الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ: ﴿وما عَلَيْنا إلّا البَلاغُ المُبِينُ﴾ تَسْلِيَةٌ لِأنْفُسِهِمْ، أيْ نَحْنُ خَرَجْنا عَنْ عُهْدَةِ ما عَلَيْنا، وحَثًّا لَهم عَلى النَّظَرِ، فَإنَّهم لَمّا قالُوا: ﴿وما عَلَيْنا إلّا البَلاغُ﴾ كانَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَفَكُّرَهم في أمْرِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَطْلُبُوا مِنهم أجْرًا ولا قَصَدُوا رِياسَةً، وإنَّما كانَ شُغْلُهُمُ التَّبْلِيغَ والذِّكْرَ، وذَلِكَ مِمّا يَحْمِلُ العاقِلَ عَلى النَّظَرِ و﴿المُبِينُ﴾ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: أحَدُها: البَلاغُ المُبِينُ لِلْحَقِّ عَنِ الباطِلِ، أيِ الفارِقُ بِالمُعْجِزَةِ والبُرْهانِ. وثانِيها: البَلاغُ المُظْهِرُ لِما أرْسَلْنا لِلْكُلِّ، أيْ لا يَكْفِي أنْ نُبَلِّغَ الرِّسالَةَ إلى شَخْصٍ أوْ شَخْصَيْنِ. وثالِثُها: البَلاغُ المُظْهِرُ لِلْحَقِّ بِكُلِّ ما يُمْكِنُ، فَإذا تَمَّ ذَلِكَ ولَمْ يَقْبَلُوا يَحِقُّ هُنالِكَ الهَلاكُ. ثُمَّ كانَ جَوابُهم بَعْدَ هَذا أنَّهم ﴿قالُوا إنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ﴾ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا ظَهَرَ مِنَ الرُّسُلِ المُبالَغَةُ في البَلاغِ ظَهَرَ مِنهُمُ الغُلُوُّ في التَّكْذِيبِ، فَلَمّا قالَ المُرْسَلُونَ: ﴿إنّا إلَيْكم مُرْسَلُونَ﴾ قالُوا: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا تَكْذِبُونَ﴾ ولَمّا أكَّدَ الرُّسُلُ قَوْلَهم بِاليَمِينِ حَيْثُ قالُوا: ﴿رَبُّنا يَعْلَمُ﴾ أكَّدُوا قَوْلَهم بِالتَّطَيُّرِ بِهِمْ فَكَأنَّهم قالُوا في الأوَّلِ: كُنْتُمْ كاذِبِينَ، وفي الثّانِي: صِرْتُمْ مُصِرِّينَ عَلى الكَذِبِ، حالِفِينَ مُقْسِمِينَ عَلَيْهِ، و”«اليَمِينُ الكاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيارَ بَلاقِعَ» “ فَتَشاءَمْنا بِكم ثانِيًا، وفي الأوَّلِ كَما تَرَكْتُمْ فَفي الثّانِي لا نَتْرُكُكم لِكَوْنِ الشُّؤْمِ مُدْرِكَنا بِسَبَبِكم، فَقالُوا: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكم ولَيَمَسَّنَّكم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ وقَوْلُهُ: لَنَرْجُمَنَّكم يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: لَنَشْتِمَنَّكم مِنَ الرَّجْمِ بِالقَوْلِ، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿ولَيَمَسَّنَّكُمْ﴾ تَرَقٍّ كَأنَّهم قالُوا: ولا يَكْتَفِي بِالشَّتْمِ، بَلْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى الضَّرْبِ والإيلامِ الحِسِّيِّ. وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ المُرادُ الرَّجْمَ بِالحِجارَةِ، وحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ: ﴿ولَيَمَسَّنَّكُمْ﴾ بَيانٌ لِلرَّجْمِ، يَعْنِي: ولا يَكُونُ الرَّجْمُ رَجْمًا قَلِيلًا نَرْجُمُكم بِحَجَرٍ وحَجَرَيْنِ، بَلْ نُدِيمُ ذَلِكَ عَلَيْكم إلى المَوْتِ، وهو عَذابٌ ألِيمٌ، ويَكُونُ المُرادُ ﴿لَنَرْجُمَنَّكم ولَيَمَسَّنَّكُمْ﴾ بِسَبَبِ الرَّجْمِ عَذابٌ مِنّا ألِيمٌ، وقَدْ ذَكَرْنا في الألِيمِ أنَّهُ بِمَعْنى المُؤْلِمِ، والفَعِيلُ بِمَعْنى مُفْعِلٍ قَلِيلٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: هو مِن بابِ قَوْلِهِ: ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ (الحاقَّةِ: ٢١) أيْ ذاتِ رِضًا، فالعَذابُ الألِيمُ هو ذُو ألَمٍ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنى فاعِلٍ وهو كَثِيرٌ. ثُمَّ أجابَهُمُ المُرْسَلُونَ بِقَوْلِهِمْ: ﴿قالُوا طائِرُكم مَعَكُمْ﴾ أيْ شُؤْمُكم مَعَكم، وهو الكُفْرُ. ثُمَّ قالُوا: ﴿أئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ جَوابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ يَعْنِي أتَفْعَلُونَ بِنا ذَلِكَ، وإنْ ذُكِّرْتُمْ أيْ بَيَّنَ لَكُمُ الأمْرَ بِالمُعْجِزِ والبُرْهانِ ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ حَيْثُ تَجْعَلُونَ مَن يُتَبَرَّكُ بِهِ كَمَن يُتَشاءَمُ بِهِ وتَقْصِدُونَ إيلامَ مَن يَجِبُ في حَقِّهِ الإكْرامُ أوْ (مُسْرِفُونَ) حَيْثُ تَكْفُرُونَ، ثُمَّ تُصِرُّونَ بَعْدَ ظُهُورِ الحَقِّ بِالمُعْجِزِ والبُرْهانِ، (p-٤٨)فَإنَّ الكافِرَ مُسِيءٌ، فَإذا تَمَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وأُوضِحَ لَهُ السَّبِيلُ ويُصِرُّ يَكُونُ مُسْرِفًا، والمُسْرِفُ هو المُجاوِزُ الحَدَّ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الضِّدَّ، وهم كانُوا كَذَلِكَ في كَثِيرٍ مِنَ الأشْياءِ، أمّا في التَّبَرُّكِ والتَّشاؤُمِ فَقَدْ عُلِمَ، وكَذَلِكَ في الإيلامِ والإكْرامِ، وأمّا في الكُفْرِ فَلِأنَّ الواجِبَ اتِّباعُ الدَّلِيلِ، فَإنْ لَمْ يُوجَدْ بِهِ فَلا أقَلَّ مِن أنْ لا يُجْزَمَ بِنَقِيضِهِ وهم جَزَمُوا بِالكُفْرِ بَعْدَ البُرْهانِ عَلى الإيمانِ، فَإنْ قِيلَ: بَلْ لِلْإضْرابِ فَما الأمْرُ المُضْرَبُ عَنْهُ ؟ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: قَوْلُهُ: ﴿أئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ وارِدٌ عَلى تَكْذِيبِهِمْ ونِسْبَتِهِمُ الرُّسُلَ إلى الكَذِبِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا تَكْذِبُونَ﴾ فَكَأنَّهم قالُوا: أنَحْنُ كاذِبُونَ وإنْ جِئْنا بِالبُرْهانِ، لا ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: أنَحْنُ مَشْؤُومُونَ، وإنْ جِئْنا بِبَيانِ صِحَّةِ ما نَحْنُ عَلَيْهِ، لا ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: أنَحْنُ مُسْتَحِقُّونَ لِلرَّجْمِ والإيلامِ، وإنْ بَيَّنّا صِحَّةَ ما أتَيْنا بِهِ، لا ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ وأمّا الحِكايَةُ فَمَشْهُورَةٌ، وهي أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ إلى أنْطاكِيَّةَ فَدَعَيا إلى التَّوْحِيدِ وأظْهَرا المُعْجِزَةَ مِن إبْراءِ الأكْمَهِ والأبْرَصِ وإحْياءِ المَوْتى فَحَبَسَهُما المَلِكُ، فَأرْسَلَ بَعْدَهُما شَمْعُونَ فَأتى المَلِكَ ولَمْ يَدَعِ الرِّسالَةَ، وقَرَّبَ نَفْسَهُ إلى المَلِكِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ، ثُمَّ قالَ لَهُ: إنِّي أسْمَعُ أنَّ في الحَبْسِ رَجُلَيْنِ يَدَّعِيانِ أمْرًا بَدِيعًا، أفَلا يَحْضُرانِ حَتّى نَسْمَعَ كَلامَهُما ؟ قالَ المَلِكُ: بَلى، فَأُحْضِرا وذَكَرا مَقالَتَهُما الحَقَّةَ، فَقالَ لَهُما شَمْعُونُ: فَهَلْ لَكَما بَيِّنَةٌ ؟ قالا: نَعَمْ، فَأبْرَآ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأحْيَيا المَوْتى، فَقالَ شَمْعُونُ: أيُّها المَلِكُ، إنْ شِئْتَ أنْ تَغْلِبَهم، فَقُلْ لِلْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَها تَفْعَلْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، قالَ المَلِكُ: أنْتَ لا يَخْفى عَلَيْكَ أنَّها لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَعُ ولا تَقْدِرُ ولا تَعْلَمُ، فَقالَ شَمْعُونُ: فَإذَنْ ظَهَرَ الحَقُّ مِن جانِبِهِمْ، فَآمَنَ المَلِكُ وقَوْمٌ، وكَفَرَ آخَرُونَ، وكانَتِ الغَلَبَةُ لِلْمُكَذِّبِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب