الباحث القرآني
(p-٢٣٥)
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإنَّما أضِلُّ عَلى نَفْسِي وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ هَذا فِيهِ تَقْرِيرُ الرِّسالَةِ أيْضًا وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ عَلى سَبِيلِ العُمُومِ: ﴿فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ﴾ [الزمر: ٤١] وقالَ في حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي﴾ يَعْنِي ضَلالِي عَلى نَفْسِي كَضَلالِكم، وأمّا اهْتِدائِي فَلَيْسَ بِالنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ كاهْتِدائِكم، وإنَّما هو بِالوَحْيِ المُبِينِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ سَمِيعٌ﴾ أيْ يَسْمَعُ إذا نادَيْتُهُ واسْتَعْدَيْتُ بِهِ عَلَيْكم قَرِيبٌ يَأْتِيكم مِن غَيْرِ تَأْخِيرٍ، لَيْسَ يَسْمَعُ عَنْ بُعْدٍ ولا يَلْحَقُ الدّاعِيَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ .
لَمّا قالَ: ﴿سَمِيعٌ﴾ قالَ: هو قَرِيبٌ فَإنْ لَمْ يُعَذِّبْ عاجِلًا ولا يُعِينُ صاحِبَ الحَقِّ في الحالِ فَيَوْمُ الفَزَعِ آتٍ لا فَوْتَ، وإنَّما يَسْتَعْجِلُ مَن يَخافُ الفَوْتَ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ تَرى﴾ جَوابُهُ مَحْذُوفٌ أيْ: تَرى عَجَبًا ﴿وأُخِذُوا مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ لا يَهْرُبُونَ وإنَّما الأخْذُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الهَرَبِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾
أيْ بَعْدَ ظُهُورِ الأمْرِ حَيْثُ لا يَنْفَعُ إيمانٌ قالُوا آمَنّا، ﴿وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ﴾ أيْ كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلى الظَّفَرِ بِالمَطْلُوبِ وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا في الدُّنْيا وهم في الآخِرَةِ ؟ والدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ بَعِيدَةٌ، فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قالَ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ: إنَّ الآخِرَةَ مِنَ الدُّنْيا قَرِيبَةٌ، ولِهَذا سَمّاها اللَّهُ السّاعَةَ وقالَ: ﴿لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧] نَقُولُ: الماضِي كالأمْسِ الدّابِرِ بَعْدَما يَكُونُ إذْ لا وُصُولَ إلَيْهِ، والمُسْتَقْبَلُ وإنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الحاضِرِ سِنِينَ فَإنَّهُ آتٍ، فَيَوْمَ القِيامَةِ الدُّنْيا بَعِيدَةٌ لِمُضِيِّها وفي الدُّنْيا يَوْمُ القِيامَةِ قَرِيبٌ لِإتْيانِهِ، والتَّناوُشُ هو التَّناوُلُ عَنْ قُرْبٍ. وقِيلَ عَنْ بُعْدٍ، ولَمّا جَعَلَ اللَّهُ الفِعْلَ مَأْخُوذًا كالجِسْمِ جَعَلَ ظَرْفَ الفِعْلِ وهو الزَّمانُ كَظَرْفِ الجِسْمِ وهو المَكانُ فَقالَ: ﴿مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ والمُرادُ ما مَضى مِنَ الدُّنْيا.
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ إيمانَهم لا نَفْعَ فِيهِ بِسَبَبِ أنَّهم كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ، والإشارَةُ في قَوْلِهِ: ﴿آمَنّا بِهِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ﴾ إلى شَيْءٍ واحِدٍ، إمّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإمّا القُرْآنُ وإمّا الحَقُّ الَّذِي أتى بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو أقْرَبُ وأوْلى، وقَوْلُهُ: ﴿ويَقْذِفُونَ بِالغَيْبِ﴾ ضِدُّ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ؛ لِأنَّ الغَيْبَ يَنْزِلُ مِنَ اللَّهِ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ، فَيَقْذِفُهُ اللَّهُ في القُلُوبِ ويَقْبَلُهُ المُؤْمِنُ، وأمّا الكافِرُ فَهو يَقْذِفُ بِالغَيْبِ، أيْ يَقُولُ ما لا يَعْلَمُهُ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنَّ مَأْخَذَهم بَعِيدٌ أخَذُوا الشَّرِيكَ مِن أنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى أعْمالٍ كَثِيرَةٍ إلّا إذا كانُوا أشْخاصًا كَثِيرَةً، فَكَذَلِكَ المَخْلُوقاتُ الكَثِيرَةُ وأخَذُوا بَعْدَ الإعادَةِ مِن حالِهِمْ وعَجْزِهِمْ عَنِ الإحْياءِ، فَإنَّ المَرِيضَ يُداوى فَإذا ماتَ لا يُمْكِنُهم إعادَةُ الرُّوحِ إلَيْهِ، وقِياسُ اللَّهِ عَلى المَخْلُوقاتِ بَعِيدُ المَأْخَذِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ: إنَّهم كانُوا يَقُولُونَ بِأنَّ السّاعَةَ إذا كانَتْ قائِمَةً فالثَّوابُ والنَّعِيمُ لَنا، كَقَوْلِ قائِلِهِمْ: ﴿ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾ فَكانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فَإنْ كانَ مِن قَوْلِ الرَّسُولِ فَما (p-٢٣٦)كانَ ذَلِكَ عِنْدَهم حَتّى يَقُولُوا عَنْ إحْساسٍ فَإنَّ ما لا يَجِبُ عَقْلًا لا يُعْلَمُ إلّا بِالإحْساسِ أوْ بِقَوْلِ الصّادِقِ، فَهم كانُوا يَقُولُونَ عَنِ الغَيْبِ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ، فَإنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتَ أنَّ الآخِرَةَ قَرِيبٌ فَكَيْفَ قالَ: مِن مَكانٍ بَعِيدٍ ؟ نَقُولُ: الجَوابَ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ عِنْدَ مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ومَن لَمْ يُؤْمِن لا يُمْكِنُهُ التَّصْدِيقُ بِهِ فَيَكُونُ بَعِيدًا عِنْدَهُ.
الثّانِي: أنَّ الحِكايَةَ يَوْمَ القِيامَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: كانُوا يَقْذِفُونَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ وهو الدُّنْيا، ويَحْتَمِلُ وجْهًا آخَرَ وهو أنَّهم في الآخِرَةِ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا﴾ [السجدة: ١٢] وهو قَذْفٌ بِالغَيْبِ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ وهو الدُّنْيا.
﴿وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا في شَكٍّ مُرِيبٍ﴾
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ﴾ مِنَ العَوْدِ إلى الدُّنْيا أوْ بَيْنَ لَذّاتِ الدُّنْيا، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ ما يَشْتَهُونَ مِنَ العَوْدِ مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا في شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ وما حِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ العَوْدِ ؟ قُلْنا: لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ ما حِيلَ بَيْنَهم، بَلْ كُلُّ مَن جاءَهُ المَلِكُ طَلَبَ التَّأْخِيرَ ولَمْ يُعْطَ وأرادُوا أنْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ ظُهُورِ اليَأْسِ ولَمْ يُقْبَلْ، وقَوْلُهُ: ﴿مُرِيبٍ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: ذِي رَيْبٍ.
والثّانِي: مُوقِعٌ في الرَّيْبِ، وسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ وصَلاتُهُ عَلى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وآلِهِ وصَحْبِهِ وأزْواجِهِ أجْمَعِينَ.
{"ayahs_start":50,"ayahs":["قُلۡ إِن ضَلَلۡتُ فَإِنَّمَاۤ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفۡسِیۖ وَإِنِ ٱهۡتَدَیۡتُ فَبِمَا یُوحِیۤ إِلَیَّ رَبِّیۤۚ إِنَّهُۥ سَمِیعࣱ قَرِیبࣱ","وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ فَزِعُوا۟ فَلَا فَوۡتَ وَأُخِذُوا۟ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ","وَقَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ","وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِهِۦ مِن قَبۡلُۖ وَیَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَیۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ","وَحِیلَ بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ مَا یَشۡتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشۡیَاعِهِم مِّن قَبۡلُۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ فِی شَكࣲّ مُّرِیبِۭ"],"ayah":"وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِهِۦ مِن قَبۡلُۖ وَیَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَیۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق