الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَن لا يَسْألُكم أجْرًا وهم مُهْتَدُونَ﴾ وهَذا في غايَةِ الحُسْنِ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ﴾ كَأنَّهم مَنَعُوا كَوْنَهم مُرْسَلِينَ، فَنَزَلَ دَرَجَةً وقالَ: لا شَكَّ أنَّ الخَلْقَ في الدُّنْيا سالِكُونَ طَرِيقَةً وطالِبُونَ لِلِاسْتِقامَةِ، والطَّرِيقُ إذا حَصَلَ فِيهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ يَجِبُ اتِّباعُهُ، والِامْتِناعُ مِنَ الِاتِّباعِ لا يَحْسُنُ إلّا عِنْدَ أحَدِ أمْرَيْنِ: إمّا مُغالاةِ الدَّلِيلِ في طَلَبِ الأُجْرَةِ، وإمّا عِنْدَ عَدَمِ الِاعْتِمادِ عَلى اهْتِدائِهِ ومَعْرِفَتِهِ الطَّرِيقَ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ لا يَطْلُبُونَ أُجْرَةً وهم مُهْتَدُونَ عالِمُونَ بِالطَّرِيقَةِ المُسْتَقِيمَةِ المُوصِلَةِ إلى الحَقِّ، فَهَبْ أنَّهم لَيْسُوا بِمُرْسَلِينَ هادِينَ، ألَيْسُوا بِمُهْتَدِينَ ؟ فاتَّبِعُوهم.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ لَمّا قالَ: ﴿وهم مُهْتَدُونَ﴾ بَيَّنَ ظُهُورَ اهْتِدائِهِمْ بِأنَّهم يُدْعَوْنَ مِن عِبادَةِ الجَمادِ إلى عِبادَةِ الحَيِّ القَيُّومِ، ومِن عِبادَةِ ما لا يَنْفَعُ إلى عِبادَةِ مَن مِنهُ كُلُّ نَفْعٍ.
وفِيهِ لَطائِفُ:
الأُولى: قَوْلُهُ: (ما لِيَ) أيْ ما لِي مانِعٌ مِن جانِبِي. إشارَةٌ إلى أنَّ الأمْرَ مِن جِهَةِ المَعْبُودِ ظاهِرٌ لا خَفاءَ فِيهِ، فَمَن يَمْتَنِعُ مِن عِبادَتِهِ يَكُونُ مِن جانِبِهِ مانِعٌ، ولا مانِعَ مِن جانِبِي فَلا جَرَمَ عَبَدْتُهُ، وفي العُدُولِ عَنْ مُخاطَبَةِ القَوْمِ إلى حالِ نَفْسِهِ حِكْمَةٌ أُخْرى.
ولَطِيفَةٌ ثانِيَةٌ: وهي أنَّهُ لَوْ قالَ: ما لَكم لا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكم، لَمْ يَكُنْ في البَيانِ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿وما لِيَ﴾ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿وما لِيَ﴾ وأحَدٌ لا يَخْفى عَلَيْهِ حالُ نَفْسِهِ عَلِمَ كُلُّ أحَدٍ أنَّهُ لا يَطْلُبُ العِلَّةَ وبَيانَها مِن أحَدٍ لِأنَّهُ أعْلَمُ بِحالِ نَفْسِهِ فَهو يُبَيِّنُ عَدَمَ المانِعِ، وأمّا لَوْ قالَ: (ما لَكم) جازَ أنْ يُفْهَمَ مِنهُ أنَّهُ يَطْلُبُ بَيانَ العِلَّةِ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أعْلَمَ بِحالِ نَفْسِهِ، فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ: ﴿ما لَكم لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقارًا﴾ (نُوحٍ: ١٣) نَقُولُ: القائِلُ هُناكَ غَيْرُ مَدْعُوٍّ، وإنَّما هو داعٍ وهَهُنا الرَّجُلُ مَدْعُوٌّ إلى الإيمانِ، فَقالَ ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ﴾ وقَدْ طُلِبَ مِنِّي ذَلِكَ.
الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ إشارَةٌ إلى وُجُودِ المُقْتَضى، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما لِيَ﴾ إشارَةٌ إلى عَدَمِ المانِعِ (p-٥٠)وعِنْدَ عَدَمِ المانِعِ لا يُوجَدُ الفِعْلُ ما لَمْ يُوجَدِ المُقْتَضى، فَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ يُنْبِئُ عَنِ الِاقْتِضاءِ، فَإنَّ الخالِقَ ابْتِداءً مالِكٌ، والمالِكُ يَجِبُ عَلى المَمْلُوكِ إكْرامُهُ وتَعْظِيمُهُ، ومُنْعِمٌ بِالإيجادِ والمُنْعِمُ يَجِبُ عَلى المُنْعَمِ شُكْرُ نِعْمَتِهِ.
الرّابِعَةُ: قَدَّمَ بَيانَ عَدَمِ المانِعِ عَلى بَيانِ وُجُودِ المُقْتَضى مَعَ أنَّ المُسْتَحْسَنَ تَقْدِيمُ المُقْتَضى حَيْثُ وُجِدَ المُقْتَضِي ولا مانِعَ، فَيُوجَدُ لِأنَّ المُقْتَضى لِظُهُورِهِ كانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ البَيانِ رَأْسًا فَلا أقَلَّ مِن تَقْدِيمِ ما هو أوْلى بِالبَيانِ لِوُجُودِ الحاجَةِ إلَيْهِ.
الخامِسَةُ: اخْتارَ مِنَ الآياتِ فِطْرَةَ نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ﴾ بِإسْنادِ العِبادَةِ إلى نَفْسِهِ اخْتارَ ما هو أقْرَبُ إلى إيجابِ العِبادَةِ عَلى نَفْسِهِ، وبَيانُ ذَلِكَ هو أنَّ خالِقَ عَمْرٍو يَجِبُ عَلى زَيْدٍ عِبادَتُهُ لِأنَّ مَن خَلَقَ عَمْرًا لا يَكُونُ إلّا كامِلَ القُدْرَةِ شامِلَ العِلْمِ واجِبَ الوُجُودِ، وهو مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ مُكَلَّفٍ، لَكِنَّ العِبادَةَ عَلى زَيْدٍ بِخَلْقِ زَيْدٍ أظْهَرُ إيجابًا.
واعْلَمْ أنَّ المَشْهُورَ في قَوْلِهِ: ﴿فَطَرَنِي﴾ خَلَقَنِي اخْتِراعًا وابْتِداعًا، والغَرِيبُ فِيهِ أنْ يُقالَ: ﴿فَطَرَنِي﴾ أيْ جَعَلَنِي عَلى الفِطْرَةِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ (الرُّومِ: ٣) وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ﴾ أيْ لَمْ يُوجَدْ في مانِعٌ فَأنا باقٍ عَلى فِطْرَةِ رَبِّي، الفِطْرَةُ كافِيَةٌ في الشَّهادَةِ والعِبادَةِ، فَإنْ قِيلَ: فَعَلى هَذا يَخْتَلِفُ مَعْنى الفَطْرِ في قَوْلِهِ: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ﴾ (الأنْعامِ: ١٤) فَنَقُولُ قَدْ قِيلَ بِأنَّ (فاطِرِ السَّماواتِ ) مِنَ الفَطْرِ الَّذِي هو الشَّقُّ فالمَحْذُورُ لازِمٌ، أوْ نَقُولُ: المَعْنى فِيهِما واحِدٌ كَأنَّهُ قالَ: فَطَرَ المُكَلَّفَ عَلى فِطْرَتِهِ وفَطَرَ السَّماواتِ عَلى فِطْرَتِها، والأوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ أظْهَرُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إشارَةٌ إلى الخَوْفِ والرَّجاءِ كَما قالَ: ادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا، وذَلِكَ لِأنَّ مَن يَكُونُ إلَيْهِ المَرْجِعُ يُخافُ مِنهُ ويُرْجى، وفِيهِ أيْضًا مَعْنًى لَطِيفٌ، وهو أنَّ العابِدَ عَلى أقْسامٍ ثَلاثَةٍ ذَكَرْناها مِرارًا.
فالأوَّلُ: عابِدٌ يَعْبُدُ اللَّهَ، لِكَوْنِهِ إلَهًا مالِكًا سَواءٌ أنْعَمَ بَعْدَ ذَلِكَ أوْ لَمْ يُنْعِمْ، كالعَبْدِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ سَيِّدِهِ سَواءٌ أحْسَنَ إلَيْهِ أوْ أساءَ.
والثّانِي: عابِدٌ يَعْبُدُ اللَّهَ لِلنِّعْمَةِ الواصِلَةِ إلَيْهِ.
والثّالِثُ: عابِدٌ يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا.
مِثالُ الأوَّلِ: مَن يَخْدِمُ الجَوادَ.
ومِثالُ الثّانِي: مَن يَخْدِمُ الغاشِمَ، فَجَعَلَ القائِلُ نَفْسَهُ مِنَ القِسْمِ الأعْلى، وقالَ: ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ هو مالِكِي أعْبُدُهُ لِأنْظُرَ إلى ما سَيُعْطِينِي، ولِأنْظُرَ إلى أنْ لا يُعَذِّبَنِي، وجَعَلَهم دُونَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أيْ خَوْفُكم مِنهُ ورَجاؤُكم فِيهِ فَكَيْفَ لا تَعْبُدُونَهُ ؟ ولِهَذا لَمْ يَقُلْ: وإلَيْهِ أرْجِعُ، كَما قالَ فَطَرَنِي؛ لِأنَّهُ صارَ عابِدًا مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ، فَرُجُوعُهُ إلى اللَّهِ لا يَكُونُ إلّا لِلْإكْرامِ، ولَيْسَ سَبَبُ عِبادَتِهِ ذَلِكَ بَلْ غَيْرُهُ.
{"ayahs_start":21,"ayahs":["ٱتَّبِعُوا۟ مَن لَّا یَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرࣰا وَهُم مُّهۡتَدُونَ","وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"],"ayah":"وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق