الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أافْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذابِ والضَّلالِ البَعِيدِ﴾ هَذا يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ تَمامَ قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أوَّلًا أعْنِي هو مِن كَلامِ مَن قالَ: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ﴾ ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ السّامِعِ المُجِيبِ لِمَن قالَ: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ﴾ كَأنَّ السّامِعَ لَمّا سَمِعَ قَوْلَ القائِلِ: ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ﴾ قالَ لَهُ: أهُوَ يَفْتَرِي عَلى اللَّهِ كَذِبًا ؟ إنْ كانَ يَعْتَقِدُ خِلافَهُ، أمْ بِهِ جَنَّةٌ [ أيْ ] جُنُونٌ ؟ إنْ كانَ لا يَعْتَقِدُ خِلافَهُ (وفي هَذا لَطِيفَةٌ) وهي أنَّ الكافِرَ لا يَرْضى بِأنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ، ولِهَذا قَسَمَ ولَمْ يَجْزِمْ بِأنَّهُ مُفْتَرٍ، بَلْ قالَ مُفْتَرٍ أوْ مَجْنُونٌ، احْتِرازًا مِن أنْ يَقُولَ قائِلٌ: كَيْفَ يَقُولُ بِأنَّهُ مُفْتَرٍ، مَعَ أنَّهُ جائِزٌ أنْ يَظُنَّ أنَّ الحَقَّ ذَلِكَ فَظَنُّ الصِّدْقِ يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ القائِلِ مُفْتَرِيًا وكاذِبًا في بَعْضِ المَواضِعِ، ألا تَرى أنَّ مَن يَقُولُ: جاءَ زَيْدٌ، فَإذا تَبَيَّنَ أنَّهُ لَمْ يَجِئْ وقِيلَ لَهُ: كَذَبْتَ، يَقُولُ: ما كَذَبْتُ، وإنَّما سَمِعْتُ مِن فُلانٍ أنَّهُ جاءَ، فَظَنَنْتُ أنَّهُ صادِقٌ فَيَدْفَعُ الكَذِبَ عَنْ نَفْسِهِ بِالظَّنِّ، فَهُمُ احْتَرَزُوا عَنْ تَبَيُّنِ كَذِبِهِمْ، فَكُلُّ عاقِلٍ يَنْبَغِي أنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ظُهُورِ كَذِبِهِ عِنْدَ النّاسِ، ولا يَكُونُ العاقِلُ أدْنى دَرَجَةً مِنَ الكافِرِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أجابَهم مَرَّةً أُخْرى وقالَ: ﴿بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذابِ﴾ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِمْ: ﴿أافْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ وقَوْلُهُ: ﴿والضَّلالِ البَعِيدِ﴾ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِمْ: ﴿بِهِ جِنَّةٌ﴾ وكِلاهُما مُناسِبٌ. أمّا العَذابُ؛ فَلِأنَّ نِسْبَةَ الكَذِبِ إلى الصّادِقِ مُؤْذِيَةٌ؛ لِأنَّهُ شَهادَةٌ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَسْتَحِقُّ العَذابَ فَجُعِلَ العَذابُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَسَبُوهُ إلى الكَذِبِ. وأمّا الجُنُونُ فَلِأنَّ نِسْبَةَ الجُنُونِ إلى العاقِلِ دُونَهُ في الإيذاءِ؛ لِأنَّهُ لا يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يُعَذَّبُ، ولَكِنْ يَنْسُبُهُ إلى عَدَمِ الهِدايَةِ فَبَيَّنَ أنَّهم هُمُ الضّالُّونَ، ثُمَّ وصَفَ ضَلالَهم بِالبُعْدِ؛ لِأنَّ مَن يُسَمِّي المُهْتَدِي ضالًّا يَكُونُ هو الضّالَّ، فَمَن يُسَمِّي الهادِيَ ضالًّا يَكُونُ أضَلَّ، (p-٢١٢)والنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ هادِيَ كُلِّ مُهْتَدٍ. ﴿أفَلَمْ يَرَوْا إلى ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ لَمّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِكَوْنِهِ عالِمَ الغَيْبِ وكَوْنِهِ جازِيًا عَلى السَّيِّئاتِ والحَسَناتِ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ وذَكَرَ فِيهِ تَهْدِيدًا. أمّا الدَّلِيلُ فَقَوْلُهُ: ﴿مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ فَإنَّهُما يَدُلّانِ عَلى الوَحْدانِيَّةِ كَما بَيَّنّاهُ مِرارًا، وكَما قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥] ويَدُلّانِ عَلى الحَشْرِ لِأنَّهُما يَدُلّانِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ ومِنها الإعادَةُ، وقَدْ ذَكَرْناهُ مِرارًا، وقالَ تَعالى: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] وأمّا التَّهْدِيدُ فَبِقَوْلِهِ: ﴿إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ﴾ يَعْنِي نَجْعَلُ عَيْنَ نافِعِهِمْ ضارَّهم بِالخَسْفِ والكِسَفِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ أيْ لِكُلِّ مَن يَرْجِعُ إلى اللَّهِ ويَتْرُكُ التَّعَصُّبَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ مَن يُنِيبُ مِن عِبادِهِ، ذَكَرَ مِنهم مَن أنابَ وأصابَ ومِن جُمْلَتِهِمْ داوُدُ كَما قالَ تَعالى عَنْهُ: ﴿فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ [ص: ٢٤] وبَيَّنَ ما آتاهُ اللَّهُ عَلى إنابَتِهِ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا ياجِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ وألَنّا لَهُ الحَدِيدَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنّا﴾ إشارَةٌ إلى بَيانِ فَضِيلَةِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَقْرِيرُهُ هو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا﴾ مُسْتَقِلٌّ بِالمَفْهُومِ وتامٌّ كَما يَقُولُ القائِلُ: آتى المَلِكُ زَيْدًا خِلْعَةً، فَإذا قالَ القائِلُ: آتاهُ مِنهُ خِلْعَةً يُفِيدُ أنَّهُ كانَ مِن خاصِّ ما يَكُونُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إيتاءُ اللَّهِ الفَضْلَ عامٌّ، لَكِنَّ النُّبُوَّةَ مِن عِنْدِهِ خاصٌّ بِالبَعْضِ، ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُبَشِّرُهم رَبُّهم بِرَحْمَةٍ مِنهُ ورِضْوانٍ﴾ [التوبة: ٢١] فَإنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ واسِعَةٌ تَصِلُ إلى كُلِّ أحَدٍ في الدُّنْيا لَكِنَّ رَحْمَتَهُ في الآخِرَةِ عَلى المُؤْمِنِينَ رَحْمَةٌ مِن عِنْدِهِ لِخَواصِّهِ فَقالَ: ﴿يُبَشِّرُهم رَبُّهم بِرَحْمَةٍ مِنهُ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿ياجِبالُ أوِّبِي مَعَهُ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ”يا جِبالُ“ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَضْلًا﴾ مَعْناهُ آتَيْناهُ فَضْلًا، قَوْلُنا: يا جِبالُ، أوْ مَن آتَيْنا ومَعْناهُ قُلْنا: يا جِبالُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قُرِئَ أوِّبِي بِتَشْدِيدِ الواوِ مِنَ التَّأْوِيبِ وبِسُكُونِها وضَمِّ الهَمْزَةِ: أُوبِي مِنَ الأوْبِ وهو الرُّجُوعُ، والتَّأْوِيبُ التَّرْجِيعُ، وقِيلَ بِأنَّ مَعْناهُ سِيرِي مَعَهُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] قالُوا: هو مِنَ السِّباحَةِ وهي الحَرَكَةُ المَخْصُوصَةُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ ﴿والطَّيْرَ﴾ بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلى مَحَلِّ المُنادى، والطَّيْرُ بِالرَّفْعِ حَمْلًا عَلى لَفْظِهِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: لَمْ يَكُنِ المُوافِقُ لَهُ في التَّأْوِيبِ مُنْحَصِرًا في الجِبالِ والطَّيْرِ ولَكِنْ ذَكَرَ الجِبالَ؛ لِأنَّ الصُّخُورَ لِلْجُمُودِ، والطَّيْرَ لِلنُّفُورِ تُسْتَبْعَدُ مِنهُما المُوافَقَةُ، فَإذا وافَقَهُ هَذِهِ الأشْياءُ فَغَيْرُها أوْلى، ثُمَّ إنَّ مِنَ النّاسِ مَن لَمْ يُوافِقْهُ وهُمُ القاسِيَةُ قُلُوبُهُمُ الَّتِي هي أشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الحِجارَةِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وألَنّا لَهُ الحَدِيدَ﴾ عَطْفٌ، والمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ”قُلْنا“ المُقَدَّرَ في قَوْلِهِ: ”﴿ياجِبالُ﴾“ تَقْدِيرُهُ: قُلْنا: ﴿ياجِبالُ﴾ أوِّبِي وألَنّا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى آتَيْنا تَقْدِيرُهُ آتَيْناهُ فَضْلًا وألَنّا لَهُ. (p-٢١٣) المَسْألَةُ السّابِعَةُ: ألانَ اللَّهُ لَهُ الحَدِيدَ حَتّى كانَ في يَدِهِ كالشَّمْعِ وهو في قُدْرَةِ اللَّهُ يَسِيرٌ، فَإنَّهُ يَلِينُ بِالنّارِ ويَنْحَلُّ حَتّى يَصِيرَ كالمِدادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، فَأيُّ عاقِلٍ يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ، قِيلَ: إنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أنْ يُغْنِيَهُ عَنْ أكْلِ مالِ بَيْتِ المالِ فَألانَ لَهُ الحَدِيدَ وعَلَّمَهُ صَنْعَةَ اللَّبُوسِ وهي الدُّرُوعُ، وإنَّما اخْتارَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ وِقايَةٌ لِلرُّوحِ الَّتِي هي مِن أمْرِهِ وسَعْيٌ في حِفْظِ الآدَمِيِّ المُكَرَّمِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ القَتْلِ، فالزَّرّادُ خَيْرٌ مِنَ القَوّاسِ والسَّيّافِ وغَيْرِهِما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب