الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ وتُكَلِّمُنا أيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أرْجُلُهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ في التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهم حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ يُرِيدُونَ [ أنْ ] يُنْكِرُوا كُفْرَهم كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ما أشْرَكْنا، وقالُوا آمَنّا بِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلى أفْواهِهِمْ فَلا يَقْدِرُونَ عَلى الإنْكارِ ويُنْطِقُ اللَّهُ غَيْرَ لِسانِهِمْ مِنَ الجَوارِحِ فَيَعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ.
الثّانِي: لَمّا قالَ اللَّهُ تَعالى لَهم: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ﴾ لَمْ يَكُنْ لَهم جَوابٌ فَسَكَتُوا وخَرِسُوا وتَكَلَّمَتْ أعْضاؤُهم غَيْرَ اللِّسانِ، وفي الخَتْمِ عَلى الأفْواهِ وُجُوهٌ:
أقْواها، أنَّ اللَّهَ تَعالى يُسْكِتُ ألْسِنَتَهم فَلا يَنْطِقُونَ بِها ويُنْطِقُ جَوارِحَهم فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، وإنَّهُ في قُدْرَةِ اللَّهِ يَسِيرٌ، أمّا الإسْكاتُ فَلا خَفاءَ فِيهِ، وأمّا الإنْطاقُ فَلِأنَّ اللِّسانَ عُضْوٌ مُتَحَرِّكٌ بِحَرَكَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَكَما جازَ تَحَرُّكُهُ بِها جازَ تَحَرُّكُ غَيْرِهِ بِمِثْلِها، واللَّهُ قادِرٌ عَلى المُمْكِناتِ، والوَجْهُ الآخَرُ أنَّهم لا يَتَكَلَّمُونَ بِشَيْءٍ لِانْقِطاعِ أعْذارِهِمْ وانْتِهاكِ أسْتارِهِمْ، فَيَقِفُونَ ناكِسِي الرُّءُوسِ وُقُوفَ القَنُوطِ اليَئُوسِ لا يَجِدُ عُذْرًا فَيَعْتَذِرُ ولا مَجالَ تَوْبَةٍ فَيَسْتَغْفِرُ، وتَكَلُّمُ الأيْدِي ظُهُورُ الأُمُورِ بِحَيْثُ لا يَسَعُ مَعَهُ الإنْكارُ حَتّى تَنْطِقَ بِهِ الأيْدِي والأبْصارُ، كَما يَقُولُ القائِلُ: الحِيطانُ تَبْكِي عَلى صاحِبِ الدّارِ، إشارَةً إلى ظُهُورِ الحُزْنِ، والأوَّلُ الصَّحِيحُ وفِيهِ لَطائِفُ لَفْظِيَّةٌ ومَعْنَوِيَّةٌ.
أمّا اللَّفْظِيَّةُ فالأُولى مِنها: هي أنَّ اللَّهَ تَعالى أسْنَدَ فِعْلَ الخَتْمِ إلى نَفْسِهِ وقالَ: ﴿نَخْتِمُ﴾ وأسْنَدَ الكَلامَ والشَّهادَةَ إلى الأيْدِي والأرْجُلِ؛ لِأنَّهُ لَوْ قالَ تَعالى: ﴿نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ﴾ وتَنْطِقُ أيْدِيهِمْ يَكُونُ فِيهِ احْتِمالُ أنَّ ذَلِكَ مِنهم كانَ جَبْرًا وقَهْرًا، والإقْرارُ بِالإجْبارِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَقالَ تَعالى: ﴿وتُكَلِّمُنا أيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ﴾ أيْ بِاخْتِيارِها بَعْدَما يُقْدِرُها اللَّهُ - تَعالى - عَلى الكَلامِ لِيَكُونَ أدَلَّ عَلى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنهم.
الثّانِيَةُ مِنها: هي أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿وتُكَلِّمُنا أيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ﴾ جَعَلَ الشَّهادَةَ لِلْأرْجُلِ والكَلامَ لِلْأيْدِي؛ لِأنَّ الأفْعالَ تُسْنَدُ إلى الأيْدِي قالَ تَعالى: ﴿وما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ﴾ [يس: ٣٥] أيْ ما عَمِلُوهُ وقالَ: ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] أيْ ولا تُلْقُوا بِأنْفُسِكم فَإذًا الأيْدِي كالعامِلَةِ، والشّاهِدُ عَلى العامِلِ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، فَجَعَلَ الأرْجُلَ والجُلُودَ مِن جُمْلَةِ الشُّهُودِ لِبُعْدِ إضافَةِ الأفْعالِ إلَيْها.
وأمّا المَعْنَوِيَّةُ فالأُولى مِنها: أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ مَن تُقْبَلُ شَهادَتُهُ مِنَ المُقَرَّبِينَ والصِّدِّيقِينَ كُلُّهم أعْداءٌ لِلْمُجْرِمِينَ وشَهادَةُ العَدُوِّ عَلى العَدُوِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وإنْ كانَ مِنَ الشُّهُودِ العُدُولِ وغَيْرِ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الكُفّارِ والفُسّاقِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهادَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الشّاهِدَ عَلَيْهِمْ مِنهم، لا يُقالُ الأيْدِي والأرْجُلُ أيْضًا صَدَرَتِ الذُّنُوبُ مِنها فَهي فَسَقَةٌ فَيَنْبَغِي أنْ لا تُقْبَلَ شَهادَتُها، لِأنّا نَقُولُ: في رَدِّ شَهادَتِها قَبُولُ شَهادَتِها؛ لِأنَّها إنْ كَذَبَتْ في مِثْلِ ذَلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ مِنها في ذَلِكَ اليَوْمِ، والمُذْنِبُ في ذَلِكَ اليَوْمِ مَعَ ظُهُورِ الأُمُورِ، لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ مُذْنِبًا في الدُّنْيا، وإنْ صَدَقَتْ في ذَلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ صَدَرَ مِنها الذَّنْبُ في الدُّنْيا، وهَذا كَمَن قالَ لِفاسِقٍ: إنْ كَذَبْتَ في نَهارِ هَذا اليَوْمِ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَقالَ الفاسِقُ: كَذَبْتُ في نَهارِ (p-٩٠)هَذا اليَوْمِ، عَتَقَ العَبْدُ؛ لِأنَّهُ إنْ صَدَقَ في قَوْلِهِ: كَذَبْتُ في نَهارِ هَذا اليَوْمِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ ووَجَبَ الجَزاءُ، وإنْ كَذَبَ في قَوْلِهِ: كَذَبْتُ فَقَدْ كَذَبَ في نَهارِ ذَلِكَ اليَوْمِ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ أيْضًا بِخِلافِ ما لَوْ قالَ في اليَوْمِ الثّانِي كَذَبْتُ في نَهارِ اليَوْمِ الَّذِي عَلَّقْتَ عِتْقَ عَبْدِكَ عَلى كَذِبِي فِيهِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الخَتْمُ لازِمٌ الكُفّارَ في الدُّنْيا عَلى قُلُوبِهِمْ وفي الآخِرَةِ عَلى أفْواهِهِمْ، فَفي الوَقْتِ الَّذِي كانَ الخَتْمُ عَلى قُلُوبِهِمْ كانَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ﴾ [التوبة: ٣٠] فَلَمّا خُتِمَ عَلى أفْواهِهِمْ أيْضًا لَزِمَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم بِأعْضائِهِمْ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لا يَمْلِكُ غَيْرَ القَلْبِ واللِّسانِ والأعْضاءِ، فَإذا لَمْ يَبْقَ القَلْبُ والفَمُ تَعَيَّنَ الجَوارِحُ والأرْكانُ.
{"ayah":"ٱلۡیَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰۤ أَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَاۤ أَیۡدِیهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق