الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فَلا تَكُنْ في مِرْيَةٍ مِن لِقائِهِ وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿وجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها﴾ يَعْنِي لَنُذِيقَنَّهم ولا يَرْجِعُونَ فَيَكُونُونَ قَدْ ذُكِّرُوا بِآياتِ اللَّهِ مِنَ النِّعَمِ أوَّلًا والنِّقَمِ ثانِيًا ولَمْ يُؤْمِنُوا، فَلا أظْلِمُ مِنهم أحَدًا؛ لِأنَّ مَن يَكْفُرُ بِاللَّهِ ظالِمٌ، فَإنَّ اللَّهَ لِذَوِي البَصائِرِ ظاهِرٌ لا يَحْتاجُ المُسْتَنِيرُ الباطِنُ إلى شاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، بَلْ هو شَهِيدٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] أيْ دَلِيلُكَ اللَّهُ لا تَحْتاجُ، بِتَأْثِيرِ الباطِنِ إلى دَلِيلٍ عَلى اللَّهِ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: رَأيْتُ اللَّهَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَمَن لَمْ يَكْفِهِ اللَّهُ فَسائِرُ المَوْجُوداتِ سَواءٌ كانَ فِيها نَفْعٌ أوْ ضُرٌّ كافٍ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] فَإنْ لَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ فَبِسَبْغِهِ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً، فالأوَّلُ الَّذِي لا يَحْتاجُ إلى غَيْرِ اللَّهِ هو عَدْلٌ، والثّانِي الَّذِي يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ فَهو مُتَوَسِّطٌ، والثّالِثُ الَّذِي لَمْ تَكِفْهِ الآفاقُ ظالِمٌ، والرّابِعُ الَّذِي لَمْ تُقْنِعْهُ النِّعَمُ أظْلَمُ مِن ذَلِكَ الظّالِمِ، وقَدْ يَكُونُ أظْلَمَ مِنهُ آخَرُ، وهو الَّذِي إذا أُذِيقَ العَذابَ لا يَرْجِعُ عَنْ ضَلالَتِهِ، فَإنَّ الأكْثَرَ كانَ مِن صِفَتِهِمْ أنَّهم إذا مَسَّهم ضُرٌّ دَعُوا رَبَّهم مُنِيبِينَ إلَيْهِ، فَهَذا لَمّا عُذِّبَ ولَمْ يَرْجِعْ فَلا أظْلَمَ مِنهُ أصْلًا فَقالَ: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها﴾ * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ أيْ لَمّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ العَذابُ الأدْنى فَأنا مُنْتَقِمٌ مِنهم بِالعَذابِ الأكْبَرِ * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ لَمّا قَرَّرَ الأُصُولَ الثَّلاثَةَ عَلى ما بَيَّنّاهُ عادَ إلى الأصْلِ الَّذِي بَدَأ بِهِ وهو الرِّسالَةُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أتاهم مِن نَذِيرٍ﴾ [السجدة: ٣] وقالَ: ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] بَلْ كانَ قَبْلَكَ رُسُلٌ مِثْلُكَ، واخْتارَ مِن بَيْنِهِمْ مُوسى لِقُرْبِهِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، ووُجُودُ مَن كانَ عَلى دِينِهِ إلْزامًا لَهم، وإنَّما لَمْ يَخْتَرْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِلذِّكْرِ والِاسْتِدْلالِ؛ لِأنَّ اليَهُودَ ما كانُوا يُوافِقُونَ عَلى نُبُوَّتِهِ، وأمّا النَّصارى فَكانُوا يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَتَمَسَّكَ بِالمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَكُنْ في مِرْيَةٍ مِن لِقائِهِ﴾ قِيلَ مَعْناهُ: فَلا تَكُنْ في شَكٍّ مِن لِقاءِ مُوسى فَإنَّكَ تَراهُ وتَلْقاهُ، وقِيلَ: بِأنَّهُ رَآهُ لَيْلَةَ المِعْراجِ، وقِيلَ مَعْناهُ: فَلا تَكُنْ في شَكٍّ مِن لِقاءِ الكِتابِ فَإنَّكَ تَلْقاهُ كَما لَقِيَ مُوسى الكِتابَ، ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ وارِدَةً لا لِلتَّقْرِيرِ بَلْ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّهُ لَمّا أتى بِكُلِّ آيَةٍ وذَكَّرَ بِها وأعْرَضَ عَنْها قَوْمُهُ حَزِنَ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ (p-١٦٢)تَذَكَّرْ حالَ مُوسى ولا تَحْزَنْ فَإنَّهُ لَقِيَ ما لَقِيتَ وأُوذِيَ كَما أُوذِيتَ، وعَلى هَذا فاخْتِيارُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِحِكْمَةٍ، وهي أنَّ أحَدًا مِنَ الأنْبِياءِ لَمْ يُؤْذِهِ قَوْمُهُ إلّا الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَلَمْ يُخالِفُوهُ غَيْرَ قَوْمِ مُوسى، فَإنَّ مَن لَمْ يُؤْمِن بِهِ آذاهُ مِثْلُ فِرْعَوْنَ وغَيْرِهِ، ومَن آمَنَ بِهِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أيْضًا آذاهُ بِالمُخالَفَةِ وطَلَبِ أشْياءَ مِنهُ مِثْلَ طَلَبِ رُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً، ومِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا﴾ [المائدة: ٢٤] . ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أنَّ هِدايَتَهُ غَيْرُ خالِيَةٍ عَنِ المَنفَعَةِ كَما أنَّهُ لَمْ تَخْلُ هِدايَةُ مُوسى فَقالَ: ﴿وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾، ﴿وجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا﴾ فَحَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ كِتابَ مُوسى هَدًى وجَعَلَ مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ كَذَلِكَ يَجْعَلُ كِتابَكَ هَدًى ويَجْعَلُ مِن أُمَّتِكَ صَحابَةٌ يَهْدُونَ كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «أصْحابِي كالنُّجُومِ بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالصَّبْرِ، فَقالَ: ﴿لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ فَكَذَلِكَ اصْبِرُوا وآمِنُوا بِأنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب