الباحث القرآني

ثُمَّ بَيَّنَ فَسادَ اسْتِدْلالِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أمْوالُكم ولا أوْلادُكم بِالَّتِي تُقَرِّبُكم عِنْدَنا زُلْفى إلّا مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَأُولَئِكَ لَهم جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وهم في الغُرُفاتِ آمِنُونَ﴾ . يَعْنِي قَوْلَكم: نَحْنُ أكْثَرُ أمْوالًا فَنَحْنُ أحْسَنُ عِنْدَ اللَّهِ حالًا لَيْسَ اسْتِدْلالًا صَحِيحًا، فَإنَّ المالَ لا يُقَرِّبُ إلى اللَّهِ ولا اعْتِبارَ بِالتَّعَزُّزِ بِهِ، وإنَّما المُفِيدُ العَمَلُ الصّالِحُ بَعْدَ الإيمانِ والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هو أنَّ المالَ والوَلَدَ يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ فَيُبْعِدُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُقَرِّبُ مِنهُ، والعَمَلُ الصّالِحُ إقْبالٌ عَلى اللَّهِ واشْتِغالٌ بِاللَّهِ ومَن تَوَجَّهَ إلى اللَّهِ وصَلَ ومَن طَلَبَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا حَصَلَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ لَهم جَزاءُ الضِّعْفِ﴾ أيِ الحَسَنَةُ فَإنَّ الضَّعْفَ لا يَكُونُ إلّا في الحَسَنَةِ وفي السَّيِّئَةِ لا يَكُونُ إلّا المِثْلُ. ثُمَّ زادَ وقالَ: ﴿وهم في الغُرُفاتِ آمِنُونَ﴾ إشارَةً إلى دَوامِ النَّعِيمِ وتَأْبِيدِهِ، فَإنَّ مَن تَنْقَطِعُ عَنْهُ النِّعْمَةُ لا يَكُونُ آمِنًا. ﴿والَّذِينَ يَسْعَوْنَ في آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولَئِكَ في العَذابِ مُحْضَرُونَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ حالَ المُسِيءِ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَسْعَوْنَ في آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولَئِكَ في العَذابِ مُحْضَرُونَ﴾ . وقَدْ ذَكَرْنا تَفْسِيرَهُ، وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ في العَذابِ مُحْضَرُونَ﴾ إشارَةٌ إلى الدَّوامِ أيْضًا كَما قالَ تَعالى: ﴿كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها أُعِيدُوا فِيها﴾ [السجدة: ٢٠] وكَما قالَ تَعالى: ﴿وما هم عَنْها بِغائِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٦] . ثُمَّ قالَ تَعالى مَرَّةً أُخْرى: ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهو يُخْلِفُهُ وهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ إشارَةً إلى أنَّ نَعِيمَ الآخِرَةِ لا يُنافِي نِعْمَةَ الدُّنْيا، بَلِ الصّالِحُونَ قَدْ يَحْصُلُ لَهم في الدُّنْيا النِّعَمُ مَعَ القَطْعِ بِحُصُولِ النَّعِيمِ لَهم في العُقْبى بِناءً عَلى الوَعْدِ، قَطْعًا لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إذا كانَتِ العاجِلَةُ لَنا والآجِلَةُ لَهم فالنَّقْدُ أوْلى، فَقالَ: هَذا النَّقْدُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِكم فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ الأشْقِياءِ مُدْقَعُونَ، وكَثِيرٌ مِنَ الأتْقِياءِ مُمَتَّعُونَ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ هَذا المَعْنى مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِبَيانِ أنَّ كَثْرَةَ أمْوالِهِمْ وأوْلادِهِمْ غَيْرُ دالَّةٍ عَلى حُسْنِ أحْوالِهِمْ واعْتِقادِهِمْ، ومَرَّةً لِبَيانِ أنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِمْ، كَأنَّهُ قالَ: وُجُودُ التَّرَفِ لا يَدُلُّ عَلى الشَّرَفِ، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنا أنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ المُؤْمِنِينَ سَيَحْصُلُ لَهم ذَلِكَ، فَإنَّ اللَّهَ يُمَلِّكُهم دِيارَكم وأمْوالَكم، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَذْكُرْ أوَّلًا لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، بَلْ قالَ لِمَن يَشاءُ، وثانِيًا قالَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، والعِبادُ المُضافَةُ (p-٢٢٨)يُرادُ بِها المُؤْمِنُ، ثُمَّ وعَدَ المُؤْمِنَ بِخِلافِ ما لِلْكافِرِ، فَإنَّ الكافِرَ دابِرُهُ مَقْطُوعٌ، ومالُهُ إلى الزَّوالِ، ومَآلُهُ إلى الوَبالِ. وأمّا المُؤْمِنُ فَما يُنْفِقُهُ يُخْلِفُهُ اللَّهُ، ومُخْلَفُ اللَّهِ خَيْرٌ، فَإنَّ ما في يَدِ الإنْسانِ في مَعْرِضِ البَوارِ والتَّلَفِ وهُما لا يَتَطَرَّقانِ إلى ما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الخَلَفِ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ وخَيْرِيَّةُ الرّازِقِ في أُمُورٍ: أحَدُها: أنْ لا يُؤَخِّرَ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ. والثّانِي: أنْ لا يَنْقُصَ عَنْ قَدَرِ الحاجَةِ. والثّالِثُ: أنْ لا يُنَكِّدَهُ بِالحِسابِ. والرّابِعُ: أنْ لا يُكَدِّرَهُ بِطَلَبِ الثَّوابِ، واللَّهُ تَعالى كَذَلِكَ. أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّهُ عالِمٌ وقادِرٌ. والثّانِي: فَلِأنَّهُ غَنِيٌّ واسِعٌ. والثّالِثُ: فَلِأنَّهُ كَرِيمٌ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ وما ذَكَرْنا هو المُرادُ، أيْ يَرْزُقُهُ حَلالًا لا يُحاسِبُهُ عَلَيْهِ. والرّابِعُ: فَلِأنَّهُ عَلِيٌّ كَبِيرٌ والثَّوابُ يَطْلُبُهُ الأدْنى مِنَ الأعْلى، ألا تَرى أنَّ هِبَةَ الأعْلى مِنَ الأدْنى لا تَقْتَضِي ثَوابًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهو يُخْلِفُهُ﴾ يُحَقِّقُ مَعْنى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«ما مِن يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ إلّا ومَلَكانِ يَنْزِلانِ، يَقُولُ أحَدُهُما اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» “ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى مَلِكٌ عَلِيٌّ وهو غَنِيٌّ مَلِيٌّ، فَإذا قالَ: أنْفِقْ وعَلَيَّ بَدَلُهُ فَبِحُكْمِ الوَعْدِ يَلْزَمُهُ، كَما إذا قالَ قائِلٌ: ألْقِ مَتاعَكَ في البَحْرِ وعَلَيَّ ضَمانُهُ، فَمَن أنْفَقَ فَقَدْ أتى بِما هو شَرْطُ حُصُولِ البَدَلِ فَيَحْصُلُ البَدَلُ، ومَن لَمْ يُنْفِقْ فالزَّوالُ لازِمٌ لِلْمالِ ولَمْ يَأْتِ بِما يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مِنَ البَدَلِ فَيَفُوتُ مِن غَيْرِ خَلَفٍ وهو التَّلَفُ، ثُمَّ إنَّ مِنَ العَجَبِ أنَّ التّاجِرَ إذا عَلِمَ أنَّ مالًا مِن أمْوالِهِ في مَعْرِضِ الهَلاكِ يَبِيعُهُ نَسِيئَةً، وإنْ كانَ مِنَ الفُقَراءِ ويَقُولُ بِأنَّ ذَلِكَ أوْلى مِنَ الإمْهالِ إلى الهَلاكِ، فَإنْ لَمْ يَبِعْ حَتّى يَهْلَكَ يُنْسَبْ إلى الخَطَأِ، ثُمَّ إنْ حَصَلَ بِهِ كَفِيلٌ مَلِيءٌ ولا يَبِيعُ يُنْسَبُ إلى قِلَّةِ العَقْلِ، فَإنْ حَصَلَ بِهِ رَهْنٌ وكَتَبَ بِهِ وثِيقَةً ولا يَبِيعُهُ يُنْسَبْ إلى الجُنُونِ، ثُمَّ إنَّ كُلَّ أحَدٍ يَفْعَلُ هَذا ولا يَعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنَ الجُنُونِ، فَإنَّ أمْوالَنا كُلَّها في مَعْرِضِ الزَّوالِ المُحَقَّقِ، والإنْفاقُ عَلى الأهْلِ والوَلَدِ إقْراضٌ، وقَدْ حَصَلَ الضّامِنُ المَلِيءُ وهو اللَّهُ العَلِيُّ وقالَ تَعالى: ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهو يُخْلِفُهُ﴾ ثُمَّ رَهَنَ عِنْدَ كُلِّ واحِدٍ إمّا أرْضًا أوْ بُسْتانًا أوْ طاحُونَةً أوْ حَمّامًا أوْ مَنفَعَةً، فَإنَّ الإنْسانَ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ صَنْعَةٌ أوْ جِهَةٌ يَحْصُلُ لَهُ مِنها مالٌ وكُلُّ ذَلِكَ مِلْكُ اللَّهِ وفي يَدِ الإنْسانِ بِحُكْمِ العارِيَّةِ فَكَأنَّهُ مَرْهُونٌ بِما تَكَفَّلَ اللَّهُ مِن رِزْقِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ الوُثُوقُ التّامُّ، ومَعَ هَذا لا يُنْفِقُ ويَتْرُكُ مالَهُ لِيَتْلَفَ لا مَأْجُورًا ولا مَشْكُورًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ يُنْبِئُ عَنْ كَثْرَةٍ في الرّازِقِينَ ولا رازِقَ إلّا اللَّهُ، فَما الجَوابُ عَنْهُ ؟ فَنَقُولُ: عَنْهُ جَوابانِ: أحَدُهُما: أنْ يُقالَ اللَّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ الَّذِينَ تَظُنُّونَهم رازِقِينَ وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: (وهُوَ أحْسَنُ الخالِقِينَ ) . وثانِيهِما: هو أنَّ الصِّفاتِ مِنها ما حَصَلَ لِلَّهِ ولِلْعَبْدِ حَقِيقَةً، ومِنها ما يُقالُ لِلَّهِ بِطَرِيقِ الحَقِيقَةِ ولِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ المَجازِ، ومِنها ما يُقالُ لِلَّهِ بِطَرِيقِ الحَقِيقَةِ ولا يُقالُ لِلْعَبْدِ لا بِطَرِيقِ الحَقِيقَةِ ولا بِطَرِيقِ المَجازِ لِعَدَمِ حُصُولِهِ لِلْعَبْدِ لا حَقِيقَةً ولا صُورَةً، مِثالُ الأوَّلِ: العِلْمُ، فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أنَّهُ واحِدٌ والعَبْدُ يَعْلَمُ أنَّهُ واحِدٌ بِطَرِيقِ الحَقِيقَةِ، وكَذَلِكَ العِلْمُ بِكَوْنِ النّارِ حارَّةً، غايَةُ ما في البابِ أنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ وعِلْمُنا حادِثٌ. مِثالُ الثّانِي: الرّازِقُ والخالِقُ، فَإنَّ العَبْدَ إذا أعْطى غَيْرَهُ شَيْئًا فَإنَّ اللَّهَ هو المُعْطِي، ولَكِنْ لِأجْلِ صُورَةِ العَطاءِ مِنهُ سُمِّيَ مُعْطِيًا، كَما يُقالُ لِلصُّورَةِ المَنقُوشَةِ عَلى الحائِطِ فَرَسٌ وإنْسانٌ، مِثالُ الثّالِثِ: الأزَلِيُّ واللَّهُ وغَيْرُهُما، وقَدْ يُقالُ (p-٢٢٩)فِي أشْياءَ في الإطْلاقِ عَلى العَبْدِ حَقِيقَةً وعَلى اللَّهِ مَجازًا كالِاسْتِواءِ والنُّزُولِ والمَعِيَّةِ ويَدِ اللَّهِ وجَنْبِ اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب