الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ بَيانًا لِغِناهُ وفِيهِ بَلاغَةٌ كامِلَةٌ، وبَيانُها أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أيْ لَيْسَ إذْهابُكم مَوْقُوفًا إلّا عَلى مَشِيئَتِهِ بِخِلافِ الشَّيْءِ المُحْتاجِ إلَيْهِ، فَإنَّ المُحْتاجَ لا يَقُولُ فِيهِ: إنْ يَشَأْ فُلانٌ هَدَمَ دارَهُ وأعْدَمَ عَقارَهُ، وإنَّما يَقُولُ: لَوْلا حاجَةُ السُّكْنى إلى الدّارِ لَبِعْتُها، أوْ لَوْلا الِافْتِقارُ إلى العَقارِ لَتَرَكْتُها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى زادَ بَيانَ الِاسْتِغْناءِ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يَعْنِي: إنْ كانَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٍ أنَّ هَذا المَلِكَ لَهُ كَمالٌ وعَظَمَةٌ، فَلَوْ أذْهَبَهُ لَزالَ مُلْكُهُ وعَظَمَتُهُ، فَهو قادِرٌ بِأنْ يَخْلُقَ خَلْقًا جَدِيدًا أحْسَنَ مِن هَذا وأجْمَلَ وأتَمَّ وأكْمَلَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أيِ الإذْهابُ والإتْيانُ، وهَهُنا مَسْألَةٌ: وهي أنَّ لَفْظَ العَزِيزِ اسْتَعْمَلَهُ اللَّهُ تَعالى تارَةً في القائِمِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قالَ في حَقِّ نَفْسِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ (الأحْزابِ: ٢٥) وقالَ في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطِرٍ: ٢٨) واسْتَعْمَلَهُ في القائِمِ بِغَيْرِهِ حَيْثُ قالَ: ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ وقالَ: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ﴾ (التَّوْبَةِ: ١٢٨) فَهَلْ هُما بِمَعْنًى واحِدٍ أمْ بِمَعْنَيَيْنِ ؟ فَنَقُولُ: العَزِيزُ هو الغالِبُ في اللُّغَةِ، يُقالُ: مَن عَزَّ بَزَّ أيْ مَن غَلَبَ سَلَبَ، فاللَّهُ عَزِيزٌ أيْ غالِبٌ، والفِعْلُ إذا كانَ لا يُطِيقُهُ شَخْصٌ يُقالُ هو مَغْلُوبٌ بِالنِّسْبَةِ إلى ذَلِكَ الفِعْلِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أيْ لا يَغْلِبُ اللَّهَ ذَلِكَ الفِعْلُ، بَلْ هو هَيِّنٌ عَلى اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ﴾ أيْ يُحْزِنُهُ ويُؤْذِيهِ كالشُّغْلِ الغالِبِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنهُ شَيْءٌ ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ (p-١٤)مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الحَقَّ بِالدَّلائِلِ الظّاهِرَةِ والبَراهِينِ الباهِرَةِ ذَكَرَ ما يَدْعُوهم إلى النَّظَرِ فِيهِ، فَقالَ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ أيْ لا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ نَفْسٍ، فالنَّبِيُّ ﷺ لَوْ كانَ كاذِبًا في دُعائِهِ لَكانَ مُذْنِبًا، وهو مُعْتَقِدٌ بِأنَّ ذَنْبَهُ لا تَحْمِلُونَهُ أنْتُمْ، فَهو يَتَوَقّى ويَحْتَرِزُ، واللَّهُ تَعالى غَيْرُ فَقِيرٍ إلى عِبادَتِكم، فَتَفَكَّرُوا واعْلَمُوا أنَّكم إنْ ضَلَلْتُمْ فَلا يَحْمِلُ أحَدٌ عَنْكم وِزْرَكم ولَيْسَ كَما يَقُولُ أكابِرُكُمُ: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ولْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ﴾ (العَنْكَبُوتِ: ١٢) وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وازِرَةٌ﴾ أيْ نَفْسٌ وازِرَةٌ، ولَمْ يَقُلْ: ولا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرى، ولا جَمَعَ بَيْنَ المَوْصُوفِ والصِّفَةِ، فَلَمْ يَقُلْ: ولا تَزِرُ نَفْسٌ وازِرَةٌ وِزْرَةَ أُخْرى لِفائِدَةٍ؛ أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّهُ لَوْ قالَ: ولا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرى لَمّا عَلِمَ أنَّ كُلَّ نَفْسٍ وازِرَةٍ مَهْمُومَةٍ بِهَمِّ وِزْرِها مُتَحَيِّرَةٍ في أمْرِها، ووَجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ قَوْلَ القائِلِ: ولا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرى، قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَها أنْ لا تَزِرَ وِزْرًا أصْلًا كالمَعْصُومِ لا يَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهِ ومَعَ ذَلِكَ لا يَزِرُ وِزْرًا رَأْسًا، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾ بَيَّنَ أنَّها تَزِرُ وِزْرَها ولا تَزِرُ وِزْرَ الغَيْرِ، وأمّا تَرْكُ ذِكْرِ المَوْصُوفِ؛ فَلِظُهُورِ الصِّفَةِ ولُزُومِها لِلْمَوْصُوفِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ أحَدًا لا يَحْمِلُ عَنْ أحَدٍ شَيْئًا مُبْتَدِئًا ولا بَعْدَ السُّؤالِ، فَإنَّ المُحْتاجَ قَدْ يَصْبِرُ وتُقْضى حاجَتُهُ مِن غَيْرِ سُؤالِهِ، فَإذا انْتَهى الِافْتِقارُ إلى حَدِّ الكَمالِ يُحْوِجُهُ إلى السُّؤالِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿مُثْقَلَةٌ﴾ زِيادَةُ بَيانٍ لِما تَقَدَّمَ مِن حَيْثُ إنَّهُ قالَ أوَّلًا: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ فَيَظُنُّ أنَّ أحَدًا لا يَحْمِلُ عَنْ أحَدٍ لِكَوْنِ ذَلِكَ الواحِدِ قادِرًا عَلى حَمْلِهِ، كَما أنَّ القَوِيَّ إذا أخَذَ بِيَدِهِ رُمّانَةً أوْ سَفَرْجَلَةً لا تُحْمَلُ عَنْهُ، وأمّا إذا كانَ الحِمْلُ ثَقِيلًا قَدْ يُرْحَمُ الحامِلُ، فَيُحْمَلُ عَنْهُ فَقالَ: ﴿مُثْقَلَةٌ﴾ يَعْنِي لَيْسَ عَدَمُ الوِزْرِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلرَّحْمَةِ بِالثِّقَلِ بَلْ لِكَوْنِ النَّفْسِ مُثْقَلَةً ولا يُحْمَلُ مِنها شَيْءٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: زادَ في ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ أيِ المَدْعُوُّ لَوْ كانَ ذا قُرْبى لا يَحْمِلُهُ، وفي الأوَّلِ كانَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لا يَحْمِلُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِهِ كالعَدُوِّ الَّذِي يَرى عَدُوَّهُ تَحْتَ ثِقَلٍ، أوِ الأجْنَبِيِّ الَّذِي يَرى أجْنَبِيًّا تَحْتَ حِمْلٍ لا يَحْمِلُ عَنْهُ، فَقالَ: ﴿ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ أيْ يَحْصُلُ جَمِيعُ المَعانِي الدّاعِيَةِ إلى الحَمْلِ مِن كَوْنِ النَّفْسِ وازِرَةً قَوِيَّةً تَحْتَمِلُ، وكَوْنِ الأُخْرى مُثْقَلَةً، لا يُقالُ: كَوْنُها قَوِيَّةً قادِرَةً لَيْسَ عَلَيْها حَمْلٌ، وكَوْنُها سائِلَةً داعِيَةً، فَإنَّ السُّؤالَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، لَوْ كانَ المَسْئُولُ قَرِيبًا، فَإذَنْ لا يَكُونُ التَّخَلُّفُ إلّا لِمانِعٍ وهو كَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَحْتَ حِمْلٍ ثَقِيلٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب