الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا﴾ . فَصَّلَ الأشْياءَ بِتَبْيِينِ بَعْضِ أضْدادِها، فَبَيَّنَ حالَ مُؤْذِي النَّبِيِّ لِيُبَيِّنَ فَضِيلَةَ المُسْلِمِ عَلَيْهِ، واللَّعْنُ أشَدُّ المَحْذُوراتِ؛ لِأنَّ البُعْدَ مِنَ اللَّهِ لا يُرْجى مَعَهُ خَيْرٌ بِخِلافِ التَّعْذِيبِ بِالنّارِ وغَيْرِهِ. ألا تَرى أنَّ المَلِكَ إذا تَغَيَّرَ عَلى مَمْلُوكٍ إنْ كانَ تَأذِّيهِ غَيْرَ قَوِيٍّ يَزْجُرُهُ ولا يَطْرُدُهُ ولَوْ خُيِّرَ المُجْرِمُ [ بَيْنَ ] أنْ يُضْرَبَ أوْ يُطْرَدَ عِنْدَما يَكُونُ المَلِكُ في غايَةِ العَظَمَةِ والكَرَمِ يَخْتارُ الضَّرْبَ عَلى الطَّرْدِ، ولا سِيَّما إذا لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيا مَلِكٌ غَيْرَ سَيِّدِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ إشارَةٌ إلى بُعْدٍ لا رَجاءَ لِلْقُرْبِ مَعَهُ؛ لِأنَّ المُبْعَدَ في الدُّنْيا يَرْجُو القُرْبَةَ في الآخِرَةِ، فَإذا أُبْعِدَ في الآخِرَةِ فَقَدْ خابَ وخَسِرَ؛ لِأنَّ اللَّهَ إذا أبْعَدَهُ وطَرَدَهُ فَمَنِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمْ يَحْصُرْ جَزاءَهُ في الإبْعادِ بَلْ أوْعَدَهُ بِالعَذابِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ إيذاءَ اللَّهِ وإيذاءَ الرَّسُولِ وذَكَرَ عَقِيبَهُ أمْرَيْنِ؛ اللَّعْنَ والتَّعْذِيبَ، فاللَّعْنُ جَزاءُ اللَّهِ؛ لِأنَّ مَن آذى المَلِكَ يُبْعِدُهُ عَنْ بابِهِ إذا كانَ لا يَأْمُرُ بِعَذابِهِ، والتَّعْذِيبُ جَزاءُ إيذاءِ الرَّسُولِ لِأنَّ المَلِكَ إذا آذى بَعْضَ عَبِيدِهِ كَبِيرٌ يَسْتَوْفِي مِنهُ قِصاصَهُ، لا يُقالُ: فَعَلى هَذا مَن يُؤْذِي اللَّهَ ولا يُؤْذِي الرَّسُولَ لا يُعَذَّبُ؛ لِأنّا نَقُولُ: انْفِكاكُ أحَدِهِما عَلى هَذا الوَجْهِ عَنِ الآخَرِ مُحالٌ لِأنَّ مَن آذى اللَّهَ فَقَدْ آذى الرَّسُولَ، وأمّا عَلى الوَجْهِ الآخَرِ وهو أنَّ مَن يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ ولا يُؤْذِي اللَّهَ كَمَن عَصى مِن غَيْرِ إشْراكٍ، كَمَن فَسَقَ أوْ فَجَرَ مِن غَيْرِ ارْتِدادٍ وكُفْرٍ، فَقَدْ آذى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى صَبُورٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَجْزِيهِ بِالعَذابِ ولا يَلْعَنُهُ بِكَوْنِهِ يُبْعِدُهُ عَنِ البابِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أكَّدَ العَذابَ بِكَوْنِهِ مُهِينًا لِأنَّ مَن تَأذّى مِن عَبْدِهِ وأمَرَ بِحَبْسِهِ وضَرْبِهِ؛ فَإنْ أمَرَ بِحَبْسِهِ في مَوْضِعٍ مُمَيَّزٍ، أوْ أمَرَ بِضَرْبِهِ رَجُلًا كَبِيرًا يَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ هَيِّنٌ، وإنْ أمَرَ بِضَرْبِهِ عَلى مَلَأٍ وحَبْسِهِ بَيْنَ المُفْسِدِينَ يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الأمْرِ، فَمَن آذى اللَّهَ ورَسُولَهُ مِنَ المُخَلَّدِينَ في النّارِ فَيُعَذَّبُ عَذابًا مُهِينًا، وقَوْلُهُ: ﴿أعَدَّ لَهُمْ﴾ لِلتَّأْكِيدِ لِأنَّ السَّيِّدَ إذا عَذَّبَ عَبْدَهُ حالَةَ الغَضَبِ مِن غَيْرِ إعْدادٍ يَكُونُ دُونَ ما إذا أعَدَّ لَهُ قَيْدًا وغُلًّا، فَإنَّ الأوَّلَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ هَذا أثَرُ الغَضَبِ فَإذا سَكَتَ الغَضَبُ يَزُولُ، ولا كَذَلِكَ الثّانِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب