الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ جَوابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا فارْجِعْنا﴾ وبَيانُهُ هو أنَّهُ تَعالى قالَ: إنِّي لَوْ أرْجَعْتُكم إلى الإيمانِ لَهَدَيْتُكم في الدُّنْيا، ولَمّا لَمْ أهْدِكم تَبَيَّنَ أنِّي ما أرَدْتُ وما شِئْتُ إيمانَكم فَلا أرُدُّكم، وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا﴾ صَرِيحٌ في أنَّ مَذْهَبَنا صَحِيحٌ حَيْثُ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ ما أرادَ الإيمانَ مِنَ الكافِرِ وما شاءَ مِنهُ إلّا الكُفْرَ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ﴾ أيْ وقَعَ القَوْلُ وهو قَوْلُهُ تَعالى لِإبْلِيسَ: ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ هَذا مِن حَيْثُ النَّقْلِ، ولَهُ وجْهٌ في العَقْلِ؛ وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا خالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ، وهَذا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والخِلافُ في أنَّهُ هَلْ قَصَدَ الفِعْلَ لِلْحِكْمَةِ أوْ فَعَلَ الفِعْلَ ولَزِمَتْهُ الحِكْمَةُ لا بِحَيْثُ تَحْمِلُهُ تِلْكَ الحِكْمَةُ عَلى الفِعْلِ ؟ وإذا عُلِمَ أنْ فِعْلَهُ لا يَخْلُو عَنِ الحِكْمَةِ فَقالَ الحُكَماءُ: حِكْمَةُ أفْعالِهِ بِأمْرِها لا تُدْرَكُ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ لَكِنْ تُدْرِكُ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، فَكُلُّ ضَرْبٍ يَكُونُ في العالَمِ وفَسادٍ فَحِكْمَتُهُ تَخْرُجُ مِن تَقْسِيمٍ عَقْلِيٍّ، وهو أنَّ الفِعْلَ إمّا أنْ يَكُونَ خَيْرًا مَحْضًا أوْ شَرًّا مَحْضًا أوْ خَيْرًا مَشُوبًا بِشَرٍّ، وهَذا القِسْمُ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: قِسْمٌ خَيْرُهُ غالِبٌ وقِسْمٌ شَرُّهُ غالِبٌ، وقِسْمٌ خَيْرُهُ وشَرُّهُ مِثْلانِ.
إذا عُلِمَ هَذا فَخَلَقَ اللَّهُ عالَمًا فِيهِ الخَيْرُ المَحْضُ وهو عالَمُ المَلائِكَةِ وهو العالَمُ العُلْوِيُّ، وخَلَقَ عالَمًا فِيهِ خَيْرٌ وشَرٌّ وهو عالَمُنا، وهو العالَمُ السُّفْلِيُّ ولَمْ يَخْلُقْ عالَمًا فِيهِ شَرٌّ مَحْضٌ، ثُمَّ إنَّ العالَمَ السُّفْلِيَّ الَّذِي هو عالَمُنا وإنْ كانَ الخَيْرُ والشَّرُّ مَوْجُودَيْنِ فِيهِ لَكِنَّهُ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ الَّذِي خَيْرُهُ غالِبٌ، فَإنَّكَ إذا قابَلْتَ المَنافِعَ بِالمَضارِّ والنّافِعَ بِالضّارِّ، تَجِدُ المَنافِعَ أكْثَرَ، وإذا قابَلْتَ الشِّرِّيرَ بِالخَيِّرِ تَجِدُ الخَيِّرَ أكْثَرَ، وكَيْفَ لا والمُؤْمِنُ يُقابِلُهُ الكافِرُ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ قَدْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِحَيْثُ لا يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ أصْلًا مِن أوَّلِ عُمُرِهِ إلى آخِرِهِ كالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والأوْلِياءُ، والكافِرُ لا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِحَيْثُ لا يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ أصْلًا، غايَةُ ما في البابِ أنَّ الكُفْرَ يُحْبِطُ خَيْرَهُ ولا يَنْفَعُهُ، إنَّما يَسْتَحِيلُ نَظَرًا إلى العادَةِ أنْ يُوجَدَ كافِرٌ لا يَسْقِي العَطْشانَ شَرْبَةَ ماءٍ ولا يُطْعِمُ الجائِعَ لُقْمَةَ خُبْزٍ ولا يَذْكُرُ رَبَّهُ في عُمُرِهِ، وكَيْفَ لا وهو في زَمَنِ صِباهُ كانَ مَخْلُوقًا عَلى الفِطْرَةِ المُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْراتِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قالُوا: لَوْلا الشَّرُّ في هَذا العالَمِ لَكانَتْ مَخْلُوقاتُ اللَّهِ تَعالى مُنْحَصِرَةً في الخَيْرِ المَحْضِ ولا يَكُونُ قَدْ خَلَقَ القِسْمَ الَّذِي فِيهِ الخَيْرُ الغالِبُ والشَّرُّ (p-١٥٦)القَلِيلُ، ثُمَّ إنَّ تَرْكَ خَلْقِ هَذا القِسْمِ إنْ كانَ لِما فِيهِ مِنَ الشَّرِّ، فَتَرْكُ الخَيْرِ الكَثِيرِ لِأجْلِ الشَّرِّ القَلِيلِ لا يُناسِبُ الحِكْمَةَ، ألا تَرى أنَّ التّاجِرَ إذا طُلِبَ مِنهُ دِرْهَمٌ بِدِينارٍ، فَلَوِ امْتَنَعَ وقالَ: في هَذا شَرٌّ وهو زَوالُ الدِّرْهَمِ عَنْ مِلْكِي، فَيُقالُ لَهُ: لَكِنَّ في مُقابَلَتِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وهو حُصُولُ الدِّينارِ في مِلْكِكَ، وكَذَلِكَ الإنْسانُ لَوْ تَرَكَ الحَرَكَةَ اليَسِيرَةَ لِما فِيها مِنَ المَشَقَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ راحَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ يُنْسَبُ إلى مُخالَفَةِ الحِكْمَةِ، فَإذا نَظَرَ إلى الحِكْمَةِ كانَ وُقُوعُ الخَيْرِ الكَثِيرِ المَشُوبِ بِالشَّرِّ القَلِيلِ مِنَ اللُّطْفِ، فَخَلَقَ العالَمَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الشَّرُّ، وإلى هَذا أشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَقالَ اللَّهُ تَعالى في جَوابِهِمْ: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] أيْ أعْلَمُ أنَّ هَذا القِسْمَ يُناسِبُ الحِكْمَةَ؛ لِأنَّ الخَيْرَ فِيهِ كَثِيرٌ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهم خَيْرَهُ بِالتَّعْلِيمِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ [البقرة: ٣١] يَعْنِي أيُّها المَلائِكَةُ خَلْقُ الشَّرِّ المَحْضِ والشَّرِّ الغالِبِ والشَّرِّ المُساوِي لا يُناسِبُ الحِكْمَةَ. وأمّا الخَيْرُ الكَثِيرُ المَشُوبُ بِالشَّرِّ القَلِيلِ مُناسِبٌ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] إشارَةٌ إلى الشَّرِّ، وأجابَهُمُ اللَّهُ بِما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ﴾ .
فَإنْ قالَ قائِلٌ: فاللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى تَخْلِيصِ هَذا القِسْمِ مِنَ الشَّرِّ بِحَيْثُ لا يُوجَدُ فِيهِ شَرٌّ. فَيُقالُ لَهُ ما قالَهُ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ يَعْنِي لَوْ شِئْنا لَخَلَّصْنا الخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، لَكِنَّ حِينَئِذٍ لا يَكُونُ اللَّهُ تَعالى خَلَقَ الخَيْرَ الكَثِيرَ المَشُوبَ بِالشَّرِّ القَلِيلِ وهو قِسْمٌ مَعْقُولٌ، فَما كانَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِلشَّرِّ القَلِيلِ وهو لا يُناسِبُ الحِكْمَةَ، لِأنَّ تَرْكَ الخَيْرِ الكَثِيرِ لِلشَّرِّ القَلِيلِ غَيْرُ مُناسِبٍ لِلْحِكْمَةِ، وإنْ كانَ لا كَذَلِكَ فَلا مانِعَ مَن خَلْقِهِ، فَيَخْلُقُهُ لِما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ الكَثِيرِ، وهَذا الكَلامُ يُعَبِّرُ عَنْهُ مَن يَقُولُ بِرِعايَةِ المَصالِحِ: إنَّ الخَيْرَ في القَضاءِ والشَّرَّ في القَدَرِ، فاللَّهُ قَضى بِالخَيْرِ ووَقَعَ الشَّرُّ في القَدَرِ بِفِعْلِهِ المُنَزَّهِ عَنِ القُبْحِ والجَهْلِ.
وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ لِأنَّهُ تَعالى قالَ لِإبْلِيسَ: ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ وهَذا إشارَةٌ إلى أنَّ النّارَ لِمَن في العالَمِ السُّفْلِيِّ، والَّذِينَ في العالَمِ العُلْوِيِّ مُبَرَّءُونَ عَنْ دُخُولِ النّارِ وهُمُ المَلائِكَةُ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ إبْلِيسُ مِنَ المَلائِكَةِ وهو الصَّحِيحُ. وقَوْلُهُ: ﴿أجْمَعِينَ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ.
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا وهو الظّاهِرُ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ حالًا أيْ مَجْمُوعِينَ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ جَعَلَ جَمِيعَ الإنْسِ والجِنِّ مِمّا يَمْلَأُ بِهِمُ النّارَ ؟ نَقُولُ: هَذا لِبَيانِ الجِنْسِ، أيْ جَهَنَّمُ تُمْلَأُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لا غَيْرَ أمْنًا لِلْمَلائِكَةِ، ولا يَقْتَضِي ذَلِكَ دُخُولُ الكُلِّ كَما يَقُولُ القائِلُ: مَلَأْتُ الكِيسَ مِنَ الدَّراهِمِ لا يَلْزَمُ أنْ لا يَبْقى دِرْهَمٌ خارِجَ الكِيسِ، فَإنْ قِيلَ: فَهَذا يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ ضَيِّقَةً تَمْتَلِئُ بِبَعْضِ الخَلْقِ. نَقُولُ: هو كَذَلِكَ، وإنَّما الواسِعُ الجَنَّةُ الَّتِي هي مِنَ الرَّحْمَةِ الواسِعَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
ولَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا﴾ أنَّهم لا رُجُوعَ لَهم قالَ لَهم إذا عَلِمْتُمْ أنَّكم لا رُجُوعَ لَكم.
{"ayah":"وَلَوۡ شِئۡنَا لَـَٔاتَیۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَـٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّی لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











