ شَيْئًا مَذْكُورًا. وثانِيها: أنَّ مَن تَفَرَّقَتْ أجْزاؤُهُ في مَشارِقِ العالَمِ ومَغارِبِهِ وصارَ بَعْضُهُ في أبْدانِ السِّباعِ وبَعْضُهُ في جُدْرانِ الرِّباعِ كَيْفَ يُجْمَعُ ؟ وأبْعَدُ مِن هَذا هو أنَّ إنْسانًا إذا أكَلَ إنْسانًا وصارَ أجْزاءُ المَأْكُولِ في أجْزاءِ الآكِلِ فَإنْ أُعِيدَ فَأجْزاءُ المَأْكُولِ، إمّا أنْ تُعادَ إلى بَدَنِ الآكِلِ فَلا يَبْقى لِلْمَأْكُولِ أجْزاءٌ تُخْلَقُ مِنها أعْضاؤُهُ، وإمّا أنْ تُعادَ إلى بَدَنِ المَأْكُولِ مِنهُ فَلا يَبْقى لِلْآكِلِ أجْزاءٌ. فَقالَ تَعالى في إبْطالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: ﴿وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ ووَجْهُهُ هو أنَّ في الآكِلِ أجْزاءً أصْلِيَّةً وأجْزاءً فَضْلِيَّةً، وفي المَأْكُولِ كَذَلِكَ، فَإذا أكَلَ إنْسانٌ إنْسانًا صارَ الأصْلِيُّ مِن أجْزاءِ المَأْكُولِ فَضْلِيًّا مِن أجْزاءِ الآكِلِ، والأجْزاءُ الأصْلِيَّةُ لِلْآكِلِ هي ما كانَ لَهُ قَبْلَ الأكْلِ ”واللَّهُ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ“ يَعْلَمُ الأصْلِيَّ مِنَ الفَضْلِيِّ فَيَجْمَعُ الأجْزاءَ الأصْلِيَّةَ لِلْمَأْكُولِ ويَنْفُخُ فِيها رُوحَهُ، وكَذَلِكَ يَجْمَعُ الأجْزاءَ المُتَفَرِّقَةَ في البِقاعِ المُبَدَّدَةِ في الأصْقاعِ بِحِكْمَتِهِ الشّامِلَةِ وقُدْرَتِهِ الكامِلَةِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عادَ إلى تَقْرِيرِ ما تَقَدَّمَ مِن دَفْعِ اسْتِبْعادِهِمْ وإبْطالِ إنْكارِهِمْ وعِنادِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب