الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ والَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ ومَكْرُ أُولَئِكَ هو يَبُورُ﴾ .
لَمّا بَيَّنَ بُرْهانَ الإيمانِ إشارَةً إلى ما كانَ يَمْنَعُ الكُفّارَ مِنهُ وهو العِزَّةُ الظّاهِرَةُ الَّتِي كانُوا يَتَوَهَّمُونَها مِن حَيْثُ إنَّهم ما كانُوا في طاعَةِ أحَدٍ ولَمْ يَكُنْ لَهم مَن يَأْمُرُهم ويَنْهاهم، فَكانُوا يَنْحِتُونَ الأصْنامَ وكانُوا يَقُولُونَ إنَّ هَذِهِ آلِهَتُنا، ثُمَّ إنَّهم كانُوا يَنْقُلُونَها مَعَ أنْفُسِهِمْ، وأيَّةُ عِزَّةٍ فَوْقَ المَعِيَّةِ مَعَ المَعْبُودِ فَهم كانُوا يَطْلُبُونَ العِزَّةَ وهي عَدَمُ التَّذَلُّلِ لِلرَّسُولِ وتَرْكُ الِاتِّباعِ لَهُ، فَقالَ: إنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ بِهَذا الكُفْرِ العِزَّةَ في الحَقِيقَةِ، فَهي كُلُّها لِلَّهِ ومَن يَتَذَلَّلُ لَهُ فَهو العَزِيزُ، ومَن يَتَعَزَّزُ عَلَيْهِ فَهو الذَّلِيلُ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا﴾ وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] فَقَوْلُهُ: ﴿جَمِيعًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنْ لا عِزَّةَ لِغَيْرِهِ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ﴾ أيْ في الحَقِيقَةِ وبِالذّاتِ وقَوْلُهُ: ﴿ولِرَسُولِهِ﴾ أيْ بِواسِطَةِ القُرْبِ مِنَ العَزِيزِ وهو اللَّهُ ولِلْمُؤْمِنِينَ بِواسِطَةِ قُرْبِهِمْ مِنَ العَزِيزِ بِاللَّهِ وهو الرَّسُولُ، وذَلِكَ لِأنَّ عِزَّةَ المُؤْمِنِينَ بِواسِطَةِ النَّبِيِّ ﷺ ألا تَرى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ تَقْرِيرٌ لِبَيانِ العِزَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الكُفّارَ كانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لا نَعْبُدُ مَن لا نَراهُ ولا نَحْضُرُ عِنْدَهُ؛ لِأنَّ البُعْدَ مِنَ المَلِكِ ذِلَّةٌ، فَقالَ تَعالى: إنْ كُنْتُمْ لا تَصِلُونَ إلَيْهِ، فَهو يَسْمَعُ كَلامَكم ويَقْبَلُ الطَّيِّبَ فَمَن قَبِلَ كَلامَهُ وصَعِدَ إلَيْهِ فَهو عَزِيزٌ ومَن رَدَّ كَلامَهُ في وجْهِهِ فَهو ذَلِيلٌ، وأمّا هَذِهِ الأصْنامُ لا يَتَبَيَّنُ عِنْدَها الذَّلِيلُ مِنَ العَزِيزِ إذْ لا عِلْمَ لَها فَكُلُّ أحَدٍ يَمَسُّها، وكَذَلِكَ يَرى عِلْمَكم فَمَن عَمِلَ صالِحًا رَفَعَهُ إلَيْهِ، ومَن عَمِلَ سَيِّئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ فالعَزِيزُ مَنِ الَّذِي عَمَلُهُ لِوَجْهِهِ والذَّلِيلُ مَن يُدْفَعُ الَّذِي عَمِلَهُ في وجْهِهِ، وأمّا هَذِهِ الأصْنامُ فَلا تَعْلَمُ شَيْئًا فَلا عَزِيزَ يُرْفَعُ عِنْدَها ولا ذَلِيلَ، فَلا عِزَّةَ بِها بَلْ عَلَيْها ذِلَّةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ ذِلَّةَ السَّيِّدِ ذِلَّةٌ لِلْعَبْدِ ومَن كانَ مَعْبُودُهُ ورَبُّهُ وإلَهُهُ حِجارَةً أوْ خَشَبًا ماذا يَكُونُ هو ؟
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ وُجُوهٌ:
أحَدُها: كَلِمَةُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ هي الطَّيِّبَةُ.
وثانِيها: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ طَيِّبٌ.
ثالِثُها: هَذِهِ الكَلِماتُ الأرْبَعُ وخامِسَةٌ وهي تَبارَكَ اللَّهُ والمُخْتارُ أنَّ كُلَّ كَلامٍ هو ذِكْرُ اللَّهِ أوْ هو لِلَّهِ كالنَّصِيحَةِ والعِلْمِ، فَهو إلَيْهِ يَصْعَدُ.
(p-٩)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ وفي الهاءِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: هي عائِدَةٌ إلى الكَلِمِ الطَّيِّبِ؛ أيِ العَمَلُ الصّالِحُ هو الَّذِي يَرْفَعُهُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ، ورَدَ في الخَبَرِ: ”«لا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا بِلا عَمَلٍ» “ .
وثانِيهِما: هي عائِدَةٌ إلى العَمَلِ الصّالِحِ، وعَلى هَذا في الفاعِلِ الرّافِعِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: هو الكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ العَمَلَ الصّالِحَ، وهَذا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا﴾ (النَّحْلِ: ٩٧) ﴿مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ﴾ .
وثانِيهِما: الرّافِعُ هو اللَّهُ تَعالى.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ما وجْهُ تَرْجِيحِ الذِّكْرِ عَلى العَمَلِ عَلى الوَجْهِ الثّانِي حَيْثُ يَصْعَدُ الكَلِمُ بِنَفْسِهِ ويُرْفَعُ العَمَلُ بِغَيْرِهِ، فَنَقُولُ: الكَلامُ شَرِيفٌ، فَإنَّ امْتِيازَ الإنْسانِ عَنْ كُلِّ حَيَوانٍ بِالنُّطْقِ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسْراءِ: ٧٠) أيْ بِالنَّفْسِ النّاطِقَةِ، والعَمَلُ حَرَكَةٌ وسُكُونٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الإنْسانُ وغَيْرُهُ، والشَّرِيفُ إذا وصَلَ إلى بابِ المَلِكِ لا يُمْنَعُ ومَن دُونَهُ لا يَجِدُ الطَّرِيقَ إلّا عِنْدَ الطَّلَبِ، ويَدُلُّ عَلى هَذا أنَّ الكافِرَ إذا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الشَّهادَةِ إنْ كانَ عَنْ صِدْقٍ أمِنَ عَذابَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ كانَ ظاهِرًا أمِنَ في نَفْسِهِ ودَمِهِ وأهْلِهِ وحَرَمِهِ في الدُّنْيا، ولا كَذَلِكَ العَمَلُ بِالجَوارِحِ، وقَدْ ذَكَرْنا ذَلِكَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ (النِّساءِ: ٥٧) .
ووَجْهٌ آخَرُ: القَلْبُ هو الأصْلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: («ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ» ) وما في القَلْبِ لا يَظْهَرُ إلّا بِاللِّسانِ، وما في اللِّسانِ لا يَتَبَيَّنُ صِدْقُهُ إلّا بِالفِعْلِ، ألا تَرى أنَّ الإنْسانَ لا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إلّا عَنْ قَلْبٍ، وأمّا الفِعْلُ قَدْ يَكُونُ لا عَنْ قَلْبٍ كالعَبَثِ بِاللِّحْيَةِ؛ ولِأنَّ النّائِمَ لا يَخْلُو عَنْ فِعْلٍ مِن حَرَكَةٍ وتَقَلُّبٍ، وهو في أكْثَرِ الأمْرِ لا يَتَكَلَّمُ في نَوْمِهِ إلّا نادِرًا، لِما ذَكَرْنا أنَّ الكَلامَ بِالقَلْبِ ولا كَذَلِكَ العَمَلُ، فالقَوْلُ أشْرَفُ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَكْرُ لا يَتَعَدّى فَبِمَ انْتِصابُ السَّيِّئاتِ ؟ وقالَ بِأنَّ مَعْناهُ: الَّذِينَ يَمْكُرُونَ المَكَراتِ السَّيِّئاتِ، فَهو وصْفُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: اسْتُعْمِلَ المَكْرُ اسْتِعْمالَ العَمَلِ فَعَدّاهُ تَعْدِيَتَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ (العَنْكَبُوتِ: ٧) ﴿والَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ﴾ يَحْتَمِلُ ما ذَكَرْناهُ أنْ يَكُونَ السَّيِّئاتُ وصْفًا لِمَصْدَرٍ تَقْدِيرُهُ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ العَمَلاتِ السَّيِّئاتِ، وعَلى هَذا فَيَكُونُ هَذا في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ إشارَةً إلى بَقائِهِ وارْتِقائِهِ ﴿ومَكْرُ أُولَئِكَ﴾ أيِ العَمَلُ السَّيِّئُ ﴿هُوَ يَبُورُ﴾ إشارَةٌ إلى فَنائِهِ.
{"ayah":"مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِیعًاۚ إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِینَ یَمۡكُرُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۖ وَمَكۡرُ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُوَ یَبُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











