الباحث القرآني

(p-٣)(سُورَةُ فاطِرٍ) (أرْبَعُونَ وخَمْسُ آياتٍ مَكِّيَّةٌ) ﷽ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ ﷽ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ قَدْ ذَكَرْنا فِيما تَقَدَّمَ أنَّ الحَمْدَ يَكُونُ عَلى النِّعْمَةِ في أكْثَرِ الأمْرِ، ونِعَمُ اللَّهِ قِسْمانِ: عاجِلَةٌ وآجِلَةٌ، والعاجِلَةُ وُجُودٌ وبَقاءٌ، والآجِلَةُ كَذَلِكَ إيجادٌ مَرَّةً وإبْقاءٌ أُخْرى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] إشارَةٌ إلى النِّعْمَةِ العاجِلَةِ الَّتِي هي الإيجادُ، واسْتَدْلَلْنا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ ثُمَّ قَضى أجَلًا﴾ [الأنعام: ٢] وقَوْلِهِ في الكَهْفِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ [الكهف: ١] إشارَةً إلى النِّعْمَةِ العاجِلَةِ الَّتِي هي الإبْقاءُ، فَإنَّ البَقاءَ والصَّلاحَ بِالشَّرْعِ والكِتابِ، ولَوْلاهُ لَوَقَعَتِ المُنازَعَةُ والمُخاصَمَةُ بَيْنَ النّاسِ ولا يُفْصَلُ بَيْنَهم، فَكانَ يُفْضِي ذَلِكَ إلى التَّقاتُلِ والتَّفانِي، فَإنْزالُ الكِتابِ نِعْمَةٌ يَتَعَلَّقُ بِها البَقاءُ العاجِلُ، وفي قَوْلِهِ في سُورَةِ سَبَأٍ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ولَهُ الحَمْدُ في الآخِرَةِ﴾ [سبأ: ٢] إشارَةٌ إلى نِعْمَةِ الإيجادِ الثّانِي بِالحَشْرِ، واسْتَدْلَلْنا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ﴾ [سبأ: ٢] مِنَ الأجْسامِ ﴿وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ﴾ [سبأ: ٢] مِنَ الأرْواحِ ﴿وما يَعْرُجُ فِيها﴾ [سبأ: ٢] وقَوْلِهِ عَنِ الكافِرِينَ: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ قُلْ بَلى ورَبِّي﴾ [سبأ: ٣] وهَهُنا الحَمْدُ إشارَةٌ إلى نِعْمَةِ البَقاءِ في الآخِرَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ أيْ: يَجْعَلُهم رُسُلًا يَتَلَقَّوْنَ عِبادَ اللَّهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿فاطِرِ السَّماواتِ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: مَعْناهُ مُبْدِعُها كَما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ شاقِّهِما لِنُزُولِ الأرْواحِ مِنَ السَّماءِ وخُرُوجِ الأجْسادِ مِنَ الأرْضِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ فَإنَّ في ذَلِكَ اليَوْمِ تَكُونُ المَلائِكَةُ رُسُلًا، وعَلى هَذا فَأوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ ما مَضى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ بَيانٌ لِانْقِطاعِ رَجاءِ مَن كانَ في شَكٍّ مُرِيبٍ وتَيَقُّنِهِ بِأنْ لا قَبُولَ لِتَوْبَتِهِ ولا فائِدَةَ لِقَوْلِهِ آمَنتُ. كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿وقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ﴾ [سبأ: ٥٢] فَلَمّا ذَكَرَ حالَهم بَيَّنَ حالَ المُوقِنِ وبَشَّرَهُ بِإرْسالِهِ المَلائِكَةَ إلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ، وبَيَّنَ أنَّهُ يَفْتَحُ لَهم أبْوابَ الرَّحْمَةِ. * * * (p-٤) ﴿أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ أقَلُّ ما يَكُونُ لِذِي الجَناحِ أنْ يَكُونَ لَهُ جَناحانِ وما بَعْدَهُما زِيادَةٌ، وقالَ قَوْمٌ فِيهِ إنَّ الجَناحَ إشارَةٌ إلى الجِهَةِ، وبَيانُهُ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وكُلُّ شَيْءٍ فَهو تَحْتَ قُدْرَتِهِ ونِعْمَتِهِ، والمَلائِكَةُ لَهم وجْهٌ إلى اللَّهِ يَأْخُذُونَ مِنهُ نِعَمَهُ ويُعْطُونَ مَن دُونَهم مِمّا أخَذُوهُ بِإذْنِ اللَّهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [ الشُّعَراءِ: ١٩٣ - ١٩٤] وقَوْلِهِ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ [النجم: ٥] وقالَ تَعالى في حَقِّهِمْ: ﴿فالمُدَبِّراتِ أمْرًا﴾ [النازعات: ٥] فَهُما جَناحانِ، وفِيهِمْ مَن يَفْعَلُ ما يَفْعَلُ مِنَ الخَيْرِ بِواسِطَةٍ، وفِيهِمْ مَن يَفْعَلُهُ لا بِواسِطَةٍ، فالفاعِلُ بِواسِطَةٍ فِيهِ ثَلاثُ جِهاتٍ، ومِنهم مَن لَهُ أرْبَعُ جِهاتٍ وأكْثَرُ، والظّاهِرُ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا وهو الَّذِي عَلَيْهِ إطْباقُ المُفَسِّرِينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ﴾ مِنَ المُفَسِّرِينَ مَن خَصَّصَهُ وقالَ: المُرادُ الوَجْهُ الحَسَنُ، ومِنهم مَن قالَ: الصَّوْتُ الحَسَنُ، ومِنهم مَن قالَ: كُلُّ وصْفٍ مَحْمُودٍ، والأوْلى أنْ يُعَمَّمَ، ويُقالَ: اللَّهُ تَعالى قادِرٌ كامِلٌ يَفْعَلُ ما يَشاءُ، فَيَزِيدُ ما يَشاءُ ويَنْقُصُ ما يَشاءُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يُقَرِّرُ قَوْلَهُ: ﴿يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ . لَمّا بَيَّنَ كَمالَ القُدْرَةِ ذَكَرَ بَيانَ نُفُوذِ المَشِيئَةِ ونَفاذِ الأمْرِ، وقالَ: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ، يَعْنِي إنْ رَحِمَ فَلا مانِعَ لَهُ، وإنْ لَمْ يَرْحَمْ فَلا باعِثَ لَهُ عَلَيْها، وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى سَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: التَّقْدِيمُ حَيْثُ قَدَّمَ بَيانَ فَتْحِ أبْوابِ الرَّحْمَةِ في الذِّكْرِ، وهو وإنْ كانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ وجْهٌ مِن وُجُوهِ الفَضْلِ. وثانِيها: هو أنَّهُ أنَّثَ الكِنايَةَ في الأوَّلِ فَقالَ: ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها﴾ وجازَ مِن حَيْثُ العَرَبِيَّةُ أنْ يُقالَ لَهُ ويَكُونُ عائِدًا إلى ما، ولَكِنْ قالَ تَعالى: (لَها) لِيُعْلَمَ أنَّ المَفْتُوحَ أبْوابُ الرَّحْمَةِ ولا مُمْسِكَ لِرَحْمَتِهِ فَهي وصْلَةٌ إلى مَن رَحِمَتْهُ، وقالَ عِنْدَ الإمْساكِ ﴿وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ بِالتَّذْكِيرِ ولَمْ يَقُلْ لَهُما فَما صَرَّحَ بِأنَّهُ لا مُرْسِلَ لِلرَّحْمَةِ، بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ الَّذِي لا يُرْسِلُ هو غَيْرُ الرَّحْمَةِ فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما يُمْسِكْ﴾ عامٌّ مِن غَيْرِ بَيانٍ وتَخْصِيصٍ بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ فَإنَّهُ مُخَصَّصٌ مُبَيَّنٌ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ مِن بَعْدِ اللَّهِ، فاسْتَثْنى هَهُنا وقالَ: لا مُرْسِلَ لَهُ إلّا اللَّهُ فَنَزَلَ لَهُ مُرْسَلًا. وعِنْدَ الإمْساكِ قالَ: لا مُمْسِكَ لَها، ولَمْ يَقُلْ: غَيْرُ اللَّهِ لِأنَّ الرَّحْمَةَ إذا جاءَتْ لا تَرْتَفِعُ فَإنَّ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ في الآخِرَةِ لا يُعَذِّبُهُ بَعْدَها هو ولا غَيْرُهُ، ومَن يُعَذِّبُهُ اللَّهُ فَقَدْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ بَعْدَ العَذابِ كالفُسّاقِ مِن أهْلِ الإيمانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب