الباحث القرآني

ثُمَّ لَمّا هَدَّدَهم قالَ تَعالى: ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ (p-١٦٠)يَعْنِي قَبْلَ عَذابِ الآخِرَةِ نُذِيقُهم عَذابَ الدُّنْيا، فَإنَّ عَذابَ الدُّنْيا لا نِسْبَةَ لَهُ إلى عَذابِ الآخِرَةِ؛ لِأنَّ عَذابَ الدُّنْيا لا يَكُونُ شَدِيدًا، ولا يَكُونُ مَدِيدًا، فَإنَّ العَذابَ الشَّدِيدَ في الدُّنْيا يُهْلِكُ فَيَمُوتُ المُعَذَّبُ ويَسْتَرِيحُ مِنهُ فَلا يَمْتَدُّ، وإنْ أرادَ المُعَذَّبُ أنْ يَمْتَدَّ عَذابُ المُعَذَّبِ لا يُعَذِّبُهُ بِعَذابٍ في غايَةِ الشِّدَّةِ، وأمّا عَذابُ الآخِرَةِ فَشَدِيدٌ ومَدِيدٌ، وفي الآيَةِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأدْنى﴾ في مُقابَلَتِهِ العَذابُ الأقْصى، والعَذابُ الأكْبَرُ في مُقابَلَتِهِ العَذابُ الأصْغَرُ، فَما الحِكْمَةُ في مُقابَلَةِ الأدْنى بِالأكْبَرِ ؟ فَنَقُولُ: حَصَلَ في عَذابِ الدُّنْيا أمْرانِ: أحَدُهُما أنَّهُ قَرِيبٌ، والآخَرُ أنَّهُ قَلِيلٌ صَغِيرٌ. وحَصَلَ في عَذابِ الآخِرَةِ أيْضًا أمْرانِ: أحَدُهُما أنَّهُ بَعِيدٌ والآخَرُ أنَّهُ عَظِيمٌ كَثِيرٌ. لَكِنَّ القُرْبَ في عَذابِ الدُّنْيا هو الَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، فَإنَّ العَذابَ العاجِلَ وإنْ كانَ قَلِيلًا قَدْ يَحْتَرِزُ مِنهُ بَعْضُ النّاسِ أكْثَرَ مِمّا يَحْتَرِزُ مِنَ العَذابِ الشَّدِيدِ إذا كانَ آجِلًا، وكَذا الثَّوابُ العاجِلُ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْضُ النّاسِ ويَسْتَبْعِدُ الثَّوابَ العَظِيمَ الآجِلَ، وأمّا في عَذابِ الآخِرَةِ فالَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ هو العَظِيمُ والكَبِيرُ لا البَعِيدُ لِما بَيَّنّا، فَقالَ في عَذابِ الدُّنْيا: ﴿العَذابِ الأدْنى﴾ لِيَحْتَرِزَ العاقِلُ عَنْهُ، ولَوْ قالَ: لَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأصْغَرِ، ما كانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عاجِلًا. وقالَ في عَذابِ الآخِرَةِ ﴿الأكْبَرِ﴾ لِذَلِكَ المَعْنى، ولَوْ قالَ: دُونَ العَذابِ الأبْعَدِ الأقْصى لَما حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ ما يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالكِبَرِ، وبِالجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتارَ اللَّهُ تَعالى في العَذابَيْنِ الوَصْفَ الَّذِي هو أصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الوَصْفَيْنِ الآخَرَيْنِ فِيهِما لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ لَعَلَّ هَذِهِ لِلتَّرَجِّي، واللَّهُ تَعالى مُحالٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَما الحِكْمَةُ فِيهِ ؟ نَقُولُ: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مَعْناهُ لَنُذِيقَنَّهم إذاقَةَ الرّاجِينَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا نَسِيناكُمْ﴾ يَعْنِي تَرَكْناكم كَما يُتْرَكُ النّاسِي حَيْثُ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ أصْلًا، فَكَذَلِكَ هَهُنا نُذِيقُهم عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُ بِالرّاجِي مِنَ التَّدْرِيجِ. وثانِيهِما: مَعْناهُ نُذِيقُهُمُ العَذابَ إذاقَةً يَقُولُ القائِلُ: لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ بِسَبَبِهِ، ونَزِيدُ وجْهًا آخَرَ مِن عِنْدِنا، وهو أنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَتْلُوهُ أمْرٌ مَطْلُوبٌ مِن ذَلِكَ الفِعْلِ يَصِحُّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ الفِعْلِ بِذَلِكَ الأمْرِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ اتَّجَرَ لِيَرْبَحَ، ثُمَّ إنَّ هَذا التَّعْلِيلَ إنْ كانَ في مَوْضِعٍ لا يَحْصُلُ الجَزْمُ بِحُصُولِ الأمْرِ مِنَ الفِعْلِ نَظَرًا إلى نَفْسِ الفِعْلِ، وإنْ حَصَلَ الجَزْمُ والعِلْمُ بِناءً عَلى أمْرٍ مِن خارِجٍ فَإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: يَفْعَلُ كَذا رَجاءَ كَذا، كَما يُقالُ: يَتَّجِرُ رَجاءَ أنْ يَرْبَحَ، وإنْ حَصَلَ لِلتّاجِرِ جَزْمٌ بِالرِّبْحِ لا يَقْدَحُ ذَلِكَ في صِحَّةِ قَوْلِنا يَرْجُو لِما أنَّ الجَزْمَ غَيْرُ حاصِلٍ نَظَرًا إلى التِّجارَةِ، وإنْ كانَ الجَزْمُ حاصِلًا نَظَرًا إلى الفِعْلِ، لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: يَرْجُو، وإنْ كانَ ذَلِكَ الجَزْمُ يَحْتَمِلُ خِلافَهُ كَقَوْلِ القائِلِ: فُلانٌ حَزَّ رَقَبَةَ عَدُوِّهِ رَجاءَ أنْ يَمُوتَ، لا يَصِحُّ لِحُصُولِهِ الجَزْمُ بِالمَوْتِ عَقِيبَ الحَزِّ نَظَرًا إلَيْهِ، وإنْ أمْكَنَ أنْ لا يَمُوتَ نَظَرًا إلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى. ويُصَحِّحُ قَوْلَنا قَوْلُهُ تَعالى في حَقِّ إبْراهِيمَ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ [الشعراء: ٨٢] مَعَ أنَّهُ كانَ عالِمًا بِالمَغْفِرَةِ، لَكِنْ لَمّا لَمْ يَكُنِ الجَزْمُ حاصِلًا مِن نَفْسِ الفِعْلِ أطْلَقَ عَلَيْهِ الطَّمَعَ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وارْجُوا اليَوْمَ الآخِرَ﴾ [العنكبوت: ٣٦] مَعَ أنَّ الجَزْمَ بِهِ لازِمٌ. إذا عُلِمَ ما ذَكَرْنا فَنَقُولُ: في كُلِّ صُورَةٍ قالَ اللَّهُ تَعالى: “ لَعَلَّهم “ فَإنْ نَظَرْنا إلى الفِعْلِ لا يَلْزَمُ الجَزْمُ، فَإنَّ مِنَ التَّعْذِيبِ لا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ لُزُومًا بَيِّنًا فَصَحَّ قَوْلُنا: يَرْجُو وإنْ كانَ عِلْمُهُ حاصِلًا بِما يَكُونُ. غايَةُ ما في البابِ أنَّ الرَّجاءَ في أكْثَرِ الأمْرِ اسْتُعْمِلَ فِيما لا يَكُونُ الأمْرُ مَعْلُومًا فَأوْهَمَ أنْ لا يَجُوزَ الإطْلاقُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ التَّرَجِّي يَجُوزُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، ولا يَلْزَمُ مِنهُ عَدَمُ العِلْمِ، وإنَّما يَلْزَمُ عَدَمُ الجَزْمِ بِناءً عَلى ذَلِكَ (p-١٦١)الفِعْلِ، وعِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَفادًا مِنَ الفِعْلِ فَيَصِحُّ حَقِيقَةُ التَّرَجِّي في حَقِّهِ عَلى ما ذَكَرْنا مِنَ المَعْنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب