ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِن أقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لَآتَوْها وما تَلَبَّثُوا بِها إلّا يَسِيرًا﴾
إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ الفِرارَ والرُّجُوعَ لَيْسَ لِحِفْظِ البُيُوتِ لِأنَّ مَن يَفْعَلُ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإذا فاتَهُ الغَرَضُ لا يَفْعَلُهُ، كَمَن يَبْذُلُ المالَ لِكَيْ لا يُؤْخَذَ مِنهُ بَيْتُهُ فَإذا أُخِذَ مِنهُ البَيْتُ لا يَبْذُلُهُ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: هم قالُوا بِأنَّ رُجُوعَنا عَنْكَ لِحِفْظِ بُيُوتِنا ولَوْ دَخَلَها الأحْزابُ وأخَذُوها مِنهم لَرَجَعُوا أيْضًا، ولَيْسَ رُجُوعُهم عَنْكَ إلّا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وحُبِّهِمُ الفِتْنَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ المُرادُ المَدِينَةَ واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ البُيُوتَ، وقَوْلُهُ: ﴿وما تَلَبَّثُوا بِها﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الفِتْنَةَ ﴿إلّا يَسِيرًا﴾ فَإنَّها تَزُولُ وتَكُونُ العاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ المَدِينَةَ أوِ البُيُوتَ أيِ ما تَلَبَّثُوا بِالمَدِينَةِ إلّا يَسِيرًا فَإنَّ المُؤْمِنِينَ يُخْرِجُونَهم.
﴿ولَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبارَ وكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ وإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلًا﴾
(p-١٧٤)بَيانًا لِفَسادِ سَرِيرَتِهِمْ وقُبْحِ سِيرَتِهِمْ لِنَقْضِهِمُ العُهُودَ فَإنَّهم قَبْلَ ذَلِكَ تَخَلَّفُوا وأظْهَرُوا عُذْرًا ونَدَمًا، وذَكَرُوا أنَّ القِتالَ لا يُزِلُّ لَهم قَدَمًا ثُمَّ هَدَّدَهم بِقَوْلِهِ: ﴿وكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ .
وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ الأُمُورَ مُقَدَّرَةٌ لا يُمْكِنُ الفِرارُ مِمّا وقَعَ عَلَيْهِ القَرارُ، وما قَدَّرَهُ اللَّهُ كائِنٌ، فَمَن أمَرَ بِشَيْءٍ إذا خالَفَهُ يَبْقى في ورْطَةِ العِقابِ آجِلًا ولا يَنْتَفِعُ بِالمُخالَفَةِ عاجِلًا، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ كَأنَّهُ يَقُولُ: ولَوْ فَرَرْتُمْ مِنهُ في يَوْمِكم مَعَ أنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَما دُمْتُمْ بَلْ لا تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلًا، فالعاقِلُ لا يَرْغَبُ في شَيْءٍ قَلِيلٍ مَعَ أنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلا فِرارَ لَكم ولَوْ كانَ لَما مُتِّعْتُمْ بَعْدَ الفِرارِ إلّا قَلِيلًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكم مِنَ اللَّهِ إنْ أرادَ بِكم سُوءًا أوْ أرادَ بِكم رَحْمَةً ولا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾
بَيانًا لِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿ولا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ﴾ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾ أيْ لَيْسَ لَكم ولِيٌّ يَشْفَعُ لِمَحَبَّتِهِ إيّاكم ولا نَصِيرٌ يَنْصُرُكم ويَدْفَعُ عَنْكُمُ السُّوءَ إذا أتاكم.
{"ayahs_start":14,"ayahs":["وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَیۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُىِٕلُوا۟ ٱلۡفِتۡنَةَ لَـَٔاتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُوا۟ بِهَاۤ إِلَّا یَسِیرࣰا","وَلَقَدۡ كَانُوا۟ عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا یُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَـٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسۡـُٔولࣰا","قُل لَّن یَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذࣰا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا","قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِی یَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوۤءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةࣰۚ وَلَا یَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا"],"ayah":"قُل لَّن یَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذࣰا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}