الباحث القرآني
وقَوْلُهُ: ﴿إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما﴾
(p-٤٦)فِي بَعْثَةِ الِاثْنَيْنِ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وهي أنَّهُما كانا مَبْعُوثَيْنِ مِن جِهَةِ عِيسى بِإذْنِ اللَّهِ، فَكانَ عَلَيْهِما إنْهاءُ الأمْرِ إلى عِيسى والإتْيانُ بِما أمَرَ اللَّهُ، واللَّهُ عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لا يَحْتاجُ إلى شاهِدٍ يَشْهَدُ عِنْدَهُ، وأمّا عِيسى فَهو بَشَرٌ فَأمَرَهُ اللَّهُ بِإرْسالِ اثْنَيْنِ لِيَكُونَ قَوْلُهُما عَلى قَوْمِهِما عِنْدَ عِيسى حُجَّةً تامَّةً.
وقَوْلُهُ: ﴿فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ﴾ أيْ قَوَّيْنا وقُرِئَ: فَعَزَزْنا بِثالِثٍ مُخَفَّفًا، مِن عَزَّ إذا غَلَبَ، فَكَأنَّهُ قالَ: فَغَلَبْنا نَحْنُ وقَهَرْنا بِثالِثٍ، والأوَّلُ أظْهَرُ وأشْهَرُ، وتُرِكَ المَفْعُولُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَعَزَّزْناهُما لِمَعْنًى لَطِيفٍ، وهو أنَّ المَقْصُودَ مِن بَعْثِهِما نُصْرَةُ الحَقِّ لا نُصْرَتُهُما، والكُلُّ مُقَوُّونَ لِلدِّينِ المَتِينِ بِالبُرْهانِ المُبِينِ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: النَّبِيُّ ﷺ بَعَثَ رُسُلَهُ إلى الأطْرافِ واكْتَفى بِواحِدٍ، وعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَعَثَ اثْنَيْنِ، نَقُولُ: النَّبِيُّ بَعَثَ لِتَقْرِيرِ الفُرُوعِ وهو دُونَ الأصْلِ، فاكْتَفى بِواحِدٍ، فَإنَّ خَبَرَ الواحِدِ في الفُرُوعِ مَقْبُولٌ، وأمّا هُما فَبُعِثا بِالأُصُولِ، وجَعَلَ لَهُما مُعْجِزَةً تُفِيدُ اليَقِينَ، وإلّا لَما كَفى إرْسالُ اثْنَيْنِ أيْضًا، ولا ثَلاثَةٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ اللَّهُ تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ﴾ (القَصَصِ: ٣٥) فَذَكَرَ المَفْعُولَ هُناكَ، ولَمْ يَذْكُرْهُ هَهُنا مَعَ أنَّ المَقْصُودَ هُناكَ أيْضًا نُصْرَةُ الحَقِّ، نَقُولُ: مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أفْضَلَ مِن هارُونَ، وهارُونُ بُعِثَ مَعَهُ بِطَلَبِهِ حَيْثُ قالَ: ﴿فَأرْسِلْهُ مَعِيَ﴾ (القَصَصِ: ٣٤) فَكانَ هارُونُ مَبْعُوثًا لِيُصَدِّقَ مُوسى فِيما يَقُولُ ويَقُومُ بِما يَأْمُرُهُ، وأمّا هُما فَكُلُّ واحِدٍ مُسْتَقِلٌّ ناطِقٌ بِالحَقِّ، فَكانَ هُناكَ المَقْصُودُ تَقْوِيَةَ مُوسى وإرْسالَ مَن يُؤْنِسُ مَعَهُ وهو هارُونُ، وأمّا هَهُنا فالمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ الحَقِّ فَظَهَرَ الفَرْقُ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ ما جَرى مِنهم وعَلَيْهِمْ مِثْلُ ما جَرى مِن مُحَمَّدٍ ﷺ، وعَلَيْهِ فَقالُوا: ﴿إنّا إلَيْكم مُرْسَلُونَ﴾ كَما قالَ: ﴿إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ (البَقَرَةِ: ٢٥٢) وبَيَّنَ ما قالَ القَوْمُ بِقَوْلِهِ: ﴿قالُوا ما أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا وما أنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ﴾ جَعَلُوا كَوْنَهم بَشَرًا مِثْلَهم دَلِيلًا عَلى عَدَمِ الإرْسالِ، وهَذا عامٌّ مِنَ المُشْرِكِينَ قالُوا في حَقِّ مُحَمَّدٍ: ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ (ص: ٨) وإنَّما ظَنُّوهُ دَلِيلًا بِناءً عَلى أنَّهم لَمْ يَعْتَقِدُوا في اللَّهِ الِاخْتِيارَ، وإنَّما قالُوا فِيهِ: إنَّهُ مُوجِبٌ بِالذّاتِ، وقَدِ اسْتَوَيْنا في البَشَرِيَّةِ فَلا يُمْكِنُ الرُّجْحانُ، واللَّهُ تَعالى رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهم بِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ (الأنْعامِ: ١٢٤) وبِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ﴾ (الشُّورى: ١٣) إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿وما أنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِما ذَكَرُوهُ، فَيَكُونُ الكُلُّ شُبْهَةً واحِدَةً، ووَجْهُهُ هو أنَّهم قالُوا: أنْتُمْ بَشَرٌ فَما نَزَلْتُمْ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وما أنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكم أحَدًا، فَكَيْفَ صِرْتُمْ رُسُلًا لِلَّهِ ؟
وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ هَذا شُبْهَةً أُخْرى مُسْتَقِلَّةً، ووَجْهُهُ هو أنَّهم لَمّا قالُوا: أنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنا فَلا يَجُوزُ رُجْحانُكم عَلَيْنا ذَكَرُوا الشُّبْهَةَ مِن جِهَةِ النَّظَرِ إلى المُرْسَلِينَ، ثُمَّ قالُوا: شُبْهَةٌ أُخْرى مِن جِهَةِ المُرْسِلِ، وهو أنَّهُ تَعالى لَيْسَ بِمُنَزِّلٍ شَيْئًا في هَذا العالَمِ، فَإنَّ تَصَرُّفَهُ في العالَمِ العُلْوِيِّ ولِلْعُلْوِيّاتِ التَّصَرُّفُ في السُّفْلِيّاتِ عَلى مَذْهَبِهِمْ، فاللَّهُ تَعالى لَمْ يُنَزِّلْ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ في الدُّنْيا فَكَيْفَ أنْزَلَ إلَيْكم ؟ وقَوْلُهُ: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ إشارَةٌ إلى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، لِأنَّ اللَّهَ لَمّا كانَ رَحْمَنَ الدُّنْيا، والإرْسالُ رَحْمَةٌ، فَكَيْفَ لا يُنْزِلُ رَحْمَتَهُ وهو رَحْمَنٌ ؟ فَقالَ: إنَّهم قالُوا: ما أنْزَلَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا، وكَيْفَ لا يُنْزِلُ الرَّحْمَنُ مَعَ كَوْنِهِ رَحْمانًا شَيْئًا، هو الرَّحْمَةُ الكامِلَةُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا تَكْذِبُونَ﴾ أيْ ما أنْتُمْ إلّا كاذِبِينَ.
﴿قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إنّا إلَيْكم لَمُرْسَلُونَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ بِمُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ لَمْ يَسْأمُوا ولَمْ يَتْرُكُوا، بَلْ أعادُوا (p-٤٧)ذَلِكَ لَهم، وكَرَّرُوا القَوْلَ عَلَيْهِمْ، وأكَّدُوهُ بِاليَمِينِ، و﴿قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إنّا إلَيْكم لَمُرْسَلُونَ﴾ وأكَّدُوهُ بِاللّامِ، لِأنَّ (يَعْلَمُ اللَّهُ) يَجْرِي مَجْرى القَسَمِ، لِأنَّ مَن يَقُولُ: يَعْلَمُ اللَّهُ فِيما لا يَكُونُ فَقَدْ نَسَبَ اللَّهَ إلى الجَهْلِ وهو سَبَبُ العِقابِ، كَما أنَّ الحِنْثَ سَبَبُهُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿رَبُّنا يَعْلَمُ﴾ إشارَةٌ إلى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قالُوا: أنْتُمْ بَشَرٌ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ إذا كانَ يَعْلَمُ أنَّهم لَمُرْسَلُونَ، يَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ (الأنْعامِ: ١٢٤) يَعْنِي هو عالِمٌ بِالأُمُورِ وقادِرٌ، فاخْتارَنا بِعِلْمِهِ لِرِسالَتِهِ.
{"ayahs_start":14,"ayahs":["إِذۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱثۡنَیۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثࣲ فَقَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَیۡكُم مُّرۡسَلُونَ","قَالُوا۟ مَاۤ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا وَمَاۤ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مِن شَیۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ","قَالُوا۟ رَبُّنَا یَعۡلَمُ إِنَّاۤ إِلَیۡكُمۡ لَمُرۡسَلُونَ"],"ayah":"إِذۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱثۡنَیۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثࣲ فَقَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَیۡكُم مُّرۡسَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق