الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشى النّاسَ واللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنهُنَّ وطَرًا وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ وهُوَ زَيْدٌ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالإسْلامِ ﴿وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بِالتَّحْرِيرِ والإعْتاقِ. ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ هَمَّ زَيْدٌ بِطَلاقِ زَيْنَبَ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ: أمْسِكْ أيْ لا تُطَلِّقْها. ﴿واتَّقِ اللَّهَ﴾ قِيلَ في الطَّلاقِ، وقِيلَ في الشَّكْوى مِن زَيْنَبَ، فَإنَّ زَيْدًا قالَ فِيها إنَّها تَتَكَبَّرُ عَلَيَّ بِسَبَبِ النَّسَبِ وعَدَمِ الكَفاءَةِ. ﴿وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ مِن أنَّكَ تُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِزَيْنَبَ ﴿وتَخْشى النّاسَ﴾ مِن أنْ يَقُولُوا أخَذَ زَوْجَةَ الغَيْرِ أوِ الِابْنِ ﴿واللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ﴾ لَيْسَ إشارَةً إلى أنَّ النَّبِيَّ خَشِيَ النّاسَ ولَمْ يَخْشَ اللَّهَ بَلِ المَعْنى: اللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ وحْدَهُ ولا تَخْشَ أحَدًا مَعَهُ وأنْتَ تَخْشاهُ وتَخْشى النّاسَ أيْضًا، فاجْعَلِ الخَشْيَةَ لَهُ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ ويَخْشَوْنَهُ ولا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلّا اللَّهَ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها﴾ أيْ لَمّا طَلَّقَها زَيْدٌ وانْقَضَتْ عِدَّتُها؛ وذَلِكَ لِأنَّ الزَّوْجَةَ ما دامَتْ في نِكاحِ الزَّوْجِ فَهي تَدْفَعُ حاجَتَهُ وهو مُحْتاجٌ إلَيْها، فَلَمْ يَقْضِ مِنها الوَطَرَ بِالكُلِّيَّةِ ولَمْ يَسْتَغْنِ، وكَذَلِكَ إذا كانَ في العِدَّةِ لَهُ بِها تَعَلُّقٌ لِإمْكانِ شَغْلِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَقْضِ مِنها بَعْدُ وطَرَهُ، وأمّا إذا طَلَّقَ وانْقَضَتْ عِدَّتُها اسْتَغْنى عَنْها ولَمْ يَبْقَ لَهُ مَعَها تَعَلُّقٌ فَيَقْضِي مِنها الوَطَرَ، وهَذا مُوافِقٌ لِما في الشَّرْعِ لِأنَّ التَّزَوُّجَ بِزَوْجَةِ الغَيْرِ أوْ بِمُعْتَدَّتِهِ لا يَجُوزُ؛ فَلِهَذا قالَ: ﴿فَلَمّا قَضى﴾ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنهُنَّ وطَرًا﴾ (p-١٨٤)أيْ إذا طَلَّقُوهُنَّ وانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ التَّزْوِيجَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ لِقَضاءِ شَهْوَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلْ لِبَيانِ الشَّرِيعَةِ بِفِعْلِهِ فَإنَّ الشَّرْعَ يُسْتَفادُ مِن فِعْلِ النَّبِيِّ، وقَوْلُهُ: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أيْ مَقْضِيًّا، ما قَضاهُ كائِنٌ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ تَزَوُّجَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِها مَعَ أنَّهُ كانَ مُبَيِّنًا لِشَرْعٍ مُشْتَمِلٍ عَلى فائِدَةٍ كانَ خالِيًا مِنَ المَفاسِدِ فَقالَ: ﴿ما كانَ عَلى النَّبِيِّ مِن حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وكانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ يَعْنِي كانَ شَرْعُ مَن تَقَدَّمَهُ كَذَلِكَ، كانَ يَتَزَوَّجُ الأنْبِياءُ بِنِسْوَةٍ كَثِيرَةٍ أبْكارٍ ومُطَلَّقاتِ الغَيْرِ. ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ أيِ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضاءٍ وقَدَرٍ، والقَدَرُ التَّقْدِيرُ وبَيْنَ المَفْعُولِ والمَقْدُورِ فَرْقٌ مَقُولٌ بَيْنَ القَضاءِ والقَدَرِ، فالقَضاءُ ما كانَ مَقْصُودًا في الأصْلِ والقَدَرُ ما يَكُونُ تابِعًا لَهُ، مِثالُهُ مَن كانَ يَقْصِدُ مَدِينَةً فَنَزَلَ بِطَرِيقِ تِلْكَ المَدِينَةِ بِخانٍ أوْ قَرْيَةٍ يَصِحُّ مِنهُ في العُرْفِ أنْ يَقُولَ في جَوابِ مَن يَقُولُ: لِمَ جِئْتَ إلى هَذِهِ القَرْيَةِ ؟ إنِّي ما جِئْتُ إلى هَذِهِ وإنَّما قَصَدْتُ المَدِينَةَ الفُلانِيَّةَ، وهَذِهِ وقَعَتْ في طَرِيقِي، وإنْ كانَ قَدْ جاءَها ودَخَلَها. وإذا عَرَفْتَ هَذا فَإنَّ الخَيْرَ كُلَّهُ بِقَضاءٍ وما في العالَمِ مِنَ الضَّرَرِ بِقَدَرٍ، فاللَّهُ تَعالى خَلَقَ المُكَلَّفَ بِحَيْثُ يَشْتَهِي ويَغْضَبُ، لِيَكُونَ اجْتِهادُهُ في تَغْلِيبِ العَقْلِ والدِّينِ عَلَيْهِما مُثابًا عَلَيْهِ بِأبْلَغِ وجْهٍ، فَأفْضى ذَلِكَ في البَعْضِ إلى أنْ زَنى وقَتَلَ، فاللَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُما فِيهِ مَقْصُودًا مِنهُ القَتْلُ والزِّنا وإنْ كانَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ. إذا عَلِمْتَ هَذا فَفي قَوْلِهِ تَعالى أوَّلًا: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ وقَوْلِهِ ثانِيًا: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ لَطِيفَةٌ وهي أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿زَوَّجْناكَها﴾ قالَ: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أيْ تَزْوِيجَنا زَيْنَبَ إيّاكَ كانَ مَقْصُودًا مَتْبُوعًا مَقْضِيًّا مُراعًى، ولَمّا قالَ: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا﴾ إشارَةً إلى قِصَّةِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ افْتَتَنَ بِامْرَأةٍ أُورِيا قالَ: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ أيْ كانَ ذَلِكَ حُكْمًا تَبَعِيًّا، فَلَوْ قالَ قائِلٌ: هَذا قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ بِالتَّوْلِيدِ والفَلاسِفَةِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الأشْياءِ عَلى وُجُوهٍ مِثْلُ كَوْنِ النّارِ تَحْرِقُ حَيْثُ قالُوا اللَّهُ تَعالى أرادَ أنْ يَخْلُقَ ما يُنْضِجُ الأشْياءَ وهو لا يَكُونُ إلّا مُحْرِقًا بِالطَّبْعِ، فَخَلَقَ النّارَ لِلنَّفْعِ فَوَقَعَ اتِّفاقُ أسْبابٍ أوْجَبَتِ احْتِراقَ دارِ زَيْدٍ أوْ دارِ عَمْرٍو. فَنَقُولُ: مَعاذَ اللَّهِ أنْ نَقُولَ بِأنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُخْتارٍ في أفْعالِهِ أوْ يَقَعُ شَيْءٌ لا بِاخْتِيارِهِ، ولَكِنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: أجْرى اللَّهُ عادَتَهُ بِكَذا أيْ ولَهُ أنْ يَخْلُقَ النّارَ بِحَيْثُ عِنْدَ حاجَةِ إنْضاجِ اللَّحْمِ تَنْضَجُ، وعِنْدَ مِساسِ ثَوْبِ العَجُوزِ لا تُحْرَقُ، ألا تَرى أنَّها لَمْ تَحْرِقْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ قُوَّتِها وكَثْرَتِها لَكِنْ خَلَقَها عَلى غَيْرِ ذَلِكَ الوَجْهِ بِمَحْضِ إرادَتِهِ أوْ لِحِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ، ولا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. فَنَقُولُ: ما كانَ في مَجْرى عادَتِهِ تَعالى عَلى وجْهٍ تُدْرِكُهُ العُقُولُ البَشَرِيَّةُ. نَقُولُ: بِقَضاءٍ، وما يَكُونُ عَلى وجْهٍ يَقَعُ لِعَقْلٍ قاصِرٍ أنْ يَقُولَ لِمَ كانَ ولِماذا لَمْ يَكُنْ عَلى خِلافِهِ. نَقُولُ: بِقَدَرٍ. ثُمَّ بَيَّنَ الَّذِينَ خَلَوْا بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ ويَخْشَوْنَهُ ولا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلّا اللَّهَ وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ يَعْنِي كانُوا هم أيْضًا مِثْلَكَ رُسُلًا، ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِحالِهِمْ أنَّهم جَرَّدُوا الخَشْيَةَ ووَحَّدُوها بِقَوْلِهِ: ﴿ولا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلّا اللَّهَ﴾ فَصارَ كَقَوْلِهِ: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] وقَوْلِهِ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أيْ مُحاسِبًا فَلا تَخْشَ غَيْرَهُ أوْ مَحْسُوبًا فَلا تَلْتَفِتْ إلى غَيْرِهِ ولا تَجْعَلْهُ في حِسابِكَ (p-١٨٥)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب