الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكم إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ . لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ ما بِهِ جِنَّةٌ لِيَلْزَمَ مِنهُ كَوْنُهُ نَبِيًّا ذَكَرَ وجْهًا آخَرَ يَلْزَمُ مِنهُ أنَّهُ نَبِيٌّ إذا لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا، فالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِدَعْواهُ النُّبُوَّةَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ عُرْضَةً لِلْهَلاكِ عاجِلًا، فَإنَّ كُلَّ أحَدٍ يَقْصِدُهُ ويُعادِيهِ ولا يَطْلُبُ أجْرًا في الدُّنْيا فَهو يَفْعَلُهُ لِلْآخِرَةِ، والكاذِبُ في الآخِرَةِ مُعَذَّبٌ لا مُثابٌ، فَلَوْ كانَ كاذِبًا لَكانَ مَجْنُونًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَلَيْسَ بِكاذِبٍ، فَهو نَبِيٌّ صادِقٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ تَقْرِيرٌ آخَرُ لِلرِّسالَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الرِّسالَةَ لا تَثْبُتُ إلّا بِالدَّعْوى والبَيِّنَةِ، بِأنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ النُّبُوَّةَ ويُظْهِرَ اللَّهُ لَهُ المُعْجِزَةَ فَهي بَيِّنَةٌ شاهِدَةٌ والتَّصْدِيقُ بِالفِعْلِ يَقُومُ مَقامَ التَّصْدِيقِ بِالقَوْلِ في إفادَةِ العِلْمِ بِدَلِيلِ أنَّ مَن قالَ لِقَوْمٍ: إنِّي مُرْسَلٌ مِن هَذا المَلِكِ إلَيْكم أُلْزِمُكم قَبُولَ قَوْلِي والمَلِكُ حاضِرٌ ناظِرٌ، ثُمَّ قالَ لِلْمَلِكِ: أيُّها المَلِكُ إنْ كُنْتُ أنا رَسُولَكَ إلَيْهِمْ فَقُلْ لَهم: إنِّي رَسُولُكَ، فَإذا قالَ إنَّهُ رَسُولِي إلَيْكم لا يَبْقى فِيهِ شَكٌّ، كَذَلِكَ إذا قالَ: يا أيُّها المَلِكُ إنْ كُنْتُ أنا رَسُولَكَ إلَيْهِمْ فَألْبِسْنِي قَباءَكَ فَلَوْ ألْبَسَهُ قَباءَهُ في عَقِبِ كَلامِهِ يَجْزِمُ النّاسُ بِأنَّهُ رَسُولُهُ، كَذَلِكَ حالُ الرَّسُولِ إذا قالَ الأنْبِياءُ لِقَوْمِهِمْ: نَحْنُ رُسُلُ اللَّهِ، ثُمَّ قالُوا: يا إلَهَنا إنْ كُنّا رُسُلَكَ فَأنْطِقْ هَذِهِ الحِجارَةَ أوْ أنْشِرْ هَذا المَيِّتَ فَفَعَلَهُ؛ حَصَلَ الجَزْمُ بِأنَّهُ صَدَّقَهُ. ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: يَقْذِفُ بِالحَقِّ في قُلُوبِ المُحِقِّينَ، وعَلى هَذا الوَجْهِ لِلْآيَةِ بِما قَبْلَها تَعَلُّقٌ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ رِسالَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ هو إلّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ [سبأ: ٤٦] وأكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكُمْ﴾ وكانَ مِن عادَةِ المُشْرِكِينَ اسْتِبْعادُ تَخْصِيصِ واحِدٍ مِن بَيْنِهِمْ بِإنْزالِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا﴾ [ص: ٨] ذَكَرَ ما يَصْلُحُ جَوابًا لَهم فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ﴾ أيْ في القُلُوبِ؛ إشارَةً إلى أنَّ الأمْرَ بِيَدِهِ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ويُعْطِي ما يَشاءُ لِمَن يَشاءُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ إشارَةً إلى جَوابِ سُؤالٍ فاسِدٍ يُذْكَرُ عَلَيْهِ وهو أنَّ مَن يَفْعَلُ شَيْئًا كَما يُرِيدُ مِن غَيْرِ اخْتِصاصِ مَحَلِّ الفِعْلِ بِشَيْءٍ لا يُوجَدُ في غَيْرِهِ لا يَكُونُ عالِمًا وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ اتِّفاقًا، كَما إذا أصابَ السَّهْمُ مَوْضِعًا دُونَ غَيْرِهِ مَعَ تَسْوِيَةِ المَواضِعِ في المُحاذاةِ فَقالَ: ﴿يَقْذِفُ بِالحَقِّ﴾ كَيْفَ يَشاءُ وهو عالِمٌ بِما يَفْعَلُهُ وعالِمٌ بِعَواقِبِ ما يَفْعَلُهُ فَهو يَفْعَلُ ما يُرِيدُ لا كَما يَفْعَلُهُ الهاجِمُ الغافِلُ عَنِ العَواقِبِ إذْ هو عَلّامُ الغُيُوبِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ هو أنَّهُ يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ كَما قالَ في سُورَةِ الأنْبِياءِ: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى﴾ (p-٢٣٤)﴿الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: ١٨] وعَلى هَذا تَعَلُّقُ الآيَةِ بِما قَبْلَها أيْضًا ظاهِرٌ وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ بَراهِينَ التَّوْحِيدِ لَمّا ظَهَرَتْ ودَحَضَتْ شُبَهَهم قالَ: ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ﴾ أيْ عَلى باطِلِكم، وقَوْلُهُ: ﴿عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ عَلى هَذا الوَجْهِ لَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ وهو أنَّ البُرْهانَ الباهِرَ المَعْقُولَ الظّاهِرَ لَمْ يَقُمْ إلّا عَلى التَّوْحِيدِ والرِّسالَةِ، وأمّا الحَشْرُ فَعَلى وُقُوعِهِ لا بُرْهانَ غَيْرُ إخْبارِ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ، وعَنْ أحْوالِهِ وأهْوالِهِ، ولَوْلا بَيانُ اللَّهِ بِالقَوْلِ لَما بانَ لِأحَدٍ بِخِلافِ التَّوْحِيدِ والرِّسالَةِ، فَلَمّا قالَ: ﴿يَقْذِفُ بِالحَقِّ﴾ أيْ عَلى الباطِلِ، إشارَةً إلى ظُهُورِ البَراهِينِ عَلى التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ قالَ: ﴿عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ أيْ ما يُخْبِرُهُ عَنِ الغَيْبِ وهو قِيامُ السّاعَةِ وأحْوالُها، فَهو لا خُلْفَ فِيهِ، فَإنَّ اللَّهَ عَلّامُ الغُيُوبِ، والآيَةُ تَحْتَمِلُ تَفْسِيرًا آخَرَ وهو أنْ يُقالَ: ﴿رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ﴾ أيْ ما يَقْذِفُهُ يَقْذِفُهُ بِالحَقِّ لا بِالباطِلِ، والباءُ عَلى الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالمَفْعُولِ بِهِ؛ أيِ: الحَقُّ مَقْذُوفٌ، وعَلى هَذا الباءُ فِيهِ كالباءِ في قَوْلِهِ: ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ﴾ [الزمر: ٦٩] وفي قَوْلِهِ: ﴿فاحْكم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ﴾ [ص: ٢٦] والمَعْنى عَلى هَذا الوَجْهِ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى قَذَفَ ما قَذَفَ في قَلْبِ الرُّسُلِ وهو عَلّامُ الغُيُوبِ يَعْلَمُ ما في قُلُوبِهِمْ وما في قُلُوبِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب