الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأ خَلْقَ الإنْسانِ مِن طِينٍ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾
* * وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ ظاهِرٌ؛ لِأنَّ آدَمَ كانَ مِن طِينٍ، ونَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهِينٍ، هو النُّطْفَةُ، وعَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي هو أنَّ أصْلَهُ مِنَ الطِّينِ، ثُمَّ يُوجَدُ مِن ذَلِكَ الأصْلِ سُلالَةٌ هي مِن ماءٍ مَهِينٍ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: التَّفْسِيرُ الثّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَدَأ خَلْقَ الإنْسانِ﴾ ثُمَّ (p-١٥٢)جَعَلَ نَسْلَهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ جَعْلَ النَّسْلِ بَعْدَ خَلْقِ الإنْسانِ مِن طِينٍ، فَنَقُولُ: لا، بَلِ التَّفْسِيرُ الثّانِي أقْرَبُ إلى التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، فَإنَّهُ تَعالى بَدَأ بِذِكْرِ الأمْرِ مِنَ الِابْتِداءِ في خَلْقِ الإنْسانِ، فَقالَ: بَدَأهُ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ سُلالَةً، ثُمَّ سَوّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، وعَلى ما ذَكَرْتُمْ يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: ﴿ثُمَّ سَوّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ﴾ عائِدٌ إلى آدَمَ أيْضًا؛ لِأنَّ كَلِمَةَ “ ثُمَّ “ لِلتَّراخِي، فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ جَعْلِ النَّسْلِ مِن سُلالَةٍ، وذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ، واعْلَمْ أنَّ دَلائِلَ الآفاقِ أدَلُّ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ﴾ [غافر: ٥٧] ودَلائِلُ الأنْفُسِ أدَلُّ عَلى نَفاذِ الإرادَةِ، فَإنَّ التَّغَيُّراتِ فِيها كَثِيرَةٌ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾، ﴿ثُمَّ سَوّاهُ﴾ أيْ كانَ طِينًا فَجَعَلَهُ مَنِيًّا، ثُمَّ جَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ﴾ إضافَةُ الرُّوحِ إلى نَفْسِهِ كَإضافَةِ البَيْتِ إلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ، واعْلَمْ أنَّ النَّصارى يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ ويَقُولُونَ: بِأنَّ عِيسى كانَ رُوحَ اللَّهِ فَهو ابْنٌ، ولا يَعْلَمُونَ أنَّ كُلَّ أحَدٍ رُوحُهُ رُوحُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ﴾ أيِ الرُّوحِ الَّتِي هي مِلْكُهُ كَما يَقُولُ القائِلُ: دارِي وعَبْدِي، ولَمْ يَقُلْ أعْطاهُ مِن جِسْمِهِ؛ لِأنَّ الشَّرَفَ بِالرُّوحِ، فَأضافَ الرُّوحَ دُونَ الجِسْمِ عَلى ما يَتَرَتَّبُ عَلى نَفْخِ الرُّوحِ مِنَ السَّمْعِ والبَصَرِ والعِلْمِ، فَقالَ تَعالى: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ﴾ مُخاطِبًا ولَمْ يُخاطِبْ مِن قَبْلُ، وذَلِكَ لِأنَّ الخِطابَ يَكُونُ مَعَ الحَيِّ، فَلَمّا قالَ: ﴿ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ﴾ خاطَبَهُ مِن بَعْدِهِ وقالَ: ﴿جَعَلَ لَكُمُ﴾، فَإنْ قِيلَ: الخِطابُ واقِعٌ قَبْلَ ذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَكم مِن تُرابٍ﴾ [الروم: ٢٠] فَنَقُولُ: هُناكَ لَمْ يَذْكُرِ الأُمُورَ المُرَتَّبَةَ، وإنَّما أشارَ إلى تَمامِ الخَلْقِ، وهاهُنا ذَكَرَ الأُمُورَ المُرَتَّبَةَ وهي كَوْنُ الإنْسانِ طِينًا ثُمَّ ماءً مَهِينًا، ثُمَّ خَلْقًا مُسَوًّى، بِأنْواعِ القُوى مُقَوًّى؛ فَخاطَبَ في بَعْضِ المَراتِبِ دُونَ البَعْضِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: التَّرْتِيبُ في السَّمْعِ والأبْصارِ والأفْئِدَةِ عَلى مُقْتَضى الحِكْمَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ يَسْمَعُ أوَّلًا مِنَ الأبَوَيْنِ أوِ النّاسِ أُمُورًا فَيَفْهَمُها، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَصِيرَةٌ فَيُبْصِرُ الأُمُورَ ويُجَرِّبُها، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إدْراكٌ تامٌّ وذِهْنٌ كامِلٌ فَيَسْتَخْرِجُ الأشْياءَ مِن قِبَلِهِ، ومِثالُهُ: شَخْصٌ يَسْمَعُ مِن أُسْتاذٍ شَيْئًا ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أهْلِيَّةُ مُطالَعَةِ الكُتُبِ وفَهْمِ مَعانِيها، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أهْلِيَّةُ التَّصْنِيفِ فَيَكْتُبُ مِن قَلْبِهِ كِتابًا، فَكَذَلِكَ الإنْسانُ يَسْمَعُ ثُمَّ يُطالِعُ صَحائِفَ المَوْجُوداتِ ثُمَّ يَعْلَمُ الأُمُورَ الخَفِيَّةَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرَ في السَّمْعِ المَصْدَرَ وفي البَصَرِ والفُؤادِ الِاسْمَ، ولِهَذا جَمَعَ الأبْصارَ والأفْئِدَةَ ولَمْ يَجْمَعِ السَّمْعَ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ لا يُجْمَعُ، وذَلِكَ لِحِكْمَةٍ؛ وهو أنَّ السَّمْعَ قُوَّةٌ واحِدَةٌ ولَها فِعْلٌ واحِدٌ، فَإنَّ الإنْسانَ لا يَضْبِطُ في زَمانٍ واحِدٍ كَلامَيْنِ، والأُذُنُ مَحَلُّهُ ولا اخْتِيارَ لَها فِيهِ، فَإنَّ الصَّوْتَ مِن أيِّ جانِبٍ كانَ يَصِلُ إلَيْهِ، ولا قُدْرَةَ لَها عَلى تَخْصِيصِ القُوَّةِ بِإدْراكِ البَعْضِ دُونَ البَعْضِ، وأمّا الإبْصارُ فَمَحَلُّهُ العَيْنُ ولَها فِيهِ شِبْهُ اخْتِيارٍ فَإنَّها تَتَحَرَّكُ إلى جانِبٍ مَرْئِيٍّ دُونَ آخَرَ، وكَذَلِكَ الفُؤادُ مَحَلُّ الإدْراكِ ولَهُ نَوْعُ اخْتِيارٍ يَلْتَفِتُ إلى ما يُرِيدُ دُونَ غَيْرِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَحَلِّ في السَّمْعِ تَأْثِيرٌ، والقُوَّةُ مُسْتَبِدَّةٌ، فَذَكَرَ القُوَّةَ في الأُذُنِ وفي العَيْنِ، والفُؤادُ لِلْمَحَلِّ نَوْعُ اخْتِيارٍ، فَذَكَرَ المَحَلَّ لِأنَّ الفِعْلَ يُسْنَدُ إلى المُخْتارِ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: سَمِعَ زَيْدٌ ورَأى عَمْرٌو. ولا تَقُولُ: سَمِعَ أُذُنُ زَيْدٍ ولا رَأى عَيْنُ عَمْرٍو إلّا نادِرًا، لِما بَيَّنّا أنَّ المُخْتارَ هو الأصْلُ وغَيْرُهُ آلَتُهُ، فالسَّمْعُ أصْلٌ دُونَ مَحَلِّهِ لِعَدَمِ الِاخْتِيارِ لَهُ، والعَيْنُ كالأصْلِ، وقُوَّةُ الإبْصارِ آلَتُها، والفُؤادُ كَذَلِكَ، وقُوَّةُ الفَهْمِ آلَتُهُ، فَذَكَرَ في السَّمْعِ المَصْدَرَ الَّذِي هو القُوَّةُ، وفي الأبْصارِ والأفْئِدَةِ الِاسْمَ الَّذِي هو مَحَلُّ القُوَّةِ؛ ولِأنَّ السَّمْعَ لَهُ قُوَّةٌ واحِدَةٌ، ولَها فِعْلٌ (p-١٥٣)واحِدٌ؛ ولِهَذا لا يَسْمَعُ الإنْسانُ في زَمانٍ واحِدٍ كَلامَيْنِ عَلى وجْهٍ يَضْبِطُهُما، ويُدْرِكُ في زَمانٍ واحِدٍ صُورَتَيْنِ وأكْثَرَ ويَسْتَبِينُهُما.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لِمَ قَدَّمَ السَّمْعَ هَهُنا والقَلْبَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] ؟ فَنَقُولُ: ذَلِكَ يُحَقِّقُ ما ذَكَرْنا، وذَلِكَ لِأنَّ عِنْدَ الإعْطاءِ ذَكَرَ الأدْنى وارْتَقى إلى الأعْلى فَقالَ: أعْطاكُمُ السَّمْعَ ثُمَّ أعْطاكم ما هو أشْرَفُ مِنهُ وهو القَلْبُ. وعِنْدَ السَّلْبِ قالَ: لَيْسَ لَهم قَلْبٌ يُدْرِكُونَ بِهِ ولا ما هو دُونَهُ وهو السَّمْعُ الَّذِي يَسْمَعُونَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَفْهَمُ الحَقائِقَ ويَسْتَخْرِجُها، وقَدْ ذَكَرْنا هُناكَ ما هو السَّبَبُ في تَأْخِيرِ الأبْصارِ مَعَ أنَّها في الوَسَطِ فِيما ذَكَرْنا مِنَ التَّرْتِيبِ، وهو أنَّ القَلْبَ والسَّمْعَ سَلَبَ قُوَّتَهُما بِالطَّبْعِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُما، وسَلَبَ قُوَّةَ البَصَرِ بِجَعْلِ الغِشاوَةِ عَلَيْهِ فَذَكَرَها مُتَأخِّرَةً.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["ذَ ٰلِكَ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ","ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَـٰنِ مِن طِینࣲ","ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَـٰلَةࣲ مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ","ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق