الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ إلّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ ظَنُّهُ أنَّهُ يُغْوِيهِمْ كَما قالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ [ص: ٨٢] وقَوْلُهُ: ﴿فاتَّبَعُوهُ﴾ بَيانٌ لِذَلِكَ أيْ أغْواهم، ﴿فاتَّبَعُوهُ إلّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ قالَ تَعالى في حَقِّهِمْ: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ في أنَّهُ خَيْرٌ مِنهُ كَما قالَ تَعالى عَنْهُ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ [ص: ٧٦] ويَتَحَقَّقُ ذَلِكَ في قَوْلِهِ فاتَّبَعُوهُ؛ لِأنَّ المَتْبُوعَ خَيْرٌ مِنَ التّابِعِ وإلّا لا يَتْبَعُهُ العاقِلُ والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ إبْلِيسَ خَيْرٌ مِنَ الكافِرِ، هو أنَّ إبْلِيسَ امْتَنَعَ مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَكِنْ لَمّا كانَ في امْتِناعِهِ تَرْكُ عِبادَةِ اللَّهِ عِنادًا كَفَرَ، والمُشْرِكُ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، فَهو كَفَرَ بِأمْرٍ أقْرَبَ إلى التَّوْحِيدِ، وهم كَفَرُوا بِأمْرٍ هو الإشْراكُ، ويُؤَيِّدُ هَذا الَّذِي اخْتَرْناهُ الِاسْتِثْناءُ، وبَيانُهُ هو أنَّهُ وإنْ لَمْ يَظُنَّ أنَّهُ يُغْوِي الكُلَّ، بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى قالَ عَنْهُ: ﴿إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: ٤٠] فَما ظَنَّ أنَّهُ يُغْوِي المُؤْمِنِينَ فَما ظَنَّهُ صَدَّقَهُ ولا حاجَةَ إلى الِاسْتِثْناءِ، وأمّا في قَوْلِهِ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ اعْتَقَدَ الخَيْرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلى جَمِيعِ النّاسِ بِدَلِيلِ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [ص: ٧٦] وقَدْ كَذَبَ في ظَنِّهِ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ، ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْ هَذا في الوَجْهِ الأوَّلِ، وهو أنَّهُ وإنْ لَمْ يَظُنَّ إغْواءَ الكُلِّ وعَلِمَ أنَّ البَعْضَ ناجٍ، لَكِنْ ظَنَّ في كُلِّ واحِدٍ أنَّهُ لَيْسَ هو ذَلِكَ النّاجِيَ، إلى أنْ تَبَيَّنَ لَهُ فَظَنَّ أنَّهُ يُغْوِيهِ فَكَذَبَ في ظَنِّهِ في حَقِّ البَعْضِ وصَدَقَ في البَعْضِ. ﴿وما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ إلّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هو مِنها في شَكٍّ ورَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ قَدْ ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣] أنَّ عِلْمَ اللَّهِ مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ وعِلْمُهُ لا يَتَغَيَّرُ وهو في كَوْنِهِ عالِمًا لا يَتَغَيَّرُ ولَكِنْ يَتَغَيَّرُ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ، فَإنَّ العِلْمَ صِفَةٌ كاشِفَةٌ يَظْهَرُ بِها كُلُّ ما في نَفْسِ الأمْرِ فَعَلِمَ اللَّهُ في الأزَلِ أنَّ العالَمَ سَيُوجَدُ، فَإذا وُجِدَ عَلِمَهُ (p-٢٢٠)مَوْجُودًا بِذَلِكَ العِلْمِ، وإذا عُدِمَ يَعْلَمُهُ مَعْدُومًا بِذَلِكَ، مِثالُهُ: أنَّ المِرْآةَ المَصْقُولَةَ فِيها الصَّفاءُ فَيَظْهَرُ فِيها صُورَةُ زَيْدٍ إنْ قابَلَها، ثُمَّ إذا قابَلَها عَمْرٌو يَظْهَرُ فِيها صُورَتُهُ، والمِرْآةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ في ذاتِها ولا تَبَدَّلَتْ في صِفاتِها، إنَّما التَّغَيُّرُ في الخارِجاتِ فَكَذَلِكَ هَهُنا قَوْلُهُ: ﴿إلّا لِنَعْلَمَ﴾ أيْ لِيَقَعَ في العِلْمِ صُدُورُ الكُفْرِ مِنَ الكافِرِ والإيمانِ مِنَ المُؤْمِنِ وكانَ قَبْلَهُ فِيهِ أنَّهُ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ ويُؤْمِنُ عَمْرٌو. وقَوْلُهُ: ﴿وما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجِئٍ وإنَّما هو آيَةٌ وعَلامَةٌ خَلَقَها اللَّهُ لِتَبْيِينِ ما هو في عِلْمِهِ السّابِقِ، وقَوْلُهُ: ﴿ورَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ يُحَقِّقُ ذَلِكَ، أيِ اللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى مَنعِ إبْلِيسَ عَنْهم، عالِمٌ بِما سَيَقَعُ، فالحِفْظُ يَدْخُلُ في مَفْهُومِهِ العِلْمُ والقُدْرَةُ، إذِ الجاهِلُ بِالشَّيْءِ لا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ ولا العاجِزُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب