الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لِيَسْألَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وأعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا ألِيمًا﴾
يَعْنِي أرْسَلَ الرُّسُلَ. وعاقِبَةُ المُكَلَّفِينَ إمّا حِسابٌ وإمّا عَذابٌ، لِأنَّ الصّادِقَ مُحاسَبٌ والكافِرَ مُعَذَّبٌ، وهَذا كَما قالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: “ الدُّنْيا حَلالُها حِسابٌ وحَرامُها عَذابٌ “ وهَذا مِمّا يُوجِبُ الخَوْفَ العامَّ فَيَتَأكَّدُ قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ .
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ ﴿إذْ جاءُوكم مِن فَوْقِكم ومِن أسْفَلَ مِنكم وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾
تَحْقِيقًا لِما سَبَقَ مِنَ الأمْرِ بِتَقْوى اللَّهِ بِحَيْثُ لا يَبْقى مَعَهُ خَوْفٌ مِن أحَدٍ؛ وذَلِكَ لِأنَّ واقِعَةَ اجْتِماعِ الأحْزابِ واشْتِدادِ الأمْرِ عَلى الأصْحابِ حَيْثُ اجْتَمَعَ المُشْرِكُونَ بِأسْرِهِمْ واليَهُودُ بِأجْمَعِهِمْ ونَزَلُوا عَلى المَدِينَةِ وعَمِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ الخَنْدَقَ، كانَ الأمْرُ في غايَةِ الشِّدَّةِ والخَوْفِ بالِغًا إلى الغايَةِ، واللَّهُ دَفَعَ القَوْمَ عَنْهم مِن غَيْرِ قِتالٍ وآمَنَهم مِنَ الخَوْفِ، فَيَنْبَغِي أنْ لا يَخافَ العَبْدُ غَيْرَ رَبِّهِ فَإنَّهُ كافٍ أمْرَهُ ولا يَأْمَنُ مَكْرَهُ فَإنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ (p-١٧٢)مُمْكِنٍ فَكانَ قادِرًا عَلى أنْ يَقْهَرَ المُسْلِمِينَ بِالكُفّارِ مَعَ أنَّهم كانُوا ضُعَفاءَ كَما قَهَرَ الكافِرِينَ بِالمُؤْمِنِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ وشَوْكَتِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ إشارَةٌ إلى ما فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِن إرْسالِ رِيحٍ بارِدَةٍ عَلَيْهِمْ في لَيْلَةٍ شاتِيَةٍ وإرْسالِ المَلائِكَةِ وقَذْفِ الرُّعْبِ في قُلُوبِهِمْ حَتّى كانَ البَعْضُ يَلْتَزِقُ بِالبَعْضِ مِن خَوْفِ الخَيْلِ في جَوْفِ اللَّيْلِ، والحِكايَةُ مَشْهُورَةٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ عَلِمَ التِجاءَكم إلَيْهِ ورَجاءَكم فَضْلَهُ فَنَصَرَكم عَلى الأعْداءِ عِنْدَ الِاسْتِعْداءِ، وهَذا تَقْرِيرٌ لِوُجُوبِ الخَوْفِ وعَدَمِ جَوازِ الخَوْفِ مِن غَيْرِ اللَّهِ فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ أيِ اللَّهُ يَقْضِي حاجَتَكم وأنْتُمْ لا تَرَوْنَ، فَإنْ كانَ لا يَظْهَرُ لَكم وجْهُ الأمْنِ فَلا تَلْتَفِتُوا إلى عَدَمِ ظُهُورِهِ لَكم لِأنَّكم لا تَرَوْنَ الأشْياءَ فَلا تَخافُونَ غَيْرَ اللَّهِ ﴿واللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ فَلا تَقُولُوا بِأنّا نَفْعَلُ شَيْئًا وهو لا يُبْصِرُهُ ﴿إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿إذْ جاءُوكم مِن فَوْقِكم ومِن أسْفَلَ مِنكُمْ﴾ بَيانٌ لِشِدَّةِ الأمْرِ وغايَةِ الخَوْفِ، وقِيلَ: ﴿مِن فَوْقِكُمْ﴾ أيْ مِن جانِبِ الشَّرْقِ، ﴿ومِن أسْفَلَ مِنكُمْ﴾ مِن جانِبِ الغَرْبِ وهم أهْلُ مَكَّةَ ﴿وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ﴾ أيْ مالَتْ عَنْ سُنَنِها فَلَمْ تَلْتَفِتْ إلى العَدُوِّ لِكَثْرَتِهِ، ﴿وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ﴾ كِنايَةٌ عَنْ غايَةِ الشِّدَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ القَلْبَ عِنْدَ الغَضَبِ يَنْدَفِعُ وعِنْدَ الخَوْفِ يَجْتَمِعُ فَيَتَقَلَّصُ فَيَلْتَصِقُ بِالحَنْجَرَةِ، وقَدْ يُفْضِي إلى أنْ يَسُدَّ مَجْرى النَّفْسِ لا يَقْدِرُ المَرْءُ يَتَنَفَّسُ ويَمُوتُ مِنَ الخَوْفِ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ﴾ [الواقعة: ٨٣] .
وقَوْلُهُ: ﴿وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا﴾ الألِفُ واللّامُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونا بِمَعْنى الِاسْتِغْراقِ مُبالَغَةً يَعْنِي تَظُنُّونَ كُلَّ ظَنٍّ؛ لِأنَّ عِنْدَ الأمْرِ العَظِيمِ كُلُّ أحَدٍ يَظُنُّ شَيْئًا ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ ظُنُونَهُمُ المَعْهُودَةَ؛ لِأنَّ المَعْهُودَ مِنَ المُؤْمِنِ ظَنُّ الخَيْرِ بِاللَّهِ كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: “ «ظُنُّوا بِاللَّهِ خَيْرًا» “ ومِنَ الكافِرِ الظَّنُّ السَّوْءُ كَما قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: ٢٧]، وقَوْلُهُ: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ [يونس: ٦٦] فَإنْ قالَ قائِلٌ: المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ، فَما الفائِدَةُ في جَمْعِ الظُّنُونِ ؟ فَنَقُولُ: لا شَكَّ في أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ ولَكِنَّ الِاسْمَ قَدْ يُجْعَلُ مَصْدَرًا كَما يُقالُ: ضَرَبْتُهُ سِياطًا وأدَّبْتُهُ مِرارًا. فَكَأنَّهُ قالَ: ظَنَنْتُمْ ظَنًّا بَعْدَ ظَنٍّ أيْ ما ثَبَتُّمْ عَلى ظَنٍّ، فالفائِدَةُ هي أنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ قالَ: تَظُنُّونَ ظَنًّا، جازَ أنْ يَكُونُوا مُصِيبِينَ فَإذا قالَ ظُنُونًا، تَبَيَّنَ أنَّ فِيهِمْ مَن كانَ ظَنُّهُ كاذِبًا لِأنَّ الظُّنُونَ قَدْ تُكَذَّبُ كُلُّها وقَدْ يُكَذَّبُ بَعْضُها إذا كانَتْ في أمْرٍ واحِدٍ، مِثالُهُ: إذا رَأى جَمْعٌ مِن بَعِيدٍ جِسْمًا وظَنَّ بَعْضُهم أنَّهُ زَيْدٌ وآخَرُونَ أنَّهُ عَمْرٌو وقالَ ثالِثٌ: إنَّهُ بَكْرٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمُ الحَقُّ قَدْ يَكُونُ الكُلُّ مُخْطِئِينَ والمَرْئِيُّ شَجَرٌ أوْ حَجَرٌ. وقَدْ يَكُونُ أحَدُهم مُصِيبًا ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا كُلُّهم مُصِيبِينَ فَقَوْلُهُ: ﴿الظُّنُونا﴾ أفادَ أنَّ فِيهِمْ مَن أخْطَأ الظَّنَّ، ولَوْ قالَ: تَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنًّا ما كانَ يُفِيدُ هَذا.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["لِّیَسۡـَٔلَ ٱلصَّـٰدِقِینَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابًا أَلِیمࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَاۤءَتۡكُمۡ جُنُودࣱ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِیحࣰا وَجُنُودࣰا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرًا","إِذۡ جَاۤءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠"],"ayah":"لِّیَسۡـَٔلَ ٱلصَّـٰدِقِینَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابًا أَلِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق