الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتى ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهم وكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْناهُ في إمامٍ مُبِينٍ﴾ . فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ: أحَدُها: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الرِّسالَةَ، وهو أصْلٌ مِنَ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِها المُكَلَّفُ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ذَكَرَ أصْلًا آخَرَ وهو الحَشْرُ. وثانِيها: وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الإنْذارَ والبِشارَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ ولَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِكَمالِهِ في الدُّنْيا، فَقالَ: إنْ لَمْ يُرَ في الدُّنْيا فاللَّهُ يُحْيِي المَوْتى ويَجْزِي المُنْذِرِينَ ويَجْزِي المُبَشِّرِينَ. وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ بِالغَيْبِ ذَكَرَ ما يُؤَكِّدُهُ، وهو إحْياءُ المَوْتى، وفي التَّفْسِيرِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ﴿إنّا نَحْنُ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وخَبَرًا كَقَوْلِ القائِلِ: ؎أنا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي ومِثْلُ هَذا يُقالُ عِنْدَ الشُّهْرَةِ العَظِيمَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن لا يُعْرَفُ يُقالُ لَهُ: مَن أنْتَ ؟ فَيَقُولُ: أنا ابْنُ فُلانٍ فَيُعْرَفُ، ومَن يَكُونُ مَشْهُورًا إذا قِيلَ لَهُ: مَن أنْتَ ؟ يَقُولُ أنا، أيْ لا مُعَرِّفَ لِي أظْهَرُ مِن نَفْسِي فَقالَ: إنّا نَحْنُ مَعْرُوفُونَ بِأوْصافِ الكَمالِ، وإذا عُرِّفْنا بِأنْفُسِنا فَلا تُنْكِرُ قُدْرَتَنا عَلى إحْياءِ المَوْتى. وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ الخَبَرُ ﴿نُحْيِي﴾ كَأنَّهُ قالَ: إنّا نُحْيِي المَوْتى، و﴿نَحْنُ﴾ يَكُونُ تَأْكِيدًا والأوَّلُ أوْلى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: (إنّا نَحْنُ) فِيهِ إشارَةٌ إلى التَّوْحِيدِ؛ لِأنَّ الِاشْتِراكَ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِغَيْرِ النَّفْسِ فَإنَّ زَيْدًا إذا شارَكَهُ غَيْرُهُ في الِاسْمِ، فَلَوْ قالَ: أنا زَيْدٌ لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ التّامُّ لِأنَّ لِلسّامِعِ أنْ يَقُولَ: أيُّما زَيْدٍ ؟ فَيَقُولُ ابْنُ عَمْرٍو ولَوْ كانَ هُناكَ زَيْدٌ آخَرُ أبُوهُ عَمْرٌو لا يَكْفِي قَوْلُهُ: ابْنُ عَمْرٍو، فَلَمّا قالَ اللَّهُ: ﴿إنّا نَحْنُ﴾ أيْ لَيْسَ غَيْرُنا أحَدٌ يُشارِكُنا حَتّى نَقُولَ: إنّا كَذا فَنَمْتازُ، وحِينَئِذٍ تَصِيرُ الأُصُولُ الثَّلاثَةُ مَذْكُورَةً؛ الرِّسالَةُ والتَّوْحِيدُ والحَشْرُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: المُرادُ ما قَدَّمُوا وأخَّرُوا، فاكْتَفى بِذِكْرِ أحَدِهِما كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ (النَّحْلِ: ٨١) والمُرادُ والبَرْدَ أيْضًا. وثانِيها: المَعْنى ما أسْلَفُوا مِنَ الأعْمالِ صالِحَةً كانَتْ أوْ فاسِدَةً، وهو كَما قالَ تَعالى: ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ﴾ (الرُّومِ: ٣٦) أيْ بِما قَدَّمَتْ في الوُجُودِ عَلى غَيْرِهِ وأوْجَدَتْهُ. وثالِثُها: نَكْتُبُ نِيّاتِهِمْ فَإنَّها قَبْلَ الأعْمالِ وآثارَها أيْ أعْمالَهم عَلى هَذا الوَجْهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: وآثارُهم فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: آثارُهم أقْدامُهم، فَإنَّ جَماعَةً مِن أصْحابِهِ بَعُدَتْ دُورُهم عَنِ المَساجِدِ، فَأرادُوا النُّقْلَةَ، فَقالَ ﷺ: ”«إنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ خُطُواتِكم ويُثِيبُكم عَلَيْهِ فالزَمُوا بُيُوتَكم» “ . والثّانِي: هي السُّنَنُ الحَسَنَةُ، كالكُتُبِ المُصَنَّفَةِ والقَناطِرِ المَبْنِيَّةِ، والحَبائِسِ الدّارَّةِ، والسُّنَنُ السَّيِّئَةُ كالظِّلاماتِ المُسْتَمِرَّةِ الَّتِي (p-٤٤)وضَعَها ظالِمٌ والكُتُبِ المُضِلَّةِ، وآلاتِ المَلاهِي وأدَواتِ المَناهِي المَعْمُولَةِ الباقِيَةِ، وهو في مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ: «مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أجْرِ العامِلِ شَيْءٌ، ومَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها» فَما قَدَّمُوا هو أفْعالُهم، وآثارُهم أفْعالُ الشّاكِرِينَ فَبَشِّرْهم حَيْثُ يُؤاخَذُونَ بِها ويُؤْجَرُونَ عَلَيْها. والثّالِثُ: ما ذَكَرْنا أنَّ الآثارَ الأعْمالُ وما قَدَّمُوا النِّيّاتِ، فَإنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ العَمَلِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: الكِتابَةُ قَبْلَ الإحْياءِ فَكَيْفَ أخَّرَ في الذِّكْرِ حَيْثُ قالَ: نُحْيِي ونَكْتُبُ، ولَمْ يَقُلْ: نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ونُحْيِيهِمْ، نَقُولُ: الكِتابَةُ مُعَظِّمَةٌ لِأمْرِ الإحْياءِ؛ لِأنَّ الإحْياءَ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِسابِ لا يُعَظَّمُ، والكِتابَةُ في نَفْسِها إنْ لَمْ تَكُنْ إحْياءً وإعادَةً لا يَبْقى لَها أثَرٌ أصْلًا فالإحْياءُ هو المُعْتَبَرُ والكِتابَةُ مُؤَكِّدَةٌ مُعَظِّمَةٌ لِأمْرِهِ، فَلِهَذا قُدِّمَ الإحْياءُ ولِأنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿إنّا نَحْنُ﴾ وذَلِكَ يُفِيدُ العَظَمَةَ والجَبَرُوتَ، والإحْياءُ عَظِيمٌ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ والكِتابَةُ دُونَهُ فَقَرَنَ بِالتَّعْرِيفِ الأمْرَ العَظِيمَ وذَكَرَ ما يُعَظِّمُ ذَلِكَ العَظِيمَ، وقَوْلُهُ: ﴿وكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْناهُ في إمامٍ مُبِينٍ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيانًا لِكَوْنِ ما قَدَّمُوا وآثارُهم أمْرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ لا يُبَدَّلُ، فَإنَّ القَلَمَ جَفَّ بِما هو كائِنٌ، فَلَمّا قالَ: ﴿ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا﴾ بَيَّنَ أنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كِتابَةً أُخْرى فَإنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أنَّهم سَيَفْعَلُونَ كَذا وكَذا، ثُمَّ إذا فَعَلُوهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أنَّهم فَعَلُوهُ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ونَكْتُبُ﴾ لِأنَّ مَن يَكْتُبُ شَيْئًا في أوْراقٍ ويَرْمِيها قَدْ لا يَجِدُها فَكَأنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ فَقالَ: نَكْتُبُ ونَحْفَظُ ذَلِكَ في إمامٍ مُبِينٍ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي في كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى﴾ (طه: ٥٢ ) . وثالِثُها: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَأنَّهُ تَعالى يَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهم ولَيْسَتِ الكِتابَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ مُحْصًى في إمامٍ مُبِينٍ، وهَذا يُفِيدُ أنَّ شَيْئًا مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ لا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ ولا يَفُوتُهُ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ﴾ ﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ (القَمَرِ: ٥٢) يَعْنِي لَيْسَ ما في الزُّبُرِ مُنْحَصِرًا فِيما فَعَلُوهُ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مَكْتُوبٌ، وقَوْلُهُ: ﴿أحْصَيْناهُ﴾ أبْلَغُ مِن كَتَبْناهُ لِأنَّ مَن كَتَبَ شَيْئًا مُفَرَّقًا يَحْتاجُ إلى جَمْعِ عَدَدِهِ، فَقالَ: هو مُحْصًى فِيهِ وسُمِّيَ الكِتابُ إمامًا؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ يَتَّبِعُونَهُ فَما كُتِبَ فِيهِ مِن أجَلٍ ورِزْقٍ وإحْياءٍ وإماتَةٍ اتَّبَعُوهُ، وقِيلَ: هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وإمامٌ جاءَ جَمْعًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ (الإسْراءِ: ٧١) أيْ بِأئِمَّتِهِمْ؛ وحِينَئِذٍ فَإمامٌ إذا كانَ فَرْدًا فَهو كَكِتابٍ وحِجابٍ، وإذا كانَ جَمْعًا فَهو كَجِبالٍ وحِبالٍ، والمُبِينُ هو المُظْهِرُ لِلْأُمُورِ لِكَوْنِهِ مُظْهِرًا لِلْمَلائِكَةِ ما يَفْعَلُونَ ولِلنّاسِ ما يُفْعَلُ بِهِمْ، وهو الفارِقُ يَفْرِقُ بَيْنَ أحْوالِ الخَلْقِ، فَيَجْعَلُ فَرِيقًا في الجَنَّةِ وفَرِيقًا في السَّعِيرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب