الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ﴾ ﴿ولَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهم عَلى مَكانَتِهِمْ فَما اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ولا يَرْجِعُونَ﴾ . قَدْ ذَكَرْنا مِرارًا أنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ هو بَيْنَ الجَبْرِ والقَدَرِ وهو الطَّرِيقَةُ الوُسْطى، واللَّهُ تَعالى في كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ ما يَتَمَسَّكُ بِهِ المُجَبِّرَةُ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ما يَتَمَسَّكُ بِهِ القَدَرِيَّةُ وبِالعَكْسِ، وهَهُنا كَذَلِكَ لَمّا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وتَشْهَدُ أرْجُلُهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ وقالَ: ﴿اصْلَوْها اليَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ وكانَ ذَلِكَ مُتَمَسَّكَ القَدَرِيَّةِ حَيْثُ أسْنَدَ اللَّهُ الكُفْرَ والكَسْبَ إلَيْهِمْ وأحالَ الخَيْرَ والشَّرَّ عَلَيْهِمْ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ كُفْرَهم وكَسْبَهم بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الكُفْرَ يُعْمِي البَصِيرَةَ ويُضْعِفُ القُوَّةَ العَقْلِيَّةَ، وعَمى البَصِيرَةِ بِإرادَةِ اللَّهِ ومَشِيئَتِهِ، إذا شاءَ أعْمى البَصائِرَ، كَما أنَّهُ لَوْ شاءَ لَطَمَسَ عَلى أعْيُنِهِمُ المُبْصِرَةِ، وسَلَبَ القُوَّةَ العَقْلِيَّةَ بِاخْتِيارِهِ ومَشِيئَتِهِ، كَما أنَّ سَلْبَ القُوَّةِ الجِسْمِيَّةِ بِمَشِيئَتِهِ، حَتّى لَوْ شاءَ لَمَسَخَ المُكَلَّفَ عَلى مَكانَتِهِ وأقامَهُ بِحَيْثُ لا يَتَحَرَّكُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ولا يَقْدِرُ عَلى المُضِيِّ والرُّجُوعِ، فَإعْماءُ البَصائِرِ عِنْدَهُ كَإعْماءِ الأبْصارِ، وسَلْبُ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ كَسَلْبِ القُوَّةِ الجِسْمِيَّةِ، فَقالَ: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ لَوْ شاءَ وأرادَ إعْماءَ بَصائِرِهِمْ فَضَلُّوا، وأنَّهُ لَوْ شاءَ طَمْسَ أعْيُنِهِمْ لَما اهْتَدَوْا إلى طَرِيقَتِهِمُ الظّاهِرَةِ، وشاءَ واخْتارَ سَلْبَ قُوَّةِ عُقُولِهِمْ فَزَلُّوا، وأنَّهُ لَوْ شاءَ سَلْبَ قُوَّةِ أجْسامِهِمْ ومَسَخَهم لَما قَدَرُوا عَلى تَقَدُّمٍ ولا تَأخُّرٍ. وفي الآيَتَيْنِ أبْحاثٌ لَفْظِيَّةٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: في قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَبَقُوا الصِّراطَ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ يَكُونُ فِيهِ حَذْفُ حَرْفِ إلى واتِّصالُ الفِعْلِ مِن غَيْرِ حَرْفٍ، وأصْلُهُ فاسْتَبَقُوا إلى الصِّراطِ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الِاسْتِباقِ الِابْتِدارَ فَأعْمَلَهُ إعْمالَ الِابْتِدارِ. الثّالِثُ: يُقالُ: أنْ يَجْعَلَ الصِّراطَ مُسْتَبِقًا لا مُسْتَبَقًا إلَيْهِ، يُقالُ اسْتَبَقْنا فَسَبَقْتُهم وحِينَئِذٍ يَكُونُ مُبالَغَةً في الِاهْتِداءِ إلى الطَّرِيقِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: الصِّراطُ الَّذِي هو مَعَهم لَيْسُوا طالِبِينَ لَهُ قاصِدِينَ إيّاهُ، وإنَّما هم عَلَيْهِ إذا طَمَسَ اللَّهُ عَلى أعْيُنِهِمْ لا يُبْصِرُونَهُ، فَكَيْفَ إنْ لَمْ يَكُونُوا عَلى الصِّراطِ. البَحْثُ الثّانِي: قَدَّمَ الطَّمْسَ والإعْمارَ عَلى المَسْخِ والإعْجازِ لِيَكُونَ الكَلامُ مُدَرَّجًا، كَأنَّهُ قالَ: إنْ أعْماهم لَمْ يَرَوُا الطَّرِيقَ الَّذِي هم عَلَيْهِ وحِينَئِذٍ لا يَهْتَدُونَ إلَيْهِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: الأعْمى قَدْ يَهْتَدِي إلى الطَّرِيقِ (p-٩١)بِأماراتٍ عَقْلِيَّةٍ أوْ حِسِّيَّةٍ غَيْرِ حِسِّ البَصَرِ كالأصْواتِ والمَشْيِ بِحِسِّ اللَّمْسِ، فارْتَقى وقالَ: فَلَوْ مَسَخَهم وسَلَبَ قُوَّتَهم بِالكُلِّيَّةِ لا يَهْتَدُونَ إلى الصِّراطِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَدَّمَ المُضِيَّ عَلى الرُّجُوعِ؛ لِأنَّ الرُّجُوعَ أهْوَنُ مِنَ المُضِيِّ؛ لِأنَّ المُضِيَّ لا يُنْبِئُ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ مِن قَبْلُ، وأمّا الرُّجُوعُ فَيُنْبِئُ عَنْهُ، ولا شَكَّ أنَّ سُلُوكَ طَرِيقٍ قَدْ رُؤِيَ مَرَّةً أهْوَنُ مِن سُلُوكِ طَرِيقٍ لَمْ يُرَ، فَقالَ: (﴿فَما اسْتَطاعُوا مُضِيًّا﴾ [يس: ٦٧] ولا أقَلَّ مِن ذَلِكَ وهو الرُّجُوعُ الَّذِي هو أهْوَنُ مِنَ المُضِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب