الباحث القرآني

(p-٣٥)(سُورَةُ يس) ثَمانُونَ وثَلاثُ آياتٍ مَكِّيَّةٌ ﷽ ﴿يس﴾ ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ ﷽ ﴿يس﴾ ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ قَدْ ذَكَرْنا كَلامًا كُلِّيًّا في حُرُوفِ التَّهَجِّي في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ، وذَكَرْنا أنَّ في كُلِّ سُورَةٍ بَدَأ اللَّهُ فِيها بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كانَ أوائِلُها الذِّكْرَ أوِ الكِتابَ أوِ القُرْآنَ ولْنَذْكُرْ هَهُنا أبْحاثًا: البَحْثُ الأوَّلُ: هو أنَّ في ذِكْرِ هَذِهِ الحُرُوفِ في أوائِلِ السُّوَرِ أُمُورًا تَدُلُّ عَلى أنَّها غَيْرُ خالِيَةٍ عَنِ الحِكْمَةِ، ولَكِنَّ عِلْمَ الإنْسانِ لا يَصِلُ إلَيْها بِعَيْنِها، فَنَقُولُ: ما هو الكُلِّيُّ مِنَ الحِكْمَةِ فِيها، أمّا بَيانُ أنَّ فِيها ما يَدُلُّ عَلى الحِكْمَةِ فَهو أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ مِنَ الحُرُوفِ نِصْفَها، وهي أرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وهي نِصْفُ ثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ حَرْفًا، وهي جَمِيعُ الحُرُوفِ الَّتِي في لِسانِ العَرَبِ عَلى قَوْلِنا: الهَمْزَةُ ألِفٌ مُتَحَرِّكَةٌ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قَسَّمَ الحُرُوفَ ثَلاثَةَ أقْسامٍ: تِسْعَةُ أحْرُفٍ مِنَ الألِفِ إلى الذّالِ، وتِسْعَةُ أحْرُفٍ أُخَرَ في آخِرِ الحُرُوفِ مِنَ الفاءِ إلى الياءِ، وعَشَرَةٌ مِنَ الوَسَطِ مِنَ الرّاءِ إلى الغَيْنِ، وذَكَرَ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ حَرْفَيْنِ هُما الألِفُ والحاءُ وتَرَكَ سَبْعَةً وتَرَكَ مِنَ القِسْمِ الآخَرِ حَرْفَيْنِ هُما الفاءُ والواوُ وذَكَرَ سَبْعَةً، ولَمْ يَتْرُكْ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ مِن حُرُوفِ الحَلْقِ والصَّدْرِ إلّا واحِدًا لَمْ يَذْكُرْهُ وهو الخاءُ، ولَمْ يَذْكُرْ مِنَ القِسْمِ الآخَرِ مِن حُرُوفِ الشَّفَةِ إلّا واحِدًا لَمْ يَتْرُكْهُ وهو المِيمُ، والعَشْرُ الأواسِطُ ذَكَرَ مِنها حَرْفًا وتَرَكَ حَرْفًا، فَذَكَرَ الرّاءَ، وتَرَكَ الزّايَ، وذَكَرَ السِّينَ وتَرَكَ الشِّينَ، وذَكَرَ الصّادَ وتَرَكَ الضّادَ، وذَكَرَ الطّاءَ وتَرَكَ الظّاءَ، وذَكَرَ العَيْنَ وتَرَكَ الغَيْنَ، ولَيْسَ هَذا أمْرًا يَقَعُ اتِّفاقًا بَلْ هو تَرْتِيبٌ مَقْصُودٌ فَهو لِحِكْمَةٍ، وأمّا أنَّ عَيْنَها غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَظاهِرٌ، وهَبْ أنَّ واحِدًا يَدَّعِي فِيها شَيْئًا، فَماذا يَقُولُ في كَوْنِ بَعْضِ السُّوَرِ مُفْتَتَحَةً بِحَرْفٍ: كَسُورَةِ ن، وق، وص. وبَعْضِها بِحَرْفَيْنِ: كَسُورَةِ حم، ويس، وطس، وطه. وبَعْضِها بِثَلاثَةِ أحْرُفٍ: كَسُورَةِ الم، وطسم، والر. وبَعْضِها بِأرْبَعَةٍ: كَسُورَتَيْ المر، والمص. وبَعْضِها بِخَمْسَةِ أحْرُفٍ: كَسُورَتَيْ حم عسق، وكهيعص. وهَبْ أنَّ قائِلًا يَقُولُ: إنَّ هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ الكَلامَ، إمّا حَرْفٌ، وإمّا فِعْلٌ، وإمّا اسْمٌ، والحَرْفُ كَثِيرًا ما جاءَ عَلى حَرْفٍ كَواوِ العَطْفِ، وفاءِ التَّعْقِيبِ، وهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وكافِ التَّشْبِيهِ، وباءِ الإلْصاقِ، وغَيْرِها. وجاءَ عَلى حَرْفَيْنِ كَمَن لِلتَّبْعِيضِ، وأوْ لِلتَّخْيِيرِ، وأمْ لِلِاسْتِفْهامِ المُتَوَسِّطِ، وأنْ لِلشَّرْطِ، وغَيْرِها. والِاسْمُ (p-٣٦)والفِعْلُ والحَرْفُ جاءَ عَلى ثَلاثَةِ أحْرُفٍ كَإلى وعَلى في الحَرْفِ وإلى وعَلى في الِاسْمِ، وألا يَأْلُو وعَلا يَعْلُو في الفِعْلِ، والِاسْمُ والفِعْلُ جاءَ عَلى أرْبَعَةٍ، والِاسْمُ خاصَّةً جاءَ عَلى ثَلاثَةٍ وأرْبَعَةٍ وخَمْسَةٍ كَفُجْلٍ وسُجْلٍ وجِرْدَحْلٍ، فَما جاءَ في القُرْآنِ إشارَةٌ إلى أنَّ تَرْكِيبَ العَرَبِيَّةِ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ، فَماذا يَقُولُ هَذا القائِلُ في تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِالحَرْفِ الواحِدِ، والبَعْضِ بِأكْثَرَ فَلا يَعْلَمُ تَمامَ السِّرِّ إلّا اللَّهُ ومَن أعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، إذا عَلِمْتَ هَذا فَنَقُولُ: اعْلَمْ أنَّ العِبادَةَ مِنها قَلْبِيَّةٌ، ومِنها لِسانِيَّةٌ، ومِنها جارِحِيَّةٌ، وكُلُّ واحِدَةٍ مِنها قِسْمانِ: قِسْمٌ عُقِلَ مَعْناهُ وحَقِيقَتُهُ وقِسْمٌ لَمْ يُعْلَمْ، أمّا القَلْبِيَّةُ مَعَ أنَّها أبْعَدُ عَنِ الشَّكِّ والجَهْلِ، فَفِيها ما لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلُهُ عَقْلًا، وإنَّما وجَبَ الإيمانُ بِهِ والِاعْتِقادُ سَمْعًا كالصِّراطِ الَّذِي هو أرَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وأحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، ويَمُرُّ عَلَيْهِ المُؤْمِنُ والمُوقِنُ كالبَرْقِ الخاطِفِ، والمِيزانِ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الأعْمالُ الَّتِي لا ثِقَلَ لَها في نَظَرِ النّاظِرِ وكَيْفِيّاتِ الجَنَّةِ والنّارِ، فَإنَّ هَذِهِ الأشْياءَ وُجُودُها لَمْ يُعْلَمْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وإنَّما المَعْلُومُ بِالعَقْلِ إمْكانُها، ووُقُوعُها مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِالسَّمْعِ، ومِنها ما عُلِمَ كالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ وقُدْرَةِ اللَّهِ وصِدْقِ الرَّسُولِ، وكَذَلِكَ في العِباداتِ الجارِحِيَّةِ ما عُلِمَ مَعْناهُ وما لَمْ يُعْلَمْ كَمَقادِيرِ النُّصُبِ وعَدَدِ الرَّكَعاتِ، وقَدْ ذَكَرْنا الحِكْمَةَ فِيهِ وهي أنَّ العَبْدَ إذا أتى بِما أُمِرَ بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَعْلَمَ ما فِيهِ مِنَ الفائِدَةِ لا يَكُونُ إلّا آتِيًا بِمَحْضِ العِبادَةِ بِخِلافِ ما لَوْ عَلِمَ الفائِدَةَ، فَرُبَّما يَأْتِي بِهِ لِلْفائِدَةِ، وإنْ لَمْ يُؤْمِن كَما لَوْ قالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: انْقُلْ هَذِهِ الحِجارَةَ مِن هَهُنا ولَمْ يُعْلِمْهُ بِما في النَّقْلِ فَنَقَلَها، ولَوْ قالَ: انْقُلْها فَإنَّ تَحْتَها كَنْزًا هو لَكَ يَنْقُلُها وإنْ لَمْ يُؤْمِن إذا عَلِمَ هَذا فَكَذَلِكَ في العِباداتِ اللِّسانِيَّةِ الذِّكْرِيَّةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ مِنها ما لا يُفْهَمُ مَعْناهُ حَتّى إذا تَكَلَّمَ بِهِ العَبْدُ عُلِمَ مِنهُ أنَّهُ لا يَقْصِدُ غَيْرَ الِانْقِيادِ لِأمْرِ المَعْبُودِ الآمِرِ النّاهِي، فَإذا قالَ: ﴿حم﴾، ﴿يس﴾، ﴿الم﴾، ﴿طس﴾ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَفْهَمُهُ أوْ يُفَهَّمُهُ، فَهو يَتَلَفَّظُ بِهِ إقامَةً لِما أُمِرَ بِهِ. البَحْثُ الثّانِي: قِيلَ في خُصُوصِ يس: إنَّهُ كَلامٌ هو نِداءٌ مَعْناهُ يا إنْسانُ، وتَقْرِيرُهُ هو أنَّ تَصْغِيرَ إنْسانٍ أُنَيْسِينٌ فَكَأنَّهُ حَذَفَ الصَّدْرَ مِنهُ، وأخَذَ العَجُزَ وقالَ: ﴿يس﴾ أيْ أُنَيْسِينُ، وعَلى هَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَهُ: ﴿إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ . البَحْثُ الثّالِثُ: قُرِئَ يس إمّا بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هو قَوْلُهُ هَذِهِ كَأنَّهُ قالَ: هَذِهِ يس، وإمّا بِالضَّمِّ عَلى نِداءِ المُفْرَدِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَبْنِيٌّ كَحَيْثُ، وقُرِئَ يس إمّا بِالنَّصْبِ عَلى مَعْنى اتْلُ يس، وإمّا بِالفَتْحِ كَأيْنَ وكَيْفَ، وقُرِئَ يس بِالكَسْرِ كَجِيرٍ؛ لِإسْكانِ الياءِ وكَسْرَةِ ما قَبْلَها، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ بِالجَرِّ؛ لِأنَّ إضْمارَ الجارِّ غَيْرُ جائِزٍ، ولَيْسَ فِيهِ حَرْفُ قَسَمٍ ظاهِرٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ أيْ ذِي الحِكْمَةِ كَعِيشَةٍ راضِيَةٍ أيْ ذاتِ رِضًا أوْ عَلى أنَّهُ ناطِقٌ بِالحِكْمَةِ، فَهو كالحَيِّ المُتَكَلِّمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب