الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهم إلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهو مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ بَيَّنَ أنَّ مُجادَلَتَهم مَعَ كَوْنِها مِن غَيْرِ عِلْمٍ فَهي في غايَةِ القُبْحِ، فَإنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَدْعُوهم إلى كَلامِ اللَّهِ، وهم يَأْخُذُونَ بِكَلامِ آبائِهِمْ، وبَيْنَ كَلامِ اللَّهِ تَعالى وكَلامِ العُلَماءِ بَوْنٌ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ ما بَيْنَ كَلامِ اللَّهِ وكَلامِ الجُهَلاءِ ؟ ! ثُمَّ إنَّ هَهُنا شَيْئًا آخَرَ وهو أنَّهم قالُوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ يَعْنِي نَتْرُكُ القَوْلَ النّازِلَ مِنَ اللَّهِ ونَتَّبِعُ الفِعْلَ، والقَوْلُ أدَلُّ مِنَ الفِعْلِ لِأنَّ الفِعْلَ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ جائِزًا، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ حَرامًا، وهم تَعاطَوْهُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ واجِبًا في اعْتِقادِهِمْ، والقَوْلُ بَيِّنُ الدَّلالَةِ، فَلَوْ سَمِعْنا قَوْلَ قائِلٍ افْعَلْ ورَأيْنا فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلى خِلافِ قَوْلِهِ، لَكانَ الواجِبُ الأخْذَ بِالقَوْلِ، فَكَيْفَ والقَوْلُ مِنَ اللَّهِ والفِعْلُ مِنَ الجُهّالِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهم إلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ اسْتِفْهامًا عَلى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ في الإنْكارِ يَعْنِي الشَّيْطانَ يَدْعُوهم إلى العَذابِ واللَّهَ يَدْعُو إلى الثَّوابِ، وهم مَعَ هَذا يَتَّبِعُونَ الشَّيْطانَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهو مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ لَمّا بَيَّنَ حالَ المُشْرِكِ والمُجادِلِ في اللَّهِ بَيَّنَ حالَ المُسْلِمِ المُسْتَسْلِمِ لِأمْرِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ﴾ إشارَةٌ إلى الإيمانِ، وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ مُحْسِنٌ﴾ إشارَةٌ إلى العَمَلِ الصّالِحِ، فَتَكُونُ الآيَةُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [سبأ: ٣٧] . وقَوْلُهُ: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ أيْ تَمَسَّكَ بِحَبْلٍ لا انْقِطاعَ لَهُ، وتَرَقّى بِسَبَبِهِ إلى أعْلى المَقاماتِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ هَهُنا: ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ﴾ وقالَ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١١٢] فَعَدّى هَهُنا بِـ”إلى“ وهُناكَ بِاللّامِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أيْ جَعَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سالِمًا، أيْ خالِصًا، والوَجْهُ بِمَعْنى النَّفْسِ والذّاتِ، ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ﴾ يُسْلِمُ نَفْسَهُ إلى اللَّهِ كَما يُسْلِمُ واحِدٌ مَتاعًا إلى غَيْرِهِ، ولَمْ يَزِدْ عَلى هَذا، ويُمْكِنُ أنْ يُزادَ عَلَيْهِ ويُقالَ: مَن أسْلَمَ لِلَّهِ أعْلى دَرَجَةً مِمَّنْ يُسْلِمُ إلى اللَّهِ؛ لِأنَّ إلى لِلْغايَةِ، واللّامَ لِلِاخْتِصاصِ، يَقُولُ القائِلُ: أسْلَمْتُ وجْهِي إلَيْكَ أيْ تَوَجَّهْتُ نَحْوَكَ، ويُنْبِئُ هَذا عَنْ عَدَمِ الوُصُولِ؛ (p-١٣٥)لِأنَّ التَّوَجُّهَ إلى الشَّيْءِ قَبْلَ الوُصُولِ، وقَوْلُهُ: ﴿أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ، ولا يُنْبِئُ عَنِ الغايَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى المَسافَةِ وقَطْعِها لِلْوُصُولِ، إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ: في البَقَرَةِ قالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] فَقالَ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: ﴿تِلْكَ أمانِيُّهم قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ﴾ [البقرة: ١١١] ثُمَّ بَيَّنَ فَسادَ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أيْ أنْتُمْ مَعَ أنَّكم تَتْرُكُونَ اللَّهَ لِلدُّنْيا وتُوَلُّونَ عَنْهُ لِلْباطِلِ، وتَشْتَرُونَ بِآياتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا تَدْخُلُونَ [ النّارَ ] ومَن كانَ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ لا يَدْخُلُها، هَذا كَلامٌ باطِلٌ، فَأوْرَدَ عَلَيْهِمْ مَن أسْلَمَ لِلَّهِ، ولا شَكَّ أنَّ النَّقْضَ بِالصُّورَةِ الَّتِي هي ألْزَمُ أوْلى، فَأوْرَدَ عَلَيْهِمُ المُخْلِصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أمْرٌ إلّا اللَّهَ، وقالَ: أنْتُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وهَذا لا يَدْخُلُها، ثُمَّ بَيَّنَ كَذِبَهم، وقالَ: “ بَلى “ وبَيَّنَ أنَّ لَهُ فَوْقَ الجَنَّةِ دَرَجَةً وهي العِنْدِيَّةُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [البقرة: ١١٢] وأمّا هَهُنا أرادَ وعْدَ المُحْسِنِ بِالثَّوابِ والوُصُولِ إلى الدَّرَجَةِ العالِيَةِ، فَوَعَدَ مَن هو دُونَهُ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَن هو فَوْقَهُ بِالطَّرِيقِ الأوْلى، ويَعُمَّ الوَعْدُ، وهَذا مِنَ الفَوائِدِ الجَلِيلَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ أوْثَقُ العُرى جانِبُ اللَّهِ، لِأنَّ كُلَّ ما عَداهُ هالِكٌ مُنْقَطِعٌ، وهو باقٍ لا انْقِطاعَ لَهُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ يَعْنِي اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةٍ تُوصِلُهُ إلى اللَّهِ، وكُلُّ شَيْءٍ عاقِبَتُهُ إلَيْهِ، فَإذا حَصَلَ في الحالِ ما إلَيْهِ عاقِبَتُهُ في عاقِبَتِهِ في غايَةِ الحُسْنِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مَن يَعْلَمُ أنَّ عاقِبَةَ الأُمُورِ إلى واحِدٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ إلَيْهِ الهَدايا قَبْلَ الوُصُولِ إلَيْهِ يَجِدُ فائِدَتَهُ عِنْدَ القُدُومِ عَلَيْهِ، وإلى هَذا وقَعَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٠] .
{"ayahs_start":21,"ayahs":["وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِیرِ","۞ وَمَن یُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ"],"ayah":"۞ وَمَن یُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق